نجيب غلاب * - المثقف اليمني بين الحاكم والمعارضة وإفراغ المجال الثقافي مقدمة عامة:
المثقف عادة ما يحدد موقف عقلي من الاحداث التي تدور حوله بمعنى أنه يتعامل مع الحدث ويحكم عليه بعقله وقد يتحرك المثقف في ظل رؤية متكاملة واضحة يحددها مشروع فكري وخلال تفاعله مع واقعه يعيد بناء المشروع باستمرار أو ان حركته الدائمة لمواجهة قضايا الواقع تمكنه من صياغة مشروع يناضل من خلاله، وفي هذه الحالة فأن المثقف يواجه مصاعب لا حصر لها خصوصا إذا كان يعمل في بيئة متخلفة وتحتاج إلى تغيير جذري وشامل على كافة المستويات.
إلا أن المثقف الأصيل صانع الفكر والباحث عن التجديد والتحديث يكون أكثر قدرة على التفاعل مع الواقع وتوجيهه نحو مسارات التغيير كلما عانى هذا الواقع من التردي والسوء وأصبحت إشكالاته معقدة ومتراكمة ومحاط بالشدة والضيق في هذه الوضعية يبحث أغلب الناس عن التغيير ويتحرك الواقع في كل جوانبه المختلفة وتحدث تحولات مختلفة في بنية الواقع ويصبح التغير حتمي والتحولات قادمة لا محالة فالازمة قد بلغت شدتها وعنفوانها إلى درجة فقدان الواقع قدرته على التحمل والصبر وهنا يقف المثقف في نقطة مفصلية فأن غلبته عاطفته وشعوره أو غلبته الايدولوجيا وحدد مواقفه على شعور وعاطفة غامضة وايدولوجيا متعالية وتجاوز عقله فأنه يخلق الازمات المتلاحقه لواقعه.
وهنا أما أن يتجاوز الواقع المثقف غير العقلاني ويعزله وينبذه ويتغير غير آبه به لصالح المشاريع البديلة القادرة على الاستجابة للواقع وحاجاