علوان مهدي الجيلاني -
البر دوني شاعر بصير وتجربة لا يمحوها الزمن
في أغسطس الحالي تمر سبع سنوات علي رحيل واحد من أكبر قامات الشعر العربي علي مدي التاريخ.. إنه عبدالله البردوني الذي كان أكثر الشعراء 'إبصارا' وقدرة علي النفاذ والحضور لأكثر من نصف قرن من الحياة العاصفة.
منذ رحيل شاعر اليمن ومفكرها الكبير عبدالله البردوني.. والمشهد الثقافي اليمني يعيش حالة يتم واضحة.
كان البردوني إلي جانب ثقله الهائل ابداعيا وثقافيا وسياسيا أيضا يتميز بشخصية كارزمية قوية الحضور في أوساط الناس ووجدانهم.
أما بالنسبة للمبدعين والمثقفين اليمنيين.. فقد كان أشبه بالارصدة الذهبية التي تودع في البنوك لتغطي العملات الورقية المتداولة في السوق.
ولد عبدالله صالح بن حسن الشحف البردوني في قرية البردون من قبيلة بني حسن ناحية الحد شرق مدينة ذمار 'تسعون كيلو مترا جنوب العاصمة صنعاء' سنة 1928م تقريبا ومنذ اصطدامه الأول بالحياة وجد نفسه فقيرا في أسرة فقيرة في قرية فقيرة في بلد فقير ومتخلف تفترسه الأمراض والأوبئة والمجاعات حتي أن أمه علقت علي انضمامه إلي أسرتها بالقول: أصبنا ثلاث مصائب لم ينزل المطر ومات الجمل وولد عبدالله'!
ولم تكد أقدامه تتعرف علي دروب القرية الوعرة حتي داهمه العمي إثر جائحة من جوائح الجدري الكبري.. وفيما كانت الأسرة مصعوقة بعمي الولد الذي كان وجوده عبئا فصار بعاهته عبئين!.. كان الصغير المسكين الذي لم تعد ذاكرته تحتفظ من نورها الذاهب إلا بأطياف اللون الأحمر يرفض الاعتراف بماجد علي حياته فكان يجاري المبصرين من أترابه في دروب القرية وفي المعلامة 'الكتاب' مصرا علي تجاوز واقعه رغم ارتطامه المتكرر بالصخور وسقوطه في الهوات وتعرضه لخطر المواشي السالبة والابقار الناطحة وما يخلفه كل ذلك من أوجاع في القدمين وشروخ وكدمات في الجبهة والرأس.
انتقل البردوني من قريته الي قرية أخري في المنطقة اسمها 'المحلة' ليكون تحت رعاية أخته 'ظبية' وفي 'معلامة' تلك القرية أكمل حفظ القرآن، ثم توجه الي مدينة ذمار وكان كل من حوله يخططون له ليتأهل في مساجد ذمار لما ينفع انسانا في مثل حالته يناسبه أن يكون مقرئا أو إماما لجامع. ولكن الفتي البائس كان يتميز أيضا بذكاء حاد الي جانب ظرف وفكاهة وسخرية لاذعة.. كانت دائما تلفت إليه الانظار وفي المدرسة الشمسية أهم معالم ذمار في ذلك الوقت وإحدي أهم مدارس العلم التقليدية في اليمن درس البردوني القرآن مجودا ودرس النحو والبلاغة والفقه وأصول الدين وبدأ الشعر هاجيا يصطدم بالناس والسلطة بحدة عنف واحتجاج تقوده في النهاية إلي السجن الذي حل فيه تسعة أشهر عقب فشل الحركة الدستورية سنة 1948م وبدخوله السجن ثبت البردوني رغبته الأولي في أن يختلف ويغاير ويتميز مبدعا ومثقفا وقبل ذلك مواطنا حقيقيا بيد أن التميز الحقيقي سيبدأ بعد رحيله من ذمار إلي العاصمة صنعاء.
***
بداية من العام 1949م عام رحيل البردوني من ذمار إلي صنعاء عقب خروجه من سجن الإمام وحتي نهاية أغسطس من عام 1999م يوم رحيل جسده عن الدنيا.
