الناطق الرسمي باسم المؤتمر الشعبي العام- اليمن
التاريخ: السبت, 23-نوفمبر-2024 الساعة: 11:50 م
ابحث ابحث عن:
قضايا وآراء
الثلاثاء, 17-أكتوبر-2006
المؤتمر نت - > جمال خاشقجي * -
حدود الضرب في الرقية الشرعية
دعا الدكتور عبد العزيز الصويغ سفير المملكة العربية السعودية في كندا، مجلس الشورى السعودي، والذي كان عضواً فيه، إلى "إصلاح الأنظمة المتقادمة في الدولة، بما فيها نظام مجلس الشورى نفسه"، وذلك في مقاله اليومي بصحيفة "المدينة" قبل عدة أسابيع. كالعادة لم يحصل شيء، ولم يتحرك أحد لعلاج الأنظمة المتراكمة التي لم تعد تستجيب لمتطلبات الحياة والتطور، والنهضة والانفتاح غير المسبوق والذي تعيشه البلاد، فالمهمة صعبة وكبيرة، وبالتالي اقترح أن نبدأ بما أهو أسهل وأدعى مما يشغل الناس، لنرى كيف يستطيع مجلس الشورى استحداث نظام جديد يلبي الاحتياجات المستحدثة للمواطن السعودي.

إننا كسعوديين في أمسِّ الحاجة إلى نظام مُحكم، للرقية الشرعية، فهي نشاط هائل من حولنا، يمارسه من دون ضبط وربط المئات، فيعالجون بفتوحاتهم النورانية، مئات آلاف من المرضى النفسيين، ينفخون وينفثون، ويمسحون بالزيت والماء على الرؤوس والأبدان، فيسقط البعض صرعى، بينما يتلوى آخرون على الأرض، ممن يعيشون هذا الوهم، بل إنهم يضربون ضحاياهم لإخراج الجن من أجسادهم، ولو مات أحدهم عرضاً، يتبرع أحد أصحاب الفضيلة القضاة، فيبرئ فضيلة "الراقي" فهو حسن النية، مريد للخير، متبع لسُنة توهمها فضيلة القاضي وسماحة الراقي.

نعم أيها السادة: فنحن من دون بلاد الأرض كلها، وبالرغم من أن اقتصادنا من أكبر اقتصاديات العالم، وسوق مالنا من أكبر عشرة أسواق عالمية، وبالرغم من نفوذنا السياسي الإقليمي، ومشاريعنا الاقتصادية الضخمة، وامتلاكنا لأكبر بنية تحتية للرعاية الصحية في المنطقة، فإننا بحاجة إلى تنظيم ما يعتبره العقلاء، وأصحاب الفطنة مجرد خزعبلات مخالفة للسُنة الصحيحة، ومنهج السلف الصالح، بينما نعتبره -نحن الذين نزعم أننا سلفيون- علماً شرعياً، وعلاجاً معتبراً.

في كل بلاد العالم دجالون ومحتالون، ولكن لا يحميهم نظام أو قضاء، أما نحن، ففي جدة مثلاً، توجد لجنة للرقية الشرعية تتبع للإمارة، يتستر خلفها هؤلاء، وأحد قضاتنا برأ راقياً ضرب مريضه حتى الموت، "لأن أهل الميت شهدوا للراقي بالصلاح والنزاهة". ولعل الأطباء يتمنون معاملة كهذه عندما يخطئون ويتسببون في وفاة مريض، ولكنهم مساكين ينتهون غالباً بفصل من الخدمة وغرامة، رغم أن لديهم شهادات علمية وأنهم محاطون بأنظمة، ولعل هذا هو الفرق بينهم وبين أصحاب الفضيلة الرقاة، الذين يُدجلون على هواهم، ووفق مقاييس فضفاضة يجمعونها من بطون كُتبٍ قيل إنها تحمل رأي الدين، وما هي إلا وجهات نظر واجتهادات لأصحابها قبل ألف عام. ولا ينكر الرقية والعلاج بالقرآن إلا جاهل بالدين، ولكن من يقبل بتحويلها إلى مشروع تجاري ومصدر للتكسب، فهو جاهل أيضاً بمقاصد الدين وحقيقته.

أما علماؤنا الأفاضل، فيناقشون في الصحف "ما هي حدود الضرب في الرقية الشرعية؟"، فتخيلوا أعضاء مجلس الشورى مجتمعين للإجابة على سؤال كهذا، وأرجو ألا تنقل هذه الجلسة على شاشة التلفزيون، حتى لا نصبح مسخرة لجيراننا، والعقلاء من حولنا. ويكفي ما نال سمعة المملكة وعلماءها من قصص الساحرة السوداء التي تطير من الطابق الأول إلى الطابق الرابع في عمارة في المدينة المنورة، عندما داهمها "حراس الفضيلة" من هيئة الأمر بالمعروف، وقد نشرت القصة في صحيفة سعودية بكل جدية، فأصبحت القصة موضوعاً للتنكيت والتبكيت عند كتاب الأعمدة من إخواننا العرب، يتغامزون على ما انتهى إليه حال السعوديين. بل بلغ بنا الحال أن نوقش موضوع طيران السحرة، فأكد أحد العلماء -ومن غريب الحال أنه عضو في مجلس الشورى الحالي- أن الفقهاء قالوا "إن بعض السحرة قد يركب المكنسة ويطير في الهواء بمساعدة الجن"، وطالما أن الأمر كذلك فلماذا نمنع أفلام "هاري بوتر" ونصفها سحرة يطيرون برشاقة في الهواء على مكانس، وعالمنا هذا هو صاحب نظرية "فك السحر بالسحر"، ولنتخيل مجلس الشورى وهو يناقش وضع قانون لتنظيم فك السحر بالسحر، بعدما ينتهي من تعريف حدود الضرب في الرقية الشرعية.

ولهيئة الأمر بالمعروف اهتماماتها التي لا تنقطع بمثل هذه الأخبار، فها هو فرعهم في بطحاء العاصمة، كما تروي صحيفة "الجزيرة" يتابعون حال شاب سكنته جنية (يهودية يمنية) تحديداً لمزيد من الإثارة والتشويق، فحاصروها مستعينين بعد الله بخبرات تراكمت لديهم، بالقراءة على المسكين ليخرجوها من جسده العليل، وقاموا بعد إنجازهم الخطير برواية تفاصيل مغامرتهم المثيرة لمراسل الصحيفة والتي نشرت الموضوع بكل جدية.

ما هذا العبث؟ والأغرب أننا بعد كل هذا نزعم أننا "سلفيون"، ولكننا نفارق السلفية الصحيحة ومنهاجها الرباني الرافض للبدع والخرافات، بغرقنا في مثل هذه الخزعبلات. إن من أبرز مزايا العقيدة السلفية هو تأكيدها على علاقة العبد بربه مباشرة، دون وسيط، ورفضها الصارم لكهنوت من يزعمون أنهم أولياء الله الصالحون، يشفعون للعبد ويتوسطون له عند ربه. فمن أين خرج علينا كل هؤلاء الصالحين الذين يجمعون المرضى في الأحوشة، فيخرج واحدهم عليهم بعدما ينقطع نفس المنتظرين، ومن حوله أتباعه كأنهم كهنة المعبد ليكملوا تلك الصورة البغيضة التي جاء الإسلام للقضاء عليها، فينفث في هؤلاء، ويرش الماء على أولئك، ويمسح الزيت على جبين آخرين، فيعالج الصريع، والموسوس، والمكتئب، المصاب بانفصام الشخصية، كلهم دفعة واحدة، دون أن يجلس مع أحدهم إلا لو دفع أكثر، وألح في الموعد، هو أو أهله الذين تخبطوا في الجهل وغرقوا في الخرافة.

هل يعلم هؤلاء العلماء الأفاضل الذين يناقشون "حدود الضرب في الرقية الشرعية" أن زميلاً لهم من أبناء المملكة، مارس فعلهم في فرنسا، فضغط على رقبة مغربي بقوة بينما كان يرقيه ليطرد جنياً، زعم أنه سكن جسده البائس فقتله، قد انتهى في سجن فرنسي يقضي فيه عقوبة بالمؤبد بتهمة القتل، ولم يشفع له صلاحه وتقواه ونيته الطيبة في إنقاذ الرجل من جنية فرنسية أو يهودية يمنية أخرى لاحقته إلى باريس. إن الأسلم والأحوط أيها الأفاضل هو أن نفعل ما فعله الفرنسيون، بتجريم ضرب الإنسان للإنسان تحت أي ظرف كان، ورفض كل زعم بأن في هذا الضرب رقية أو علاجاً، فموضوع مس الجن للإنس خلافي ابتداءً حتى بين علماء الدين أنفسهم، أما ضرب إنسان لآخر حتى الموت أو دون ذلك، فلا يعقل أن يشرعه عاقل تحت أية ذريعة، وحتى لو كان بموافقة الضحية.

يجب أن نعترف أن لدينا خللاً كبيراً في الثقافة التي باتت سائدة بين العامة، روجت لها مدارس وصحف وخطباء ودعاة كثر غبشهم، تترسوا بالدين لمنع نقدهم والرد عليهم لحماية مكاسبهم، وحان الوقت لحركة إصلاحية سلفية صحيحة تعيدنا إلى الفهم الحقيقي للدين، والمملكة وشعبها ومستقبلها، وهي بلاد الحرمين وقبلتهم مكاناً وممارسة، تستحق أفضل من هذا.

* نقلا عن صحيفة" الاتحاد" الاماراتية




أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر