عبد المنعم سعيد -
في شأن الذي جرى ـ وسيجري ـ في لبنان !
تتداخل في لبنان حاليا ثلاثة أنواع من المآسي، وفي تداخلها وتفاعلها فإن الجرح اللبناني ـ على الأرجح ـ سوف يستمر معنا لفترة طويلة قادمة آخذا أشكالا متنوعة، ولكنه في كل الأحوال سوف يكون داميا ومؤلما. والمأساة الأولى إنسانية نشهدها في تلك الفواجع التي تمر أمام أعيننا لقتلى وجرحى ونازحين تطاردهم أداة القتل الإسرائيلية الإجرامية البربرية المدمرة بلا رحمة ولا هدف عسكري معلوم، اللهم إلا بث الرعب والردع في العقول والقلوب لفترة طويلة قادمة. وجاء المشهد نتيجة تحول جوهري في الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي قام لعقود طويلة على المواجهة المسلحة بين الجيوش التي حاول كل طرف منها استهداف الآلة العسكرية للطرف الآخر؛ ولكن مع غياب القوات النظامية على الطرف العربي وحضور الجماعات الفدائية على أنواعها المختلفة أصبح السكان والطاقة الاقتصادية والبشرية في العموم هي هدف كسر إرادة الخصم. وفي المعركة الراهنة استهدف الطرفان (إسرائيل وحزب الله) كل حسب طاقته السكان المدنيين في لبنان وشمال إسرائيل؛ ولكن لبنان حمل عبء الكارثة العظمى لأنه من ناحية لم يكن يستعد لحرب وإنما لفصل صيف تهل فيه نسائم البحر على سائحين ومصطافين لهم هلة وطلة وحظ، ومن ناحية أخرى لأن الطرفين ـ ومن وراءهما ـ اختاراها ميدانا للمواجهة والصدام.
المأساة الثانية جاءت نتيجة سوء التقدير للموقف كله، ومن الذائع الآن أن حزب الله أساء التقدير تماما إلى الدرجة التي لم يستوعب فيها الدرس القريب للغاية في فلسطين حينما نجم عن خطف جندي واحد غزو كامل لا يزال مستمرا. وحسب قول السيد حسن نصر الله في حديث لقناة «الجزيرة» فإن توقعه كان أن يكون الرد على عملية الخطف مجرد عملية تأديبية لبضعة أيام، ولكن الموقف «العربي» و «الدولي» كان هو الذي حول المعركة إلى حرب شاملة. ولكن ذلك نوع من التملص والتخلص من المسؤولية وإلقائها على أكتاف آخرين لا يليق بشيخنا، فقد كان رد الفعل الإسرائيلي متوقعا وصريحا وواضحا لكل من قرأ ومن سمع عن إسرائيل ـ وفلسطين ـ وما يجري فيها. ولكن ـ وللحق ـ فإن حزب الله لم يكن وحده الذي أخطأ الحساب، بل أن إسرائيل هي الأخرى أخطأت خطأ فادحا عندما تصورت إمكانية الانتصار في معركة من هذا النوع. فعلى المستوى التكتيكي فإن هناك استحالة للانتصار في معركة من هذا النوع حيث يكون النصر الإسرائيلي حادثا عندما يتم استئصال حزب الله، ويكون نصر حزب الله قائما عندما يفلح في «التصدي» وهي كلمة يكفي فيها بقاء مقاتل واحد مع صاروخ واحد قابل للإطلاق. أما على المستوى الاستراتيجي الأوسع فإن حلم القبول بإسرائيل في المنطقة بالإغراء أو بالعنف سوف يتم تأجيله لفترة طويلة، فمن يقبل ببلد تتحول آلته العسكرية الغاشمة إلى أداة طحن لعظام العرب ؟!.
المأساة الثالثة جاءت من الإعلام الكثيف الذي نقل تفاصيل التفاصيل عن مأساة كل طرف، وكان ذلك في حد ذاته كافيا لتصلب المواقف؛ ولكن المقابلات الصحفية استنطقت وأكدت كل يوم على المواقف الأساسية لكل طرف، ما جعل التفاوض والمساومة مستحيلين. فبعد كل ما قال ووعد به السيد حسن نصرالله أنه لن يسلم الجنديين الإسرائيليين حتى ولو جاء له الكون كله إلا من خلال مفاوضات غير مباشرة، وعلى أساس من تبادل الأسرى، وبعد كل ما قاله أولمرت في عشرات المناسبات أنه لن يقبل نهاية للمعارك إلا بعد تسليم الجنديين ونزع سلاح حزب الله، فإن العقدة تم إحكامها في مباراة لا تتقطع فيها أنفاس الأطراف إلا بعد فترة طويلة.