شكل البردوني حالة خاصة في المشهد الابداعي والثقافي في اليمن خاصة والعربي إلي حد كبير وان كانت الجغرافيا قد ظلمته كثيرا كما ظلمت غيره من المبدعين اليمنيين فهو لم يكن ابن القاهرة أو بغداد أو بيروت أو دمشق وهي مراكز الثقافة الاكثر نشاطا في دول المركز المستأثرة بالاعلام والحركة الابداعية والثقافة الاكثر نشاطا وتماسا مع العالم الواسع ولكنه ابن اليمن البلد الاكثر هامشية والتي دخلت القرن العشرين وهي تجهل عن العالم كل شيء وخرجت منه وقد عرفت عن العالم أشياء كثيرة دون أن يعرف العالم عنها إلا النذر اليسير.
قلة من أدباء اليمن تعد بالكاد علي أصابع اليد الواحدة كسرت حاجز العزلة اليمنية ووصلت بأصواتها إلي العالم اقصد العالم العربي فقط إلا أن البردوني يتميز من بين هذه القلة بكونه لم يصل علي جناحين من ابداع وسلطة بل وصل علي جناحين من ابداع خالص وثقافة واسعة وحضور قل مثيله.
قطع البردوني الشوط الاول من رحلة نجاحه خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي يناضل علي أكثر من صعيد.. وكان في صراعه ذاك يحاول اكتشاف ذاته واكتشاف العالم من حوله متلفتا في كل اتجاه هاربا من غربته وعزلته التي تفرضها عليه ظروفه الخاصة 'العمي والفقر' شاعرا انه منذور لدور كبير يلعبه اجتماعيا وثقافيا وسياسيا ايضا ومعني هذا تحقيق وجود انساني أفضل من الوجود الذي عادة ما كان يؤول اليه أمثاله في ظروف مثل ظروف اليمن آنذاك.
وكان كل ذلك يتجلي في قصائده قلقا وتأملا وتساؤلا وتبرما بأوضاع البؤس والحرمان التي يعيشانها معا هو والوطن.
الشاعر الأعمي
فعن بؤسه وحرمانه يقول في احدي نفثاته الحادة:
يا حياتي ويا حياتي إلي كم
أحتسي من يديك صابا وعلقم
لم أجد ما أريد حتي المعاصي
أحرام علي حتي جهنم
وعن وطنه يقول من قصيدة كتبها بمناسبة أحد الأعياد:
يا عيد حدث شعبك الظامي متي
يروي؟ وهل يروي؟ وكيف المورد
فيم السكوت ونصف شعبك هاهنا
يشقي ونصف في الشعوب مشرد
يا عيد هذا الشعب ذل نبوغه
وطوي نوابغه السكون الأسود
ولذلك راح كما قلنا يناضل علي أكثر من صعيد:
ويؤهل نفسه علميا بالمعارف المختلفة 'حتي حاز علي أعلي شهادة تمنحها مدارس اليمن آنذاك 'اجازة تسمي الغاية' تمنحها دار العلوم في صنعاء بعد أن انجز دراسة علوم القرآن والبلاغة والصرف والنحو والمنطق وعلوم الكلام والفقه والتاريخ.
ويؤمن مصادر رزقه مدرسا لأبناء البيوت الكبيرة ثم مدرسا في دار العلوم بعد تخرجه منها.. ويشارك في الحياة الثقافية والسجالات الادبية والتهامس الثوري ويرسخ أقدامه يوما بعد يوم مبدعا عملاقا ومفكرا كبيرا منذ البداية من خلال كتاباته الكثيرة التي تذاع في الناس.. عبر الاذاعة والصحف والمحافل والملتقيات.
ويسعي للتأسيس لحياة أسرية 'توج مسعاه بالزواج من زوجته الاولي سنة 1957م
ولم يرفع العقد الخمسيني اشرعته إلا وقد صار الشاعر الأعمي حديث كل الناس وصار الإمام أحمد حميد الدين.. يفتخر انه نبغ في زمانه!
