تحليل/ ياسر البابلي - التطرف والتكفير .. بقلم محترفهما الشهير(الحلقة الخامسة)
يذكر مؤلف كتاب (التطرف والتكفير في اليمن) أن (فكرة الكتاب في الأصل هي محاولة إعادة ترتيب وقراءة الوقائع التي حدثت منذ اغتيال أ. جار الله عمر) ص (4).
لكن الحقيقة التي يكتشفها القارئ بعد اطلاعه على الكتاب هو أن المؤلف استهل كتابه بكذبة كبيرة أراد بها جر القارئ إلى مستنقعاته الفكرية الآسنة، وإلى نيران الفتن المروعة التي كان يخطط لابتلاء اليمن وشعبه بها.. ولا أظن أننا سنجرؤ على إدعاءٍ كهذا القول وقد أصبح الكتاب على نواصي جميع المكتبات والاكشاك، وبمقدور الجميع الاطلاع عليه.
ومع أن الإصلاحيين اتخذوا من حادثة اغتيال الشهيد جار الله عمر جلباباً يوارون خلفه فتنهم الانتقامية وآثامهم السياسية، لكنهم أيضاً كان يفزعهم فتح ملفات قضية الاغتيال ومناقشتها بموضوعية وبمنطق عقلي وشواهد واقعية، وهو الأمر الذي حدا بهم إلى التعامل معها كما لو أنها خطاباً منبرياً يصول فيه إعلامهم ويجول على غرار ما كان عليه الحال مع ناصر أحمد يحيى في كتابه (التطرف والتكفير).. لكننا آثرنا في هذه الحلقة فتح ملفات القضية،ومناقشتها بضمير إنساني صادق بعيداً عن أي وجه للتزلف أو المناكفة السياسية الحزبية.
وأود التنويه هنأ أنه إذا كان ناصر أحمد يحيى قد أعدّ كتابه ( دفاعاً عن الإصلاح) لأنه عضو فيه- كما أقر بذلك ص4- فإنني أؤكد أن كل ما كتبته و أكتبه ليس دفاعاً عن المؤتمر الشعبي العام، ولا أنا عضو فيه.. وإنما انطلاقاً من الأمانة الإعلامية التي هي الأصل في شرف المهنة التي أمارسها.. وكذلك إخلاصاً للوطن الذي جاد علي بحضنه أنا وآبائي وأجدادي وما عاد يستحق منا غير البحث عن أمنه وسلامه.. أما الدافع الشخصي فهو امتناناً لذكرى صديقي الوفي الشهيد جار الله عمر الذي لا أجد ما أفي به لرحيله غير رفض تحويل دمه إلى مشروع استثماري سياسي بيد الانتهازيين من الأقلام المتطرفة.
سادساً: الإصلاحيون وفقه (فتن الأسلمة)
كشفنا في الحلقة السابقة واحدة من أخطر المؤامرات التي كانت تدبر ضد اليمن من قبل حزب الإصلاح الذي اتهمته الكثير من الدراسات بالوقوف وراء مسلسل الاغتيالات إبان المرحلة الانتقالية، إضافة إلى الوثيقة المكتوبة بقلم مبعوث نائب الرئيس علي سالم البيض، والتي تؤكد أن الإصلاح كان يعد العدة للاستيلاء على الحكم في إطار مخططات لحرب انفصالية طويلة تقتل الاشتراكي وتنهك المؤتمر.
وعلى ما يبدو من مجريات الأحداث أن قيادة التجمع اليمني للإصلاح بعد فشل المخطط استفادت من التجربة كثيراً جداً، وأدركت الأهمية المترتبة من زج اللاعبين الأقوياء المنافسين في الساحة السياسية في حروب وصراعات وفتن داخلية أو خارجية تؤدي إلى إنهاك قواها وانحسار نفوذها وعدم الصمود طويلاً أمام محاولات الصعود السلطوي من قبل أي قوى أخرى تمتلك قدرات المواجهة.
ومن هذا المنطلق باتت قيادة الإصلاح الأكثر حرصاً من أي جهة أخرى على رفع شعار استخدام القوى في مواجهة الاحتلال الارتيري للجزر اليمنية، وقاد الشيخ الزنداني والأخ محمد اليدومي والأخ محمد الآنسي ركب حملة إعلامية وتعبوية ضارية لتفجير أوار الحرب مع "إرتيريا"، وبلغت التعبئة الداخلية للحرب درجة إنزال التجمع اليمني للإصلاح شريطاً مسجلاً يدق فيه طبول الحرب ويتغنى بحبه العذري (ياحنيش الكبيرة.. أنت أغلى جزيرة.. الخ).
