المؤتمرنت/ صالح البيضاني -
الأدب والصحافة.. ارتباط وثيق أم خلط مفاهيم
ربما يكون الجمع بين الأدب كموهبة والصحافة كمهنة هو الأكثر رواجا في سياق الحديث عن الأدب والصحافة فأكثر الأدباء وأشهرهم مارسوا الأدب وعملوا في الصحافة في ذات الوقت كماركيز وهمنغواي وغيرهم من أدباء نوبل وعلى الصعيد اليمني نجد أن أبرز أدباء اليمن كالبردوني والمقالح قد بدأوا حياتهم المهنية في إذاعة صنعاء التي كانت وسيلة الإعلام الأهم إن لم نقل الوحيدة في ذلك الوقت وتكفي الإشارة هنا إلى أن القاسم المشترك بين الأدب والصحافة هو القلم ويمكن ملاحظة أن الكثير من العاملين اليوم في الصحافة اليمنية هم من الأدباء ، كما يقف على رأس الإعلام اليمني شاعر وهو الأستاذ الشاعر حسن اللوزي.
ويبقى هنا أن نطرح العديد من التساؤلات حول العلاقة بين الصحافة والأدب: من خدم الآخر؟ وهل الصحافة تمثل رافدا إبداعيا إضافيا يزيد من تجارب الأديب؟ أم أن الصحافة هي مقبرة الأديب التي تأخذ منه الوقت والجهد كما يقول البعض؟ لماذا انقطع الكثير من الأدباء عن إنتاج الإبداع ووقعوا فريسة للكتابة الصحفية؟
ارتبط الإعلام اليمني منذ بواكيره الأولى بالأدب فقد كانت الصحافة في بداياتها وسيلة لنقل الأدب أو التعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية من خلاله كما هو الحال في مجلة (الحكمة اليمانية) التي صدرت في ديسمبر من العام 1938م وكان يرأس تحريرها الشاعر أحمد عبدالوهاب الوريث و(البريد الأدبي) التي صدرت في تعز في العام 1943م وكذلك كان الحال بالنسبة لصحيفة (صوت اليمن) التي رأس تحريرها الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري وصدر العدد الأول منها في العام 1946م والتي صدرت بعدها صحيفة (الفضول) في العام 1948م للشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان .. وفي هذا السياق لابد من الإشارة لصحيفة (التهذيب) التي صدرت في حضرموت في العام 1930م وأعاد إصدارها الأديب اليمني الكبير علي أحمد باكثير كما أن صحيفة (فتاة الجزيرة) التي صدرت في عدن في العام 1949م قد رأس تحريرها الأديب محمد علي لقمان .. لذلك ولكل ماسبق يمكننا القول أن الصحافة اليمنية في بداياتها كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالحركة الأدبية وأعلامها وهو الأمر الذي كان سائدا في بدايات الصحافة العربية عموما وفي هذا السياق وعن العلاقة بين الأدب والصحافة تقول الإعلامية المصرية عزة عبدالعزيز:" أن الصحافة خرجت في مصر والعالم العربي من معطف الأدب، وتولي كبار الأدباء رئاسة تحرير الصحف والمجلات، وشهد القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين صدور عدد من الصحف والمجلات الأدبية والثقافية التي شكلت جزءا مهما من مسيرة الصحافة ".
ومن الدراسات التي حاولت رصد علاقة الأدب بالصحافة دراسة قدمتها شعبة الثقافة والفنون والآداب والإعلام بالمجالس القومية المتخصصة في مصر بعنوان «الصحافة والأدب» حيث ناقشت علاقة كل منهما بالآخر.
وتعود الدراسة إلى نشأة الصحافة وارتباطها بنشأة الطباعة التي ساهمت في توثيق العلاقة بين الأدب والصحافة حيث اعتمدا معا علي الطباعة في سهولة الوصول إلى المتلقي خاصة أن تلك الوسيلة غيرت مفهوم الخبر وآثرت مفهوم الأدب بما يناسب جمهور القراء.