أما عقد الستينيات فقد استهله باصدار أول دواوينه 'من أرض بلقيس' سنة 1961م وكان صدوره حدثا هاما لانه صدر عن المجلس الاعلي للفنون والآداب في مصر ضمن سلسلة الالف كتاب وقد اشرف علي اصداره العقاد ويوسف السباعي وعلي الجندي الذي قدم له مؤكدا علي تفرد البردوني 'بمبانيه ومعانيه' منذ البداية فهو ليس ظلا لأحد ولا صورة من أحد ولعل الصدي الذي احدثه صدور هذا الديوان قد ساعد الي جانب عوامل شخصية وذاتية سبق التطرق اليها وعوامل سياسية واجتماعية ناتجة عن قيام الثورة اليمنية سنة 1962م والحروب التي اعقبتها والتحولات الاجتماعية والثقافية التي صاحبت كل ذلك في احداث انقلابات كبري في وعي البردوني بتجربته الشعرية واختياراته ومواقفه وزوايا رؤيته للذات والواقع والعالم.
بعد الثورة نشط البردوني في تطوير ادواته وإلي جانب ذلك بذل جهدا شعريا كبيرا احتفاء بالثورة في البداية ثم هجاء مرا لانحرافاتها وتمظهرات تلك الانحرافات وهو ما يحفل به ديواناه 'في طريق الفجر' و'مدينة الغد' وهذا الموقف نفسه سيتحول الي سخرية مرة خلال عقد السبعينيات الذي بدأه البردوني بخروجه المدوي الي ساحة المشهد الثقافي والابداعي العربي من خلال الضجة التي احدثتها قصيدته 'أبو تمام وعروبة اليوم' التي ألقاها في مهرجان أبي تمام الذي اقيم في مدينة الموصل العراقية سنة 1971م.
حبيب وافيت من صنعاء يحملني
نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب
ماذا احدث عن صنعاء يا أبتي
مليحة عاشقاها السل والجرب
ماتت بصندوق وضاح بلا سبب
ولم يمت في حشاها العشق والطرب
الذات مرجعا:
بعد مهرجان الموصل صار البردوني حاضرا باستمرار في أغلب مهرجانات الشعر والثقافة العربية. وكانت تلك نوافذ جديدة لقلبه وعقله فقد كانت المثاقفات والاحتكاكات بمختلف المبدعين العرب والاجانب والاطلاع علي التجارب طازجة دافعا أكبر للبردوني الي تجديد أدواته. ولكن البردوني الذي استطاع بذاته تجاوز واقعه البائس دخل في مفارقة مع ذلك الواقع 'واقع الشعب سياسيا واجتماعيا وثقافيا'
الذي لم يستطع تجاوز تردياته وتخلفه وانحرافاته.. الامر الذي جعل الشاعر يقدم ذاته مرجعا في أغلب الاحيان لرؤية كل ما حوله وهذا يفسر أكثر أسباب صراعاته التي احتدمت في تلك الفترة مع السلطة من جهة ومع مثقفين ومبدعين يمنيين من جهة أخري اختلفوا معه في الشكل الشعري والوعي بوظيفة الشعر كما اختلفوا معه في مفاهيم ابداعية ونقدية كثيرة فجرها هو بداية من خلال ما طرحه في أول كتبه غير الشعرية وهو كتاب 'رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه' الذي صدر سنة 1972م هذه الاختلافات قادت الي أو تفرعت عنها خلافات أخري تتعلق بقراءات البردوني المغايرة والصادمة للتاريخ الشعري والثقافي والاجتماعي والسياسي الثوري لليمن وللشخصيات الشاعرة والمثقفة والثائرة.
وليس معني ما ذهبت اليه من اتخاذ البردوني لذاته مرجعا في أغلب الاحيان لرؤية كل ما حوله ان تخطئه فقد كان الرجل نادر المثال من حيث سعة ثقافته وبصيرته الثاقبة المرهفة ووضوح رؤيته وعمقها وامتدادها.
