الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: الأحد, 24-نوفمبر-2024 الساعة: 12:44 ص
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
السبت, 29-يوليو-2006
عادل حمودة - الاهرام المصرية -
هكذا تكلم نصر الله‏!‏
من شحوب المرارة المزمنة ولد زعيم يشبه أئمة المساجد اسمه حسن نصرالله‏..‏ من تحت حرائبنا النفسية وعظامنا المكسورة وأحلامنا المهضومة خرج‏..‏ لم يكن أحد في انتظاره علي رصيف محطة التاريخ‏..‏ نزل وحده من سلم القطار‏..‏ لم يصافح أحدا‏..‏ ولم يكلم أحدا‏..‏ كان يحمل حقيبة سفر كبيرة محشوة بالمتفجيرات‏..‏ فجرها في جميع المدن العربية‏..‏ وفجر نفسه معها‏.‏

قبل أن يظهر علي خشبة المسرح كان الزمن العربي قد انفصل نهائيا عن زمن الآخرين‏..‏ وأصبح يدور حول نفسه‏..‏ وكان العقل السياسي العربي قد تعب من التقصي والكشف والبحث عن الحقيقة فقدم استقالته وجلس علي المقهي يمارس الخطابة والثرثرة ولعبة الدومينو‏.‏ كان أول ما فعله حسن نصر الله هو البحث عن زمن عربي آخر‏..‏ ورمانا جميعا من وراء مكاتبنا‏..‏ وقلب مقاعدنا‏..‏ وكسر طواحين الهواء التي كانت تدور في داخلنا ولا تطحن شيئا‏..‏ وكنس مستعمرات العنكبوت في رؤوسنا واغتال الخرافات التي تحكمنا ولا تحركنا‏.‏ لكن‏..‏ مايلفت النظر أن ذلك القائد المقاتل الذي يتحدث بهدوء وكأنه شاعر متنكر في ثياب مرجعية شيعية لم يدرس فنون الحرب ولم يتخرج في كلية عسكرية ولم يضع وقته في النظريات السياسية والحزبية ومتاهات الحلول السلمية‏..‏ وإنما وجد أن الموت بشرف أروع من النوم في جزمة إسرائيلية‏..‏ فأطلق صواريخه‏..‏ وغير قواعد اللعبة‏..‏ ورسم خريطة جديدة للمنطقة كلها‏.‏ وقد زرت مسقط رأسه في الجنوب‏..‏ قرية البازروية القريبة من مدينة صور‏..‏ لكني لم أعثر علي بيته‏,‏ فبيته كان عشة أطاح بها الزمن كان يسكنها مع أبيه‏..‏ بائع الخضار والفاكهة السريح‏..‏ وزرت أول م
كان سكن فيه عندما انتقل إلي بيروت في منطقة الكارنتينا واحدة من أشهر المناطق العشوائية هناك حيث لا شئ يملكه سكانها سوي المواظبة علي الصلوات الخمس وقراءة الكتب الشيعية والبحث عن فرصة للاستشهاد‏,‏ فالموت هو الفضيلة الوحيدة المتاحة‏..‏ والمباحة‏.‏

وفيما بعد سمعت منه وهو في قلعته الحصينة وقد أصبح أمينا لحزب الله‏:‏ أنه جاء سيرا علي الأقدام من بلدته في الجنوب إلي العاصمة بيروت‏..‏ لا مال في جيبه‏..‏ ولا زاد في جرابه‏..‏ كل ما كان يملكه صورة طبعها في عينيه للإمام موسي الصدر الذي اختفي في ظروف مازالت غامضة‏..‏ كان حلمه الخرافي أن يراه ويقبل يده‏..‏ وكان الطريق الوحيد المفتوح أمامه كي يصل إلي ما يريد هو أن ينضم إلي حركة أمل الشيعية التي ضمت المهمشين والمقهورين والبائسين والباحثين عن موقع بارز في مجتمع تجاوزت سلطة المليشيات فيه سلطة المؤسسات والحكومات‏.‏

