المؤتمرنت - بقلم/ أمين الوائلي -
مقاربة أولى..الهوية الداخلية لبرنامج مرشح الفرقاء الخمسة
الحقيقة أنها ليست أول انتخابات رئاسية تنافسية مباشرة تشهدها بلادنا..والحقيقة هي أن أحزاب المشترك اختارت مرشحها ولم يكن الاختيار إلهياً كما حاول برنامج المرشح الإيحاء وبقوة منذ الأسطر الأولى مفتتح أول:
إلغاء التجربة الانتخابية الأولى عام 99م ليس بالسهولة التي قدمها أو حاولها برنامج مرشح الفرقاء الخمسة.. والقول بأننا ذاهبون إلى »أول انتخابات رئاسية تنافسية مباشرة تشهدها بلادنا« فيه مغالطة واجتراء على تاريخ التجربة الوطنية- بغض النظر عما يراه هذا أو ذاك من الأفراد حول العملية الانتخابية الأولى (99م)- والأصل دائماً أنها كانت أول انتخابات رئاسية تنافسية مباشرة تشهدها الجمهورية اليمنية وشاهدها العالم أجمع.. ويفقد المرشح جزءاً مهماً من المصداقية في الطرح الاعتسافي الذي يلغي التجارب السابقة ويمنح نفسه هالة من النرجسية المفرطة التي لاترى سوى ذاتها كمركز أول وأخير يبتدئ من لدنه فتق الحياة ويعود إليه رتقها.
من حق اليمنيين الذين شاركوا في إنجاح أول انتخابات رئاسية تنافسية بالانتخاب المباشر أن تحترم مشاعرهم ومساهماتهم في التأسيس للتجربة الانتخابية وصولاً إلى هذه الانتخابات التنافسية الثانية.. وليس من حق مرشح أياً كان ومهما ظن نفسه فطناً أو مغايراً لسابقيه أن يلغي تجارب الشعب ومساهمات الجماهير وأدوار البدايات.
لعله سوء الطالع أو ربما كان الفأل السيئ استدرج الفرقاء ومرشحهم إلى استهلال البرنامج الانتخابي بكذبة أو تزوير في حقيقة تاريخية ثابتة، وقد كان في متناولهم التعبير بطريقة أخرى عن رأيهم إن هم أرادوا التقييم أو ما شابه ولكنهم لم يفعلوا بل مباشرة وقعوا في محظور الاستخفاف بالتجارب الوطنية وإهانة مشاعر اليمنيين الذين كان لهم أدوار ومساهمات في تدشين البداية الحقيقية الأولى عام 99م ليمكن بعدها التواصل مع المستقبل والبناء على ماتم وأنجز سلفاً.
من واجبنا أن ننصر مرشح المشترك بردعه عن الوقوع في الأخطاء وجر المزيد من الإهانات والتحريفات لأنه إنما يشكك في مسلمات وتجارب وتاريخ وطن وأمة.. وسنقول كما هي الحقيقة: لولا التجربة الانتخابية الرئاسية المباشرة الأولى (99م) لما أمكن الوصول إلى الثانية..
عملياً مرشح المشترك يقطف خيرات التجربة تلك، ويقف على قاعدتها المتينة.. إلاّ إذا كان المرشح والمستجيرين به لايؤمنون بالتاريخ ولابتجارب الشعوب، ولايقيمون حرمة واحتراماً للجماهير التي صاغت تجارب البدايات واشتركت في صناعة المشروع الديمقراطي خطوة خطوة حتى أمكن التنافس بهذه الصورة وهذا الزخم.
من أسف أن يلجأ المرء إلى تقديم برنامجه باعتساف الحقائق وإعادة البدايات جميعها إلى ذاته باعتبارها أول كل فعل وتحول وتجربة.. وهي عادة سيئة، أسوأ منها ابتذال الأحكام والأوصاف وإلصاقها بالآخر.. بحيث تضمنت مقدمة البرنامج تجريحاً مباشراً وإساءات مبتذلة، كما لو كان التنافس من لازمه الكيد والإفلاس الأدبي، لأن حشر المقدمة لنعوت جوفاء ممجوجة كالاستبداد وسواه، لايحمل في المضمون الموضوعي قيمة تذكر سوى الانتحار السياسي والأخلاقي منذ السطر الأول.