إلاّ أن القيادة السياسية اليمنية (المؤتمر الشعبي العام) التزمت جانب الحكمة والتعقل وفوَّتت على الإصلاح وبعض أحزاب المعارضة الفرصة التي تمنوها،وأحالت القضية إلى محكمة العدل الدولية، وكسبتها لاحقاً.
وفي الحقيقة أن الإصلاح بعد حرب صيف 1994م قفز إلى مسرح الائتلاف الحكومي مع المؤتمر وهو يضع في حساباته أمرين: أولهما إشغال فراغ الاشتراكي وتوقع الحصول على إرث قواعده الشعبية في أي تجربة انتخابية قادمة باعتبار أن الحرب ستخلف آثاراً ونزعات انتقامية من المؤتمر في صفوف أبناء المحافظات.. أما الأمر الثاني فهو الاستفادة من نفوذه القيادي لبعض الوزارات والمؤسسات بالحصول على المقومات المؤسسية السياسية والاقتصادية التي تؤهله للتصرف من موقع منافس قوي يؤخذ بيده إلى رئاسة الدولة.. ولما فشل في الفوز بأيٍّ من الأمرين- خاصة الاستيلاء على الإرث الجماهيري للاشتراكي- لم يجد بُداً من الخروج من الائتلاف إلى صفوف المعارضة (مجلس التنسيق) أولاً، ثم (اللقاء المشترك).
ومع أن هدف الإصلاح من دخول (المشترك) معروفاً للجميع..لكنَّ تعثر المخططات والبرامج التي كان يتوخاها- خاصة بعد إعلان نتائج الانتخابات النيابية الثالثة 2003م- دفعت بالإصلاح إلى التفكير جدياً بتحريك ساخن للساحة السياسية اليمنية، وربما مراجعة بعض ملفات سنوات الفتن والعنف السياسي.. وما إلى ذلك.
فالإصلاحيون يعتقدون أن بإمكانهم نيل (حقوقهم) بالقوة.. وهي ثقافة غالباً ما وجدنا رواجاً لها في إعلام التجمع اليمني للإصلاح.. فمثلاً يقول أحد الكتاب الإصلاحيين (أحمد عثمان) في صحيفة الصحوة (العدد 888في 28/8/2003م):
• (والغريب كيف ينتحر يمني مسلم، وهو يعلم وصية الصحابي الجليل أبي ذر: "عجيب لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج شاهراً سيفه").
بينما كتب (وحيد علي رشيد) في الصحوة (العدد 787 في 14/8/2003م ما يلي:
*( إن الاستبداد للمدرسية الاستبدادية خطأ فادح، والاعتقاد أن حقوق الناس ستعطى لهم وهم قابعون في بيوتهم خطأ فادح آخر.. إن المستبدين لا بد أن يوجد من يقارعهم حتى يعودوا لأحجامهم الحقيقية، إذ ليس لهم على خلق الله ميزة).
أما ناصر أحمد يحيى في كتاب (التطرف والتكفير) فقد ذهب للقول عند حديثه عن علاقة التطرف بالعنف:
*( ربما يكون الارتباط لازماً إذا انسدت الآفاق أمام التغيير السلمي بسبب مسيرة فئة واحتكارها لكل شيء في المجتمع) ص 74.
وعلى الرغم من عدم وجود أدلة دامغة تدين طرف بعينه في قضية اغتيال الشهيد جار الله عمر إلا أنني أتفق مع الرأي القائل بأن الإرث الثقافي السلبي الذي بناه التجمع اليمني للإصلاح بالكثير من الجهد والمال على إثر خلافاته الأيديولوجية مع الحزب الاشتراكي كانت له بصماته الواضحة في قضية جار الله عمر.. وبلا شك أن القاتل استند إلى قاعدته، وإلى التعبئة الخاطئة التي غرسها شيوخ التطرف الديني في رأسه.. ولو دققنا بواقع الحال اليوم، نجد أن الإصلاح يحاول نسخ ثقافة تطرف مماثلة ولكن هذه المرة ضد المؤتمر الشعبي العام، ومن المؤكد أن كتاب ناصر أحمد يحيى سيكون أحد المناهج الأكاديمية التي ستعبأ بأفكارها عقول الشباب، وتشحن بأحقادها النفوس على أمل ترجمتها إلى فعل عملي في يوم من الأيام على غرار ما حدث للشهيد جار الله عمر وبعض الرموز الوطنية الاشتراكية الأخرى التي سبقته إلى نفس المصير.