النتيجة النهائية لتداخل المآسي الثلاث هي جرح مفتوح في جسد المنطقة لا يلبث أن يتقيح ويمتلئ بالصديد والعفن، وهي السمة الغالبة لكل صراعات المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية. وما عليك إلا مراجعة خريطة الشرق الأوسط كي تجد جراحا كثيرا لا تقفل ولا تندمل في أفغانستان والعراق والصومال والسودان، وبالطبع فلسطين، والآن لبنان، وسوف تجد الدماء نازفة أحيانا بغزارة، وأحيانا نقطة نقطة، ولكن النتيجة في النهاية واحدة، وهي أن جسد المنطقة النازف لا يفقد حيويته فقط، بل إنه على الأرجح سوف يعاني من نوبات عصبية وحمى مزمنة خلال السنوات القليلة المقبلة.
لقد جرى ما جرى في المنطقة ـ والآن يمتد إلى لبنان ـ نظرا لغياب مشروع للدولة الحديثة في المنطقة يستطيع التعامل مع العالم في تركيبته الجديدة في القرن الواحد والعشرين. وربما كانت محاولة السلام العربي ـ الإسرائيلي خلال التسعينيات هي آخر المشاريع التي حاولت بناء المنطقة مع بناء السلام، ولكن المهمة فشلت لأنها لم تجد ما يكفي من المتحمسين، ومع الفشل جاء الفراغ، ومع الفراغ تمددت القوى الأصولية بأنواعها المختلفة لكي يبتلع الصهيوني منها أرض فلسطين أما الإسلامي فقد وصلت عملياته إلى قلب نيويورك. ومن يومها لا عاد مشروع ولا بناء ولكن حرب مستمرة لم تعرف الإنسانية مثيلا لها من قبل، وإن كانت ـ كما هو الحال في كل الحروب ـ نتائجها معروفة بالقتل والدمار. فكان الهجوم الأمريكي ـ والغربي ـ الكبير الذي امتد في أركان المعمورة بالمراقبة والمخابرات والمطاردة والمعارك التي دارت في أفغانستان والعراق وحتى الفلبين، والآن بالوكالة الإسرائيلية في فلسطين ولبنان.
وما نشهده الآن هو الهجوم المضاد.. فالصحوة التي جاءت لتنظيم طالبان في أفغانستان أفسدت النصر الأمريكي السابق، وتولى أحمدي نجاد للسلطة في إيران أحل السلاح النووي مكان حوارات خاتمي الشهيرة، وفي العراق وصلت أصوليات إلى السلطة في بغداد عن طريق الانتخاب، وبقيت أصوليات أخرى محاربة على الجانب الآخر في المعارضة، ومنذ شهور وصلت حماس إلى السلطة في فلسطين وجماعة الإخوان المسلمين بكثافة إلى البرلمان في مصر، ومنذ أسابيع كانت المحاكم «الشرعية» قد اجتاحت الصومال لتغير من توازنات قبلية وتضعها في قلب «صراع الحضارات»!.
إنها حرب شاملة تعددت مسارحها حتى وصلت إلى لبنان، وفي كل مسرح فإن الشخوص قد تختلف، كما أن «الحبكة» قد تتنوع، ولكنها في كل الأحوال تقوم على صراع أقدار تقف على الحافة الدامية بين الحياة والموت. وفي العادة فإن أبطال المسرحية ـ والآن الإعلام التلفزيوني ـ يكونون من المحاربين مثل جورج بوش وأسامة بن لادن وحسن نصر الله وايهود أولمرت، ولكن المسرحية تنتظر دوما بطلا يأتي من خارجها بقصة جديدة ومختلفة تغير مسار القتال والنزال، ويخلق في النهاية ما يبشر بنهاية سعيدة. وفي الوقت الراهن فإن مصر والسعودية ـ ومعهما آخرون ـ قدمتا تحفظا على مسار المعركة، وطرحتا بصراحة ـ وشجاعة أيضا ـ أن ما يجري في لبنان هو سعي لساحة صراع دامية مزمنة أخرى تضاف لسابقاتها من الساحات والجراح التي لا تغلق ولا تندمل. ولكن تحدي المسار الحالي لا يكفي، ولا بد من مسار بديل يوقف مد آلة طحن العظام العظمى التي يبدو أنها لا تشبع أبدا ولا تكف عن التمدد وما لم تقف الآن فلن يسلم منها أحد. فهل يخرج الآن بطل جديد، رحم الله أنور السادات ؟!.
الشرق الاوسط