يتساءل المرء عن هوية المادة المتضمنة.. فهل هو برنامج انتخابي تنافسي يليق بمرشح يطلب رئاسة الجمهورية، أم أنها مسودة أولى لمقالة صحفية مطولة من تلك التي تزدحم بها ورقيات المشترك؟!
ولعل البرنامج والطريقة التي عُرض بها لايختلف كثيراً عن مجمل كتابات وتصريحات وأحاديث وندوات المشترك.. بل أكاد أرى وأسمع صوت محمد قحطان يفور ويغلي من الأسطر الأولى.. خصوصاً مواضع الاتهامات والتهييج العاطفي المتكلف.. فهل نحن أمام برنامج اشتركت في صياغته خمسة أحزاب استعارت مرشحاً لها من خارجها، أم أن قحطان تفيَّد المهمة وضمن البرنامج واحدة من حماساته الملتهبة كالمتجمد الشمالي؟!
الجبر والاصطفاء.. العودة إلى مدارس »الكلام«.
ولانزال في الخمسة الأسطر الأولى من مقدمة برنامج مرشح الخمسة.. ولا أرى بداً من سرد حكاية »البابوية« الطافحة كما تتلون في ثنايا الأسطر والكلمات والحبكة المقصودة في الصياغة.
علاوة على اغتصاب وجاهة وقيمة »أو انتخابات تنافسية مباشرة« و»أول بداية حقيقية« و»أول قرار بالوجهة التي بوسعنا جميعاً أن نختارها لوطننا«.. وتوجها جميعاً بـ»وبهذا نكون أول جيل في تاريخ اليمن المعاصر« باعتبار الظروف والاختيار، يتكرس البرنامج على منهجية فوقية استعلائية، تستعدي ماقبلها وإلى جوارها.. وتعتمد أساساً- وضمنياً- على فلسفة »الاصطفاء« أو الاختيار »الإلهي«.. يتضح ذلك بجلاء من السطر الثالث مباشرة: »وأن ممارستنا لهذا الحق تضعنا أمام مسئولية »الاختيار« لتأدية الأمانة إلى أهلها« فها هنا تصدُّر فوقي مفاده »أنا أهلها.. وفقط«.
وليس هذا فحسب، بل تتدخل العقلية التأويلية فتجيِّر النص القرآني الكريم بما يخدم ويدعم هذه الجزئية تحديداً ويمنحها نوعاً من الإلزامية، مباشرة يأتي عقب الاقتباس للتو: (تطبيقاً لقوله تعالى »إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل«..).
والنص القرآني يتعالى على التأولات القصدية لخدمة غرض ما، ورغم ذلك كان ولايزال الناس يأخذون منه مايريدون لما يريدون.. وكلٌّ يجادل بالقرآن وهو واسع حمّال أوجه.
إلاّ أننا هذه المرة أمام حالة- شبه فريدة أو نادرة- لأن مرشح الفرقاء الخمسة يجعل نفسه أولاً في كل شيء، ثم يجعل نفسه أولاً في استحقاق الأمانة وتأديتها إليه.. والأمانة هنا وفقط تعني »السلطة والحكم وأصوات الناخبين« بحسب السياق في المقدمة وبحسب الشاهد والحال.
السطر التالي تظهر فيه »البابوية« على أشدها، وأكثر من ذلك يتحدث المرشح عن نفسه وكأنه جاء عن وعد إلهي أو اختيار »أعلى«..
وتتضح خلال الكلمات نزعة سياسية في سياق أيديولوجية الإخوان التي تطلب الدنيا بالدين، والسلطة بالعقيدة، والحكم بالحاكمية، وهي أيضاً تتذرع بالاسناد الفوقي لاعطاء قيمة زائدة واخفاء نوع من الخطورة التكليفية.. فبعد ما كان المرشح طوال أسابيع ومنذ تسميته مرشحاً، يدفع بأنه أُجبر على المهمة ولم يطلبها أو ينشدها لنفسه، وهي حجة ذات مغزى بالنسبة لفلسفة الجماعات الدينية في طلبها السلطة، حيث شرط الإجبار لازم، وهنا أيضاً يتم يتأول النص الشرعي في السنة المطهرة وتوظيفه بما يعزز فكرة طلب الحكم والإمارة إنما بطريقة لاتخلو من فساد في القسر والتأول الخارج عن حدود الحاجة طالما والواقع يتيح فكرة التنافس وحرية العمل السياسي والوصول إلى الحكم بالطرق المعروفة على مقتضى الزمان والمكان.
أقول فكرة »الإجبار« أو »الجبر« ذات مغزى في الأنفس والمناهج المعروفة سلفاً والتي تتحرى- حسب فهمها وتكييفاتها الخاصة- أن تتوافر على خلفية إسناد شرعية.. منطلقة من الحديث الشريف: لاتطلب الإمارة فإنك إن أعطيتها عن طلب وكِّلت إليها« وفي المقابل إن أعطيتها عن غير طلب »أُعنت عليها« وهذا ما يتأولونه بالجبر.. وهذا أيضاً ما يشدد عليه مرشح المشترك منذ إعلانه تسميته رسمياً، وكأنه كان يخاطب أناساً بعينهم يستثير لديهم هذه العاطفة الدينية لغاية سياسية.
والواقع أن قصة »الجبر« هذه تنعدم شروطها بالمطلق في حالة بن شملان، ولايتسع المجال لذكرها، فالرجل لم يكن مضطراً ولو رفض وأصر لما ناله سوء، لأن الذين طالبوه بالترشح ليسوا محل إجبار وإلزام، ومع ذلك.. نعود إلى ماكنا بصدده ونلاحظ أن حكاية الإجبار (الاختيار) هذه تمددت من كونها فعلاً حزبياً- أجبرته أحزاب المشترك- إلى اعتبارها »اصطفاءً« فوقياً لامناص أو لا مندوحة من الرضوخ له.
يقول المرشح في رابع أسطر برنامجه: (ولئن منحتني أحزاب المشترك ثقتها حينما »اختارتني« مرشحاً لها في الانتخابات الرئاسية، فإنني قد وافقت على أداء الواجب من وحي ثقتي بالله..).. ورب سائل يسأل: كيف تختاره أحزاب المشترك وهو يقبل لـ»ثقته بالله«؟!
شخصياً أرى حضوراً مكثفاً لفقه الجماعات الإسلامية المتشددة في طلبها الدنيا والحكم بفلسفات وظيفية بحتة تهندس أطماعها وطموحاتها على مقاس العاطفة الشعبية والشعار الديني المجتزأ من سياقه العام.
وحسب الباحث أو القارئ أن يتتبع إشارات ومفاهيم كهذه في سياق خطاب بن شملان عموماً وبرنامجه خصوصاً، ليعلم مدى احتباس الرجل وفكرته عن الرئاسة في حجر مغلق من مفهومية ووعي- لا واعٍ.
فهو يقبل »الاختيار« لأنه أصلاً يستند إلى فلسفة الاصطفاء السابقة، ولذلك يجعل قبوله مقترناً بـ»ثقتي بالله« والثقة هنا لاتأتي إلا بموجب وعد سابق أو اختيار وإجبار فوقي.. فهل توفر ذلك لمرشح الأحزاب الخمسة التي تتوزع خارطة اليمين واليسار وتتناقض معتقداتها القطرية والفكرية والأيديولوجية إلى حد الصدام؟!
ولأن المجال لايتسع لأكثر من قراءة عابرة.. أختم عجالتي هذه بقول المرشح في برنامجه »وإيماني بحاجة اليمن للنهوض وأن الإرادة الشعبية تتطلع إلى ذلك«.. وبإمكانكم استعادة حكاية »المنتظر« في هذه الحالة (..) وعلى ذات المنوال.. نرى متحدثاً يعني فكرته ويعني ما يقول تماماً..
فهو »مجبر« أولاً، و»مختار« ثانياً، ولديه ثقة باسناد »إلهي« ثالثاً، ورابعاً لديه ثقة و»إيمان« بالاسناد الأرضي (الشعبي) أيضاً.. فماذا بقي إذاً؟!
باختصار شديد.. ماسبق قدم إيجازاً مكثفاً لأيديولوجية الإخوان المسلمين- بل الجزء المغلق منها تحديداً، ولم يعد الإخوان يطرحون الفكرة بهذه القوة والتشدد بعدما مالت بهم الأيام وحواريات الغرب القادم من »الغرب«!
إلا أن المشترك حصل أخيراً على مرشح ببرنامج يعيدنا إلى جدليات القرون الأولى والمواجهات النظرية العنيفة بين الفرق والمدارس الفلسفية والفقهية أيام علم الكلام والفرق المتصارعة.
وربما كنا بصدد مرشح وبرنامج يليقان تماماً بالمشترك وحالة اللقاء الذي جمع النقائض وأنتج نسخة مطورة أكثر تناقضاً.