ومما يمكن ملاحظته، أن الإصلاح قد بدأ فعلاً بتهيئة المناخات النفسية التي تبيح لضعاف النفوس المتعصبين وراء قياداتهم الإصلاحية ممارسة أعمال العنف والتصفيات الدموية بحق بعض رموز المؤتمر الشعبي العام.. فعلى سبيل المثال-ليس الحصر- رأينا أن ناصر أحمد يحيى سلط الكثير من الأضواء في كتابه (التطرف والتكفير) على شخصية الدكتور عبدالكريم الإرياني الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام. فقد وصفه.
*( أنه رجل صدامي حاد في علاقاته مع الآخرين! فالمتوكل كان معتدلاً ولكن الإرياني لا يمكن أن يوصف إلاّ بأنه متطرف!)ص 71ٍ.
*( لقد اعتمد تيارٌ متنفذٌ داخل المؤتمر الشعبي العام يقوده د. عبدالكريم الإرياني أمين عام المؤتمر الشعبي العام منذ الانتخابات المحلية خطاباً إعلامياً وسياسياً حاداً ضد الإصلاح يقوم على أساس اتهامه بأنه تيار إرهابي تكفيري!) صـ 128.
*( إن اتهام الإرياني للاشتراكي بأنه –باطني قرمطي- يجعله وفقاً لاتهامه للمعاهد العلمية بأنها محاضن تكفير علماً بارزاً في مدرسة التكفير) صـ 13.
كما وجدنا المؤلف (ناصر أحمد يحيى) اجتهد كثيراً في تشويه صورة العميد يحيى الراعي ونعته بالكثير من الصفات النكراء، كما لو كان الكاتب يسعى للاقتصاص من ثأر قديم بينهما.. ولا شك أن النزعة العدوانية الانتقامية التي ظهر بها ناصر أحمد يحيى لا يُراد بها تصفية حسابات قديمة وحسب، بل هي تسويقٌ للكراهية والحقد إلى الساحة الشعبية وشحن فتيةِ وشباب الإصلاح وغيرهم بمواقف سلبية إزاء تلك الشخصيات.
إن الكاتب الذي وقف بالأمس القريب عبر صحيفة (الصحوة) ومنابر الجوامع يتهم المسئولين الاشتراكيين ويكفرهم ويجرمهم لينتهي بعضهم إلى المصير الذي نعرفه، عاد لمزاولة نفس الصنعة السابقة بحق رموز المؤتمر الشعبي العام وقياداته من غير تحسب لعواقب الفعل الذي يقوم به.. بل الأرجح أنه بأشد الشغف لجني ثمار حملته التحريمية.
فلا شك أن تجريم المرء بالقتل يعني استباحة دمه،على قاعدة (بشَّر القاتل بالقتل)، وهو المعنى الذي يحاول ناصر أحمد يحيى ترسيخ مفهومه في عدة مواضع من كتابه بتوجيه أصابع الاتهام للمؤتمر الشعبي العام، باغتيال الشهيد جار الله عمر، إذ أورد في كتابه.
*( ألا يوجد اتفاق تام في أسباب استحلال دم الرجل عند القاتل وفي أسباب الغضب المؤتمري من الإصلاح؟) صـ 13.
*( ماذا تركت الميثاق وحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم لأمثال قاتل جار الله عمر؟ ما الفرق بين الطرفين؟) صـ 13.
ويختلق الكاتب دوافع من وحي خياله لتجريم المؤتمر بهذا الفعل الإجرامي منها:
*( محاولة تفكيك "اللقاء المشترك" وشق صفوفه.. ربما وفاءً للشهيد جار الله عمر) صـ 11.
*( إثارة حرب إعلامية مفتعلة ضد خطرداهم اسمه التطرف والعنف والإرهاب) صـ 15.
علاوة على أن الكاتب كان يوجه اتهامات غير مباشرة للمؤتمر، كما هو الحال مع تساؤلاته:
*( من أين جاء مصدر وزارة الداخلية بتلك المعلومات طالما أن محاضر التحقيقات لا تتضمن ذلك؟) صـ 40.
*( والذي يثير الريبة أكثر هو لماذا عرضت وزارة الداخلية تولي مسئولية الحفاظ على الأمن في مؤتمر الإصلاح؟) صـ 49.