وعن بدايات الصحافة المصرية ودور الأدباء في تأسيسها تشير الإعلامية المصرية عزة عبدالعزيز إلى بداية تاريخ الصحافة المصرية في ثوبها الحديث في مصر بجهود رفاعة الطهطاوي وبعده الإمام عبده وبظهور (الوقائع المصرية) حيث بدأ الأدب كأساس من أسس الفن الصحفي في صورة مقال أدبي، أو في ذيوع الأسلوب الأدبي في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية حيث بدأت الكتابة الصحفية على أيدي كبار الأدباء والكتاب الذين حرصوا على اجتذاب جماهير القراء على اختلاف مستوياتهم الفكرية أثر كبير في تطوير أساليب الكتابة وفي تجاوز الألفاظ الجامدة والمحسنات المتكلفة والمفردات المهجورة والميل إلى استخدام الأسلوب الصحفي السهل والذي يعتمد على تطويع اللغة لملابسات العصر وفي صيغ الحوار تجلى لتاريخ العلاقة بين الصحافة والأدب منذ أن أسهمت الصحافة في نشر الأدب و في الارتقاء بأساليبه.
وفي هذا السياق تسرد عزة عبدالعزيز في بحثها عن العلاقة بين الأدب والصحافة أسماء العديد من الأدباء الذين تولوا رئاسة تحرير الصحف المصرية حيث تولى لطفي السيد رئاسة تحرير صحيفة «الجريدة» ومحمد حسين هيكل تولي «السياسة» الأسبوعية وعبدالقادر حمزة «البلاغ» الأسبوعية وفكري أباظة تولى «المصور» وفي الستينيات شغل طه حسين رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية» وقبلها رأس تحرير صحيفة «الكاتب المصري» من عام 1945م إلى عام 1948م كما كانت جريدة «الأهرام» تقوم بنشر قصائد الشاعر الكبير أحمد شوقي في صفحاتها الأولى كذلك لقب الشاعر محمد عبدالغني حسن بشاعر «الأهرام» كما ظل الأديب الكبير عباس العقاد يكتب مقالاته في جريدة «الأخبار» حتى آخر يوم في حياته. . . كما يجب الإشارة إلى بدايات الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ورغبته في الكتابة الأدبية وحلمه أن يكون كاتباً أو صحفياً في وقت كان التداخل بين الأدب والصحافة سمة أساسية في الصحافة. . ولم يكن فيه العمل الصحفي قد تبلور وظهر بالصورة التي عليها الآن.
الفرق بين الصحفي والأديب:
الفرق بين الصحفي والأديب يقول البعض أنه كالفرق بين الصحافة والأدب.. "فالصحافة مهنة والمشتغل بها صانع أما الأدب شعراً أو نثراً أو رسماً فهو فن.. والأديب هو الفنان الذي يغوص في أعماق المناجم لمتابعة ذرات الذهب ليستخرجها وينقيها من الشوائب والأتربة ويصوغها ويشكلها كما يريد.. أما الصحفي فهو الباحث بين المخلفات ليستخرج من بينها ما يمكن بيعه وتسويقه فلا يعدم وجود حلية ثمينة أو لوحة فنية جميلة.. هكذا بدأت العلاقة تتحلل شيئاً فشيئاً وأخذ الطرفان في التباعد عن بعضهما البعض.. ذلك لأن الصحافة لم تعد في نظر القائمين عليها وسيلة ثقافة وإنما هي أداة إرضاء للمستهلك وهي بهذا لا تحاول أن ترفع من مستوى متلقيها بقدر ما تحاول أن تقدم له ما يرضيه في الإطار الذي يعجبه ويفضله.
وبهذا غدا الأدب في الصحافة ضيف ثقيل ينبغي التخلص منه.. فهو تارة يهمل إهمالاً تاماً.. وتارة أخرى يبعد إلى ركن قصي حيث يتوارى في خجل وحياء وهو أن أطل برأسه ففي استحياء وبمبررات تقدمها الصحيفة بين يديه وكأنما تخشى لوم اللائمين."
وفي هذا الصدد يقول فاروق خورشيد:
"هذا الجيل الجديد من الصحفيين ليسوا أدباء ولا يعرفون عن الأدب إلا ما يعرفه أرباع المثقفين الذين يأخذون من كل شيء بطرف.. وهذا الجيل بالذات هو الذي ساد الصحافة بعد دخوله في مجال منافسة غير متكافئة مع أصحاب المدرسة القديمة من الصحفيين الذين دخلوا الصحافة من باب احترام الكلمة والرأي دونما اهتمام أصيل يجذب أكبر عدد من القراء ".
وعن تجربته الخاصة في حقلي الأدب والصحافة يقول الأديب الراحل فاروق خورشيد الذي رأس اتحاد الأدباء المصريين في كتابه الذي صدر عام 1961م (بين الأدب والصحافة):" بدأت الصحافة عندنا كاهنة في محراب الأدب تستمد منه وجودها وبقاءها.. كتاب الأدب والنقد هم العمد الأساسية في بناء أي صحيفة وقارئ الأدب والنقد هو المستهلك الأول للصحيفة وكانت الصحف تضطر إلى احتكار أكبر عدد من أصحاب الأسماء اللامعة في دنيا الأدب تفرد لهم أهم صفحاتها وتخضع لاحتياجاتهم التي توضع في الاعتبار وعن طريق هذا التجاوب بين الصحافة والأدب تسللت الصحف إلى مجتمعنا المحافظ المتمسك بتقاليده ذلك بأنها كانت تتجاوب مع ثقافته وذوقه باستمرار فتقدم له الغذاء المعتنى به والاسم الرنان الذي يضمن للقارئ عنده الفكر الناضج والرأي الحر".
وعن العلاقة بين الأدب والصحافة يقول المرحوم أمين الخولي: (إن الأدب فن التعبير والصحافة صناعة الاتجار بالخبر.. ولن يصل الأدب في يوم من الأيام إلى مرتبة الحرفة إلا إذا تنازل عن حريته ومسؤوليته ليخضع لعبودية أصحاب الحرف .. ولذلك فالصحافة خبر وموضوع .. والصحافة توزيع وإعلان .. والصحافة وسيلة إعلام ونشر .. والصحافة لهذا عمل له أصوله وقواعده وله ارتباطه بعوامل أخرى .. ولا علاقة للأدب بكل هذه المؤثرات الخارجية .. وإنما ينبع المؤثر على الكتابة من داخل نفس الكاتب لا من خارجها .. وحتى مؤثرات المجتمع والثقافة وتيارات الحياة لا تؤثر إلا بعد أن تصبح حقائق ثابتة).
من يلتهم الآخر؟
الكثير من الأدباء يقولون أن الصحافة تلتهم الأديب من منطلق أنها تجرف الأديب نحو اتجاه آخر وتسرق وقته الذي كان ينبغي أن يكون حكرا على الإبداع وهو الأمر الذي لا يتفق معه الكثير من العاملين في الصحافة من الأدباء ومن هؤلاء الكاتب والاديب والباحث والإعلامي السوري جان الكسان الذي عمل خمسون عاماً في الأدب والصحافة حيث يقول في إحدى المقابلات الصحفية:" أنا لا أرى تناقضا بين مهمة الصحافة والعطاء الأدبي إلا في أدوات التعبير ، فقد يكون الأديب صحافيا ناجحا أو العكس ، خاصة وان أسباب التفرغ للنتاج الأدبي غير متيسرة بصورة عامة للأدباء العرب.
أنا أخالف جميع الذين يقولون أن الصحافة تأكل الأديب ، بل على العكس إنها تفتح أمامه آفاقا واسعة ليغني تجربته الأدبية ، من خلال معايشة طموح الناس ، بين طموح تطلعاتهم من جهة وانكسار أحلامهم من جهة أخرى أو من خلال الاستطلاعات الميدانية التي يقوم بها الأديب ، وقد عمل كبار كتاب العالم في الصحافة سنين طويلة وأنتجوا أعمالا إبداعية متميزة وفي الوقت نفسه كانوا يتابعون الكتابة الآنية في الصحافة.. والأمثلة كثيرة ومعروفة".
ويمكن الإشارة هنا إلى أسبانيا حيث يوجد تقليد يتمثل بظاهرة الكتاب الصحفيين كما يقول الروائي كاميلو خوسيه سيلا الحائز على جائزة نوبل للآداب.
