بقلم: ياسر البابلي - لماذا التكفير في بلد الإيمان..؟؟ بين من يحمل "التكفير" خطاباً يتمنطق به وقتما شاء،وبين من يرى فيه سلوكاً يتقرب به إلى الله زلفى كلما اهدر دماً، وأباح عرضاً أو مالاً.. فإن المعنى في كل الأحوال لا يخرج عن كونه ثقافة النشوز، واجترار الآثام في بلد خصه نبي الرحمة "صلى الله عليه وسلم" بالقول: " الإيمان يمان والحكمة يمانية".
وقد تتخذ المسألة بعداً مضافاً لكينونتها الدينية حين تتعدى أطر التشريع الفقهي نحو ملازمة العمل السياسي، والتحول على يدي الظلاميين إلى صيغة حزبية لإلغاء الآخر، و تنحيته دموياً عن طريق الشبق الدموي لشيوخ التطرف، والتكفير والإرهاب.. فحينئذ لا يندرج الفعل تحت عناوين التحول في الآليات، بقد ما يمكن عدّه انقلابا على الدين، وتزويراً لهوية ألإسلام، ونكوصاً بقيم الأمة.
ومع أن البعض يرجيء ثقافة التكفير إلى حالة الاحتكاك مع الأنماط الفكرية والمذهبية المغايرة، والواقع الذي آلت إليه تحت وطأة الفلسفة التي حملتها السياسة الانفتاحية.. إلاّ أن المتذرعين بهذه الحجج يحاولون التقليل من خطورة الأمر وتصويره كممارسة طبيعية، فضلاً على تأكيد إلحاق" التكفير" بالإسلام كمبدأ أصولي ضمن مناهجة العقائدية.. وهو الأمر الذي أقحم أدوات العنف في مفردات عمل تلك القوى على أنها وسائل مقدسة لإحقاق إرادة السماء.
وفي الحقيقة أن ذلك التصور أحتل مساحة شاسعة في مناهج عمل التجمع اليمني للإصلاح إلى درجة ارتكاز قيادته على ثقافة التكفير والعنف كديناميكية أساسية في بناء القاعدة التنظيمية أولاً، وفي موازنة الثقل السياسي ثانياً، وفي إزاحة بعض أقطاب التأثير السياسي ضمن تقنية مبرمجة ثالثا، ثم أخيراً في تهيئة مناخات الطرف السلبي الذي تتحرك على أفقه المصالح الاقتصادية والأرصدة البنكية للرموز الحزبية.
أن جلابيب التقوى ، ومظاهر التدين والتمنطق بالنص القرآني، كلها جعلت من فرص حزب الإصلاح في تمرير ثقافته السياسية التكفيرية أكبر بكثير جداً مما هو متاح لغيره من القوى الوطنية. ومن هنا نجد أن القواعد التنظيمية له موزعة على فئتين:
أولاً: الشرائح غير المتعلمة، وذات المستوى التعليمي المتدني، والعصبيات القبلية والمذهبية.. وتتركز هذه الشرائح في القرى والنواحي وعدد محدود من المدن الصغيرة. وهي جميعاً تنقاد خلف الإصلاح بفعل تأثير الخطاب الديني الذي تتقبله الأهالي من غير أن تسعفها ثقافتها المحدودة من تمييزه نوعياً، أو اكتشاف علله وانحرافاته.
فضلاً عن ذلك تدني المستوى المعاشي في تلك الجهات يجعل من المساعدات المالية الممنوحة لبعض الإفراد أو الأسر جواز مرور أي إملاءات حزبية عدوانية نحو هذا الطرف أو ذاك.. أضف إلى هذا عجز الجهات الحكومية عن تأهيل خطباء وأئمة مساجد في فترة سابقة فسح المجال أمام الكوادر الحزبية الإصلاحية لتثبيت نفسها في تلك المناطق لسنوات طويلة ، وبالتالي فإن جميع المتطرفين والإرهابيين المتورطين بأعمال عنف كانوا ينحدرون من هذه الفئة، وأن الغالبية العظمى من الدوائر الانتخابية التي يفوز فيها مرشحو التجمع اليمني للإصلاح كانت ضمن الأقاليم الجغرافية التي تقطنها هذه الفئة أصلاً.
ثانياً: شريحة المتعلمين والأكاديميين ورجال المال والأعمال ، وتتركز في المدن الكبيرة والعاصمة ويقتصر اختصاصها على إدارة اللعبة السياسية إعلامياً وتكتيكياً وسياسياً بعيداً عن أي تأثير ديني أو اعتبار لمثل تلك المسائل.
ومما هو ثابت لدينا أن قواعد الإصلاح في هذه المناطق متجاذبة على أساس من المصالح المادية الممولة من قيادة الحزب- وخاصة المتعلمين بقصد إكمال دراساتهم حتى مستويات عليا أو الموظفين لدعم مركزهم الوظيفي وتمكينهم من الصعود إلى مناصب أرفع ، والشيء نفسه بالنسبة للمؤسسات المدنية والأنشطة الاجتماعية.. وبالتالي فإن كل ذلك يصب في مجرى التمكن من اختراق مؤسسات الدولة الحيوية سياسياً وحزبياً والتدخل في مراكز صناعة القرار السياسي.
ومن هنا نرى أن التجمع اليمني للإصلاح لم يدخل ساحة العمل السياسي الوطني بمشروع أنمائي وتطويري، أو على أساس من التفاعل الديمقراطي مع الغايات الوطنية العامة التي ينشدها أبناء الوطن بل أن جل اهتمامه أنصب باتجاه الكيفية التي يبلور بها مصالحة الحزبية والأطماع السلطوية لقياداته العليا.. فكان من الطبيعي له الوقوف بوجه أي مشاريع تحديثية، أو أي إنماء لثقافة المجتمع، وزعزعة الوضع المستقر الذي قد يهيئ مناخات تنفيذ وتفعيل البرامج التطويرية للدولة والسياسات التقدمية التي تتبناها القوى الوطنية الأخرى.
فالحرص على إبقاء الوضع الثقافي والفكري للجماهير عند مستوياته المتدنية كان بالنسبة لحزب الإصلاح السبيل الانتهازي لعدم التفريط بقواعد الفئة الأولى (التي ذكرناها من قبل) والتي تشكل رهانه الأقوى في المعركة السياسية.. فهي القاعدة المعبأة بمشاعر الحقد على الآخر المختلف، والتي يتنامى في أوساطها الكثير من المغالين المتشددين وبعض المغفلين اللاهثين وراء معاني الجهاد والشهادة المكتسبة بتصفية من غرسوا وصفه في أذهانهم بالكفر والإلحاد والتآمر والخيانة والعداء للإسلام والمسلمين.
وألفت الانتباه هنا إلى أن الإصلاح كان يعتبر الانقياد الأعمى لأفراد هذه الفئة هو ضمانة للعمل المستقبلي أيضاً من خلال ما تفرضه كوادره الحزبية المدربة من وصاية على أبنائهم ونسائهم وكل من تقرب بصلة منهم.. فما كانت المعاهد العلمية إلاّ محاضن سياسية لغرس الولاء للحزب وقياداته العليا، وإنماء مبكر لمشاعر البغض والكراهية للدولة والقوى الوطنية المنافسة .. على أمل أن تقود تلك التعبئة المتواصلة إلى فعل عدواني مندفع بطيش المراهقة وأوهام الرجولة المبكرة والذي ربما يسفر عنه إزاحة بعض رموز التحديث أو قادة الفكر السياسي الوطني، أو من تعتبر تصفيته مكسباً يمهد لقيادة الإصلاح تمرير بعض خططها التآمرية ومشاريعها الانتهازية- على غرار ما حدث في اغتيال جار الله عمر.
إذن فالتكفير لم يكن أسلوبا دخيلاً على السلوك الحزبي الإصلاحي، أو فلتة لسان من رئيس مجلس شورى الإصلاح خلال حديث عابر عن د. ياسين سعيد نعمان، بل هو مبدأ ثابت في المنهج السياسي للتجمع اليمني للإصلاح مارسه الشيخ وغيره من قيادة الإصلاح منذ سنوات طويلة تمتد إلى ما قبل إعلان الوحدة اليمنية.
ولعل تشبث التجمع بالأسلوب التكفيري في العمل السياسي عائد إلى حجم الأثر الذي يخلفه التكفير على الصف الوطني أولاً، ثم على مسار التجربة الديمقراطية التنموية.. فضلاً عن العواقب الخطيرة التي سيعكسها على الساحة الجماهيرية بزعزعة استقرارها وأضرام الفتن بين شرائحها المختلفة.. وهو أمر يقترب كثيراً من صيغ السياسات الاستعمارية القائمة على شعار "فرق تسد"
وعليه فإن التكفير على النحو الذي يمارسه حزب الإصلاح لا يمت بصلة للفكر الإسلامي.. ومن الخطأ بمكان وصف دعاته بـ "حركة إسلامية"، في الوقت الذي يحمل بقية أبناء الشعب اليمني أخلاقاً وفضائلاً إسلامية أرفع بكثير جداً من التطرف والتكفير والعنف والنفاق السياسي الذي يمارسه اليوم دعاة الفتن وحملة بيارق التكفير.
لقد تعلمنا في مدرسة الحبيب محمد "صلى الله عليه وسلم" أن "الدين معاملة" وأن " من كفّر مؤمناً فقد كفر"، وأن خير الحوار هو "جادلهم بالتي هي أحسن"..
وتعلمنا بكل فخر وعزة أن "الإيمان يمان والحكمة يمانية"، وما سواه ليس من إسلامنا، وليس له وطن على أرضنا.
|