لم يستمر لقاؤه الأول والأخير بالإمام موسي الصدر أكثر من ثلاث دقائق سافر بعده وبأمر منه وبتوصية من الإمام باقر الصدر إلي النجف‏..‏ مدينة الشيعة المقدسة في العراق‏..‏ رحل إليها كي يدرس العلوم الدينية بعد أن قيل له‏:‏ أنت لا تصلح للقتال يا ولدي‏..‏ جاهد بالعلم‏..‏ واترك السلاح لأصحابه‏..‏ وهناك التقي بمرجعيته الفقهية‏..‏ عباس موسوي وهو لبناني أيضا من إقليم البقاع لكنه كان أشد صرامة من العراقيين والإيرانيين فأجبره علي أن ينهي دراسة خمس سنوات في سنتين‏..‏ وكان ذلك لصالحه فقد كان كل تلاميذه تحت مراقبة نظام صدام حسين الذي كان مستعدا لقتلهم أو اعتقالهم‏..‏ خاصة بعد نجاح الثورة الخومينية في اسقاط عرش الشاه في إيران‏..‏ وبداية عصر التوفيق بين الدين والسياسة‏..‏ والتغيير بالبندقية والكتب المقدسة‏.‏

هرب حسن نصر الله من العراق وعاد إلي لبنان ليجد أمامه كارثة سياسية من العيار الثقيل‏..‏ لقد اجتاحت القوات الإسرائيلية بلاده‏..‏ ووصلت إلي قلب عاصمتها وراح جنرالاتها يحتسون القهوة في الحمراء ويستمتعون بصيد السمك في الروشة ويلعبون البلاك جاك في كازينو الجبل‏..‏ وتشكلت جبهة انقاذ وطني قادتها الكتائب المناصرة للعدو‏..‏ خرج عليها عباس موسوي وحسن نصر الله الذي أسس جماعة أنصار الثورة الإسلامية التي سرعان ما خرجت من جلدها أكثر من مرة حتي أصبحت حزب الله‏.‏ فيما بعد قال لي‏:‏ إن المقاومة الحقيقية لا تكتب إلا علي ضوء الحرائق‏..‏ وتحت تأثير ارتفاع درجات الحرارة المباغتة التي تضاعف من حجم الغضب في عروقنا‏..‏ والغضب نبات متوحش ينبت في أقسي طروف الملوحة والعطش ويقدر علي الصمود بينما كل نبتات الصوبة تموت بسهولة‏.‏

سنوات طويلة مرت علي ذلك اللقاء الذي جري بيني وبينه تغيرت الدنيا من حولنا لكنه لم يتغير بقي علي هدوئه وسكينته وثقته في نفسه التي رأيته عليها وهو يتحدث أخيرا إلي قناة الجزيرة كل ما تغير فيه شعيرات بيضاء نبتت في لحيته‏..‏ وزيادة واضحة بدت في سمك نظارته‏..‏ وسمنة قليلة استسلم لها لكن ذلك كله لم يضعف من شدة الاسطورة بل زاد من توهجها‏.‏

ولدت الأسطورة عندما نجح حسن نصر الله في أن يجبر الجيش الإسرائيلي علي الانسحاب من الجنوب اللبناني وقبول مفاوضات تبادل الأسري عن طريق غير مباشر‏..‏ كانت المرة الأولي بعد حرب أكتوبر التي يترك فيها العدو المتغطرس أرضا عربية محتلة بالقوة والقسوة والقنبلة‏..‏ فما أخذ الغضب لا يسترد إلا بالعنف‏..‏ هذا هو القانون الذي أسس الدولة الصهيونية والقانون الوحيد الذي سيخلصنا منها‏.‏

لقد تنازلت إسرائيل عن غرورها بعد أن طالتها صواريخ حزب الله وأجبرت شعبها علي الاقامة الجبرية في بطون الخنادق بعيدا عن سطحها الذي خلا من الحياة ليذكرنا بتلك السخرية الشهيرة التي تطالب بآخر يهودي يغادر مطار تل أبيب أن يطفئ الأنوار‏.‏