كما يقول الكاتب والصحفي اللبناني حسن داوود في رده على سؤال صحفي عن العلاقة بين الأدب والصحافة وكيف يكتب رواياته وهو يمارس الصحافة:" لحسن الحظ أن ما أكتبه في الصحافة لا يبعد كثيراً عن الكتابة الروائية لكأنني، فيما أكتب المقالة، أجدني تاركاً نفسي للتخيل وللوصف -الأفكار الخالصة والتقرير الخالص الذي لا يحتوي على ذلك القدر من التعبير الشخصي، لا أجيده- منذ سنوات كثيرة يعذبني أن أكتب خبراً عن كتاب صدر أو عن حفلة موسيقية ستقام، بل ويعجزني أن أرتب المعلومات أيها ينبغي أن يسبق سواه فيما في المقالات التي أكتبها لم أكن مرة بعيداً عن الكتابة الأدبية وإن كان القلم يسير بسرعة أكبر بكثير حينما أكتب شيئاً للجريدة- هذه الكتابة الصحفية ربما كانت أسهل وأكثر إمتاعاً إذ إنه لمعذب أن يجلس الكاتب ساعتين أو ثلاث ساعات من دون أن يحظى بجملة واحدة ترضيه، أقصد هنا كتابة الرواية- كأن واحدنا يعلم من تلقائه ومن وعيه الباطن الفرق بين الكتابة الزائلة تلك التي يبقى دويها الخفيف نهاراً واحداً في ذهن قارئها، وبين الكتابة التي يشعر كاتبها أنها باقية إلى أمد أطول وإلى أمد أبعد".
كما يتحدث عبدالحميد عقار رئيس اتحاد كتاب المغرب في محاضرة حول موضوع: الصحافة والأدب و أيهما أفاد الآخر ليقول بأن الصحافة تعد قناة أساسية في تكوينه ومرجعا يداوم عليه كما يعرف والصحافة والأدب بقوله أن الأدب هو ثمرة أولئك الذين يرصدون الحلم، وهو بذلك يسمح بتوسيع أفق المتلقي، كما أنه بحكم رمزيته يساهم في الاستعمال اللاإنساني للتكنولوجيا التي تكاد تحول الإنسان إلى مجرد كائن استهلاكي، ويظل (أي الأدب) موصولا بدينامكية المجتمع والحياة، ومساهما بطريقة غير مباشرة في مقاومة ما يهدد الحلم والمستقبل الإنساني، أما الصحافة؛ فهي مرآة للآني والحالي، كما أن سلطتها فعلية ومباشرة.
و عن العلاقة القائمة بين الأدب والصحافة يعتبر رئيس اتحاد كتاب المغرب أن ذلك يمثل تفاعلا منتجا وخلاقا في الاتجاهين معا، انطلاقا من اعتبارات عدة، من بينها أن الصحافة تتيح للإبداع قنوات جديدة للانتشار وفضاء للتداول والتأثير والحرية، مع التأكيد في الإطار نفسه على أن الأدب يختبر مداه وجدواه في الصحافة، حيث يحقق تواصلا له ميزات خاصة، من بينها: طابع الاسترسال والتواصل مع قراء قد لا يمثل لهم الأدب ضرورة، إضافة إلى أن التلقي يتم في فضاءات مختلفة.
من بين عناصر هذا التفاعل كذلك، أن الأدب يحقق للصحف انفتاحا إذ تصبح قناة للوقوف على الوجدان والتجربة الخاصة للخيال، وعيا بأنه بواسطة الفن تثرى الروح.
وعن جذور العلاقة بين الصحافة والأدب، قال عبدالحميد عقار أن العلاقة التفاعلية بينهما نشأت في أوروبا وأمريكا بالخصوص منذ مطلع القرن التاسع عشر، وفي هذا الإطار اعتبر أن الصحافة هي ثمرة الثورة الفرنسية والصناعية، بل كانت العنصر الفعال الذي قاد هذه الثورة، كما ساهمت في بروز شعب من حيث هم قوة وليسوا مجرد متفرجين على الأحداث، الشيء الذي خلق تحولا سياسيا وثقافيا عميقا، أقلق نظام العلاقات الدولية السائدة آنذاك.
وقد كان للأدب الصحفي دور في تشييد فهم جديد للوطنية وهوية ثقافية أخرى غير موروثة عن عصور كلاسيكية، بالإضافة إلى المساهمة في تحويل الذهنيات.
وعلى مستوى العالم العربي، قال عبدالحميد عقار أن التفاعل انطلق مع منتصف القرن التاسع عشر، حيث شكلت الصحف والمجلات أهم محافل التلقي والتداول للآداب الحديثة، وعرفت أكبر سجال حوله، ومن ثمة ساهمت في إضفاء الشرعية عليه.