إنه لمن الخطأ الكبير أن نتصور أن ذلك اللون من التجريم للمؤتمر الشعبي العام هو نابع من اجتهادات فردية من وحي خيالات الشيخ ناصر أحمد يحيى مؤلف ( حروز التطرف والتكفير) ، بل هي جزء من استراتيجية حزبية إصلاحية في إطار مخطط تصعيد موجة عنف جديدة ضد المؤتمر الشعبي العام ، وقد تولت قيادة التجمع اليمني للإصلاح بنفسها مهمة الترويج لتلك الاطروحات التجريمية للمؤتمر.
ففي محضر التحقيق مع الأخ محمد اليدومي الأمين العام للتجمع اليمني للإصلاح الموثق لدى الجهات الأمنية بتاريخ يوم الأربعاء الموافق 1/1/2003م سئل الأخ اليدومي فيما إذا كانت لديه أية أقوال أخرى؟ فصار يطرح تساؤلات منها:
*( لماذا كان الإخوة في قيادة المؤتمر الشعبي العام مصرين أن يعرفوا برنامج الافتتاح والمتحدثين فيه؟).
*( لماذا تم النقل المباشر من القاعة وثم ربط حفل الافتتاح بعربة النقل المباشر للاحتفالات؟).
*( هل الآمرون بهذا الأسلوب كانوا يتوقعون حدوث شيء داخل القاعة؟).
إذن فالمسألة بالنسبة لحزب الإصلاح تتعدى كونها مناورة سياسية عادية في إطار انتقاد الفساد ومظاهر الإختلالات الاقتصادية والأمنية والخروقات الديمقراطية… فالظن الغالب أن الإصلاح سبق وأن استعد جيداً لأداء أدواره بدقة في قضية اغتيال الشهيد جار الله عمر، وأنه قد رسم لها لتكون عنوان مرحلة جديدة في التاريخ السياسي اليمني.. ومن المنتظر أن تعمل قيادة الإصلاح على استثمارها ضمن مشروع (أسلمة السياسة اليمنية)،بعد القيام بنسف التجربة الديمقراطية من خلال قيادة (المشترك) باتجاه مقاطعة الانتخابات (المجالس المحلية) تحت ذريعة البحث عن ضمانات، وتفجير أزمة سياسية مريعة تزعزع وجود الكثير من البنى المؤسسية الديمقراطية، وتفجر حالة من الفوضى الإدارية –وربما الأمنية أيضاً- وقد تعمل على تصعيد النشاط الإرهابي وإدارة معركة إعلامية، وبالتالي فإن كل ما يلوح في الأفق ينذر –من وجهة نظري الخاصة- بخطر كبير يهدد مستقبل الوحدة الوطنية إذا ما نجحت قيادة الإصلاح في تمرير مخططاتها التآمرية على المؤتمر الشعبي العام أولاً، وعلى بقية أحزاب اللقاء المشترك ثانيا.
لاشك أن كتاب (التطرف والتكفير) يوحي بالكثير من الهواجس المخيفة- بالنسبة للمواطن العادي على أقل تقدير- خصوصاً وأن مؤلفه حرص على فتح أبواب فتن متعددة، ربما كان أخطرها هو اللعب بأوراق الفتنة الطائفية من خلال الهجوم التكفيري الخبيث الذي شنه على المذهب الزيدي والإسماعيلية (المكارمة) وتسفيهه لمعتقداتهم وأئمتهم وحتى الصحف التي تمثلهم، لدرجة أن المؤلف أفرد لتكفير المذاهب اليمنية الأخرى فصلاً كاملاً من (صـ99 إلى صـ 129)،ولو حاول البعض ربط التوزيع السكاني لمعتنقي تلك المذاهب بالتوزيع الجغرافي لأدرك على الفور حقيقة النوايا الخبيثة المرسومة لمستقبل الساحة السياسية اليمنية،وأي لعبة قذرة يديرها المتطرفون في بلادنا..!
لقد بات واضحاً أن المتطرفين المتوارين خلف براقع الدين لا يحتكمون في مخططاتهم السياسية إلى منهل إسلامي شرعي- كما يدعون في شعاراتهم على المنابر- بل إنهم يضعون لأنفسهم فقهاً خاصاً يبيح لهم إضرام جحيم الفتن في أوطانهم من أجل (أسلمة) كراسي الحكم
* * * *
في الحلقة القادمة: حقائق من ملفات التحقيق.. وجهاً لوجه مع قيادات الإصلاح، وأقلامه المتطرفة
|