العين بالعين‏,‏ والسن بالسن‏,‏ والإسرائيلي بالعربي‏,‏ والكاتيوشا بالدبابة‏,‏ والبادئ أظلم‏..‏ لقد تغيرت قواعد اللعبة‏..‏ وتمزقت الخريطة القديمة‏..‏ وخرجت من حجرات مظلمة مجهولة خرائط جديدة‏..‏ مثيرة تتحدث مرة عن شرق أوسط كبير‏..‏ وتتحدث أكثر من مرة عن شرق أوسط جديد‏..‏ تهاوت القومية العربية التي ماتت بعد خمسين سنة من تجسدها علي أرض الواقع بعد حرب السويس‏..‏ وبرزت فيها الأمة الإيرانية‏(‏ الفارسية‏)‏ التي خرجت وهي تحمل في يد قنبلة نووية وفي اليد الأخري القضية الفلسطينية‏..‏ انتقلت الحروب الإقليمية من الخانة الوطنية إلي الخانة الدينية‏..‏ أصبح المصحف والانجيل في مواجهة التوراة والتلمود وأصبح آيات الله في مواجهة الحاخامات‏.‏

ولا جدال أن صورة الخريطة الجديدة لن تصبح نهائية إلا بعد أن تهدأ المعارك وتنتهي المدافع ويكف الغبار عن الصراخ‏..‏ وساعتها‏..‏ لن يكون حزب الله قائما‏..‏ مستمرا فقد أدي ما عليه وفتح الباب للسلطة المتشددة في إيران كي تخرج من عزلتها وتعبر حدودها إلي عالم عربي أرحب وأوسع يعاني من فراغ في القيادة الجماعية التي تقدر علي التفكير والتغيير‏..‏ وسيختفي حسن نصر الله من بيروت ليقضي بقية عمره في مكان مافي طهران‏..‏ يصلي ويصوم ويكتب مذكراته وينتظر عودة الإمام الغائب‏.‏ والحقيقة أن فرح اللبنانيين بما أصاب إسرائيل من انكسار لايخلو من عتب أكيد علي حزب الله‏..‏ فقد دفعوا هم أيضا الثمن‏..‏ ولا يمكن التكهن بما ستكون عليه العلاقة بين الجانبين بعد أن تبرد المدافع‏..‏ لكن المؤكد أن تلك العلاقة لم تكن علي مايرام بعد أن قتل رفيق الحريري وانقسم اللبنانيون فيما بينهم مرة أخري‏..‏ فقد كف حزب الله عن المقاومة وأصبح طرفا في المعادلة الداخلية‏..‏ فتغيرت نظرة اللبنانيين له‏.‏ وما ضاعف من أزمته السياسية تلك المظاهرات المدمرة التي خرجت تعبر عن رفضها للسخرية من حسن نصر الله في برنامج تليفزيوني شهير لم يغضب منه كل زعماء الطوائف والأعراق الذين سب
ق أن سخر منهم‏..‏ ومنذ ذلك الوقت قبل نحو شهرين تقريبا والحكومة اللبنانية تتساءل‏:‏ كيف تصبح لها اليد الطولي في بلادها؟‏.‏

وقد جاءت العملية الأخيرة التي خطف فيها حزب الله جنديين إسرائيليين من داخل الحدود الشمالية لتكون الحرب التي نعيشها الآن‏,‏ وهي حرب استرد فيها حزب الله سمعته العسكرية والسياسية والشعبية‏,‏ لكن لا أحد يعرف إلي أي مدي سيستمر فوق الأعناق؟‏..‏ إلي أي مدي سيصبح رمزا للصمود؟‏..‏ خاصة أن هناك قوي إقليمية ودولية قادرة علي أن تحول المقاومة إلي خيانة وتحول الأبطال المنتصرين إلي أبطال مهزومين‏..‏ كل الذين تابعوا سيرة جمال عبدالناصر يخشون علي حسن نصر الله من أن يلقي المصير نفسه‏.‏

لقد دارت عجلة التغيير بالدم ولن يقدر أحد علي إيقافها إلا عند نقطة توازن تشعر فيها الشعوب العربية أن حياتها قد استردت كرامتها وشجاعتها ومبرراتها‏.‏





أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر