د. عمر عبد العزيز* - اليمن ما بعد الانتخابات ... د. عمر عبد العزيز يُقال ان النتائج تقرأ بمقدماتها، وبالتالي فإن احتمالات ما بعد الانتخابات الرئاسية والمحلية اليمنية تُقرأ بمدى نجاح تلك الانتخابات ليس بالمعنى الاجرائي المباشر، بل من خلال الشفافية التي وصلت إليها، وما مهّدت له من ثقافة سياسية تتجاوز مألوف العقلية الماضوية التي كانت ترى الخصم مجرد نتوء شيطاني يستحق الشطب والإزالة.
اتّسمت الانتخابات وبإجماع المراقبين المحايدين بقدر متقدم من الشفافية، بل انها أدخلت البلد في لعبة سياسية اعتقد الكثيرون انها ثقيلة الوطأة على المؤسسة والمجتمع اليمني، غير أن الشواهد والمشاهد أثبتت عكس ذلك تماماً، فقد تفاعل الشارع اليمني بقدر كبير من النضج والمسؤولية مع إيقاع الانتخابات، وانزاحت الرؤى والمفاهيم خطوة الى الأمام من خلال الخطاب الهادئ الذي وسم أغلب المنابر العاقلة والفاعلة في السلطة والمعارضة، واستطاع اليمانيون بحكمتهم وصبرهم محاصرة السيئات التي تنتعش في مثل هذه الأحوال، فكانت النتيجة اقبالا جماهيرياً مشهوداً، وتباينات في الرؤى والمواقف اتّسقت مع البرامج الانتخابية وبصورة حاسمة، فيما غادرت المربعات التقليدية للاصطفافات العشائرية المناطقية الضيّقة. كما ان انحسار تأثير المرشحين المستقلين كان بمثابة إشارة مبكرة لنضج الوعي السياسي وانخراط المواطنين في تقاليد اللعبة واستتباعاتها بصورة أذهلت المراقبين والمتابعين.
هذه المقدمات كفيلة بأن ترينا آفاقا للإصلاح السياسي الاقتصادي الأكثر تجذرا، حيث ان “المؤتمر الشعبي” العام يجد نفسه الآن مُكرسا كفارس أساسي في الميدان بما يعني المزيد من المسؤولية المترابطة مع جسامة الاستحقاقات وعمق الخطاب المعلن، وهذا الأمر لا يمنع توسيع دائرة المشاركة السياسية لبقية الأطراف وعلى أساس التوافق على المشتركات في البرامج الانتخابية، فالمعلوم أن القاسم المشترك بين برامج “المؤتمر” و”اللقاء المشترك” أكثر من ان تُحصى، وأن التركيز في هذه البرامج كان لصالح تقوية الدولة وهيبتها من خلال تطبيق النظام والقانون على الجميع. ايضاً مكافحة البطالة والفساد وسوء استخدام المال العام، وكذا تحقيق تنمية شاملة متوازنة يكون منطلقها إنجاز قدر أكبر من اللامركزية المالية والادارية واطلاق العنان للتنمية الأفقية، واشراك الأقاليم وسلطاتها المحلية في اتخاذ القرار الاداري المالي التنموي وتحمل تبعاته ومسؤولياته بدلاً من اللهاث العقيم وراء توجيهات المركز وإجازاته البيروقراطية.
وللتو وقبل ان يجف مداد البرامج الانتخابية بدأت عجلة الاصلاح تدور من خلال سلسلة من المبادرات التي شرعت بها الحكومة اليمنية، فقد تأصّل الآن وبصورة لا رجعة فيها أن على الدولة أن تخدم المواطن لا العكس، وأن حقوق المواطنة هي القيمة المركزية والمعيار الحاسم لأداء المؤسسات ودورها، وأنه آن الأوان للتخلّي عن منطق دولة الجباية والقهر وأجهزة القمع لصالح دولة الهيبة المؤسسية القانونية التي تجيّر كل فعل على منطوق الدستور والقوانين المتفرعة عنه.
انها معركة كبرى ومناجزة عسيرة لتقاليد سيئة ترسّخت على مدى عقود من المتاهات والتدافعات غير الحميدة المصحوبة باستيهامات وسلوكات مفارقة لمنطق الدولة العصرية ونواميسها. لكن مقدمات التغيير نضجت بالحراك المجتمعي والاختلافات البناءة وتوجت بإنجاز حضاري سبق فيه اليمن أشقاءه العرب. ان كل هذه العوامل تجعل التفاؤل أمراً وارداً بل مؤكداً، فالجميع يستشعر الان ضرورة الانتقال الى الدولة الحميدة الحانية على مواطنيها والرائية لليمن الكبير بوصفه مشروعاً حضارياً للنماء والتطور والازدهار.
تشير المعلومات إلى أن العديد من الوزارات والمؤسسات فتحت الباب لقياداتها في تقديم المبادرات والمقترحات والمخططات التطويرية انطلاقاً من فكرة بديهية تقول إن من في الميدان يعرف شعابه وهضابه وجباله ومنحنياته ومنحدراته وأسباب نمائه، وبالتالي فإن منطق التفكير المركزي بالنيابة عن الأقاليم أثبت فشلا ذريعاً وسمح بنشوء احتقانات عديدة وعطّل مسار التنمية والتطوير.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة فضيلة كبرى تحسب لصالح السلطة، ونكرانها فرية ما بعدها فرية، نتمنى من الله ألا تكون وألا تأخذنا العزة بالاثم، فالحكمة التي باشرت مقارعة صراعات الماضي العقيم بالتسامح والمشاركة قادرة على مقارعة ذيول تلك الصراعات بالمزيد من التسامح والمشاركة، حينها يحق للحالمين اليمانيين ان ينجزوا وفي أسرع مما نتصور سلسلة الأفكار والمشاريع الجديدة الواعدة
*الخليج الاماراتية |