وقد وزع البردوني اراءه وأفكاره في كتبه الادبية والثقافية والفكرية التاريخية التي كان صدورها يتوالي تباعا منذ بداية السبعينيات مثل: 'قضايا يمنية' 'اليمن الجمهوري' 'فنون الادب الشعبي في اليمن' 'الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل' 'الثقافة والثورة في اليمن' 'الزبيري من أول طلقة إلي آخر قصيدة' 'أشتات' هذا غير مجلة الفكر والادب أهم برنامج ثقافي بثته اذاعة صنعاء ويوجد منه في أرشيفها ألف ومائتا حلقة .. ومئات المقالات في الصحف والمجلات وعشرات الحوارات الصحفية التي كان أغلبها يفجر أزمات بين البردوني وقطاعات واسعة من الكتاب الكبار في اليمن.
وعندما أهل عقد الثمانينات كان المثقفون والمبدعون في اليمن ومعهم قطاعات واسعة من المتعلمين والنشطاء في المجال السياسي والمجال الاجتماعي والساحة الاكاديمية يدركون جيدا أن البردوني من خلال التحامه الابداعي والفكري بروح الشعب ودفاعه عن قضايا الناس وتعبيره عن شجونهم واعتصاره ابداعيا لنبضهم الماثل في تراثهم الحكائي والتاريخي وسخريتهم اليومية من الحاكم ومن خلال ما حققه من نجاح فكري واستعصاء علي كل سلطة لا تمثل تطلعات الناس وما قدمه في شعره من تصوير لخيبات آمالهم في قادتهم ومن ادعوا النضال ثم سقطوا وقسوته علي حراس الانظمة الدكتاتورية ووقوفه في وجه قوي التآمر وخفافيش التخلف والظلام ودأبه علي الغوص في ثنايا الواقع وتفسير أمراضه قد صار رمزا يختلط في الحديث عنه حتي عند بعض المثقفين المتميزين الحقيقي بالخيالي وصار الناس يزيدون في كل موقف وحكاية تحكي عنه شأن ما يفعلون حيال شخصياتهم الاسطورية المتوارثة.
ولكن البردوني كان في تلك الفترة مشغولا بمحاولة فهم الانكسارات الكبري.. التي تعرضنا لها محليا وعربيا وانسانيا.. ثائرا علي العصر ورداءته يحاكمه من خلال استدعاء بعض الشخصيات التاريخية مثل شخصية المتنبي.. في قصيدته الشهيرة 'وردة من دم المتنبي' التي ألقاها في القاهرة سنة 1982م في خمسينية شوقي وحافظ واحدثت صدي كبيرا في ذلك الحين:
من تداجي يا ابن الحسين
اداجي أوجها تستحق ركلا ولطما
أشتهي عالما سوي ذا زمانا
غير هذا غير ذا الحكم حاكما
أين أرمي روحي وجسمي وابني
لي كما أستطيب روحا وجسما
أو شاعرا بالغربة يستنطق البيوت والمقاهي والشوارع والامواج والشجر والطير.. في سوداوية وقنوط بالغ المرارة.
لماذا المقطف الداني
بعيد عن يد العاني
لماذا الزهر آني
وليس الشوك بالآني
لماذا يقدر الأعتي
ويعيا المرهف الحاني
أأستفتيك يا أشجار؟
فوقي غير أغصاني
كومض الآل إبراقي
كلغو السكر اعلاني
وكالحدبات اثدائي
وكاللصقات ألواني
أأستفتي أروماتي
متي يطلعن أفناني
أريد مدي اضافيا
ثري من صنع اتقاني
وتاريخا خرافيا
أعلق فيه قمصاني
أيمكن كل مرفوض
وهذا الشوق إمكاني
وفي أثناء كل ذلك يتأمل الظواهر المتلاحقة والانتقال كل يوم من سييء الي أسوأ.. فيوغل في قراءة التاريخ الرسمي والشعبي يستحضر الاشباه والنظائر.
روح الشعب
يتبع السؤال بالسؤال ويضني لماذا بكيف حتي تتحول الاجابة الي سؤال آخر يبحث عن اجابات..
وتشهد هذا الفترة بالذات إلحاح البردوني علي رمز المخلص أو المصطفي أو المهدي المنتظر.. الذي يمثل روح الشعب وزبدة الجماعة ونفس الانسانية.. والخلاصة النقية التي تنعقد عليها الآمال.. بعد أن مال الحال.. تتبلور هذا الفكرة من خلال ورودها في سياقات شعرية كثيرة عنده.. ثم تأخذ سمتها الكامل ثوريا وموقفا ورؤية وروحانية في قصيدة 'مصطفي' احدي أشهر قصائد البردوني حضورا في الوجدان
يا مصطفي أي سر
تحت القميص المنتف
هل أنت أرهف لمحا
لأن عودك انحف
أأنت أأخصب قلبا
لأن بيتك أعجف
لم أنت بالكل أحفي
من كل أذكي وأثقف
***
في التسعينيات كان البردوني يقطف بعض ثمار جهده نال جائزة العويس سنة 1993م.. واحتفي به في أكثر من عاصمة عربية وأوروبية وكان في كتاباته شعرية وغير شعرية مشغولا بهموم الوحدة اليمنية وما نتج عنها.. وكان سنة 1990م بعد قيام الوحدة مباشرة.. قد تنبأ في احدي قصائده بما سيحدث حين قال في احدي قصائده
يا بنت أم الضمد قولي لنا
أي علي سوف يخصي علي
كما كان مشغولا بالاوضاع العربية عقب حرب الخليج الثانية. وبالتحولات العالمية عقب انهيار النموذج السوفيتي وماتبعه وكان مع ذلك لا يكل عن القراءة يوميا يتابع الجديد وبين الحين والآخر يثير معركة بكتاب يصدره أو رأي يقوله في محاضرة أو مقابلة صحفية. وفي آخر حياته نشر سيرته التي مات وقد أشرف علي إكمالها.
***
لا نستطيع ونحن نقرأ البردوني أن نفصل حياته عن ابداعه فكل حياته كانت مكرسة للابداع والكتابة اما فعلا يتحقق شعرا ودراسات مختلفة واما قراءة ومثاقفات يبحث من خلالها عن وجوه للتحقق الابداعي والفكري.. أشكالا ومضامين ورؤي.
اخلاص البردوني لتجربته الشعرية ومثابرته علي تطويرها ومراقبته المرهفة لخطها البياني وانتقالاتها المختلفة وربطها بمختلف التيارات الابداعية منذ القصيدة الجاهلية وحتي قصيدة النثر في احدث نماذجها جعل قصيدة البردوني تبدو من بين كل قصائد شعراء العمود العربي الكبار أحفل بالمغايرة مغايرة الآخرين من شعراء العمود ومغايرة التجربة البردونية ذاتها لنفسها. فاذا كان البردوني قد بدأ في ديوانه الاول 'من أرض بلقيس' عمويا رومانسيا يلتقي مع أمثاله من كبار شعراء العمود العربي الذين يجايلونه أو يسبقونه بجيل أو جيلين كما يمتد من تراث عريق عرفه ووعاه فإنه في ديوانه الثاني 'في طريق الفجر' الذي صدر سنة 1966م كان قد بدأ رحلة المغايرة ومفارقة النموذج المألوف.. تماهيا مع منجز الحداثة الشعرية العاصف ووعيا بضرورة التفرد في خلق امكانيات جديدة للعمود الشعري تبقيه داخل مضمار الحياة غير أن القاريء لن يلمس هذا التوجه واضحا الا في ديوان الشاعر الثالث 'مدينة الغد' الصادر سنة 1970م حيث بدأت قصيدته تفارق الطابع البنائي المعتاد لقصيدة البيت لتبني نفسها بطريقة خاصة من داخل محتواها الخاص.. وقد ازداد ذلك وضوحا في دواوينه اللاحقة 'لعيني أم بلقيس' 1972م 'السفر الي الايام الحضر' 1975م 'وجوه دخانية في مرايا الليل' 1977م 'زمان بلا نوعية ' 1979 'ترجمة رملية لاعراس الغبار' 1983م 'كائنات الشوق الآخر' 1986م 'رواغ المصابيح' 1989م 'جواب العصور' 1991م 'رجعة الحكيم ابن زايد' 1994م وهي دواوين أكد فيها البردوني علي نزوعه الخاص الي التجديد وعمق في تجربته مغايرتها لتراث العمود الذي لم تعد تشبهه بأي حال من الاحوال ومغايرتها لنفسها بالاختلاف الملحوظ من ديوان الي ديوان من حيث التقنيات والتجريب وتخليق الامكانات من داخل اللغة نفسها والاستفادة من فتوحات القصيدة الحديثة بطرق ادائها المتجددة التي تعبر عن الموقف الشعوري بالصورة وتستعمل 'القناع' و'المونتاج' و'المنولوج' و'الديالوج' و'التناص' اضافة الي هدم الموضوع التقليدي لقصيدة البيت وتعبئتها بموضوع جديد وخاص.
علي الجانب الآخر جانب الرؤية والموقف والرسالة داخل القصيدة لعبت ثقافة البردوني الموسوعية ومعتقداته الفكرية ومواقفه ورؤاه الاجتماعية والسياسية والادبية دورا كبيرا في إحداث انتقالات واسعة بتجربة وموضوع قصيدته.. التي كان الثابت الوحيد فيها هو الانسان وضرورة تحقيق شروط انسانيته.. وعيشه الكريم مواطنا حرا لا يظلم ولا يستعبد ولا يستغل ولا يستغفل. ومن أجل ايصال هذا المفهوم الي المتلقي استعمل البردوني اساليب وطرقا شتي كتب القصيدة المحرضة المباشرة.. واستدعي التاريخ في لحظاته المظلمة وشخصياته الظالمة مقابل اللحظات الاخري المضيئة والشخصيات العادلة فيه وتغني بالشخصيات الشعبية الحكيمة واستنطق الارض عن حنوها علي ابنائها مؤنسنا خضرتها وثمارها الممزوجة بعرق الفلاحين ونبض آمالهم واتحادهم بها حياة ومصيرا ومشاعر تتلون بألوان أزهارها:
ذائب في الأرض إني نبتة
من حشاها شكلتني عن براعه
زرعت غصني وفيه انزرعت
اغصنت في قامتي زادت فراعه
وأنا أورقت في أغصانها
صرت من أقباس عينيها شعاعه
***
ورحل البردوني عن اثني عشر ديوانا وثمانية كتب منشورة وديوانين مخطوطين هما: 'رحلة ابن شاب قرناها' و'العشق في مرافيء القمر' وثلاثة كتب مخطوطة هي 'الجمهورية اليمنية' و'الجديد والمتجدد' و'سيرته الذاتية'....
وها هي ذكراه تحل وقد تأكد لكل المثقفين أن البردوني الذي طبع اثر فوزه بجائزة العويس عشرات آلاف النسخ من كتبه التي كان يبيعها مروجو الصحف بأثمان يتساوي ثمن الكتاب فيها بثمن الصحيفة اليومية.. اختفت كل كتبه من المكتبات ولم تطبع لا اعماله الكاملة ولا كتبه ودواوينه التي مات وهي مخطوطة وكأن هناك قرارا بتغييبه واقصاء اسمه عن كل تكريم.
وعجز المثقفون اليمنيون الذين لا حول لهم ولا قوة عن فعل شيء يكسر هذا التعتيم العجيب، أما المثقفون من اهل السلطة القائمون علي اكبر المؤسسات الثقافية والعلمية في اليمن فالاكيد الذي لامراء فيه انهم يقفون وراء محاولات التغييب تلك والاسباب معروفة.
رحم الله البردوني الباقي الذي صدق عليه ما قاله في رثاء صديقه الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري.
انهي طريقا مستهلا طريق
نهاية العنقود بدء الرحيق
ومعه سنغني جميعا رائعته البديعة:
شوطنا فوق احتمال الاحتمال
فوق صبر الصبر لكن لا انخذال
مذ بدأنا الشوط جوهرنا الحصي
بالدم الغالي وفردسنا الرمال
مرة أحزاننا لكنها يا عذاب
الصبر احزان الرجال
المصدر(عناوين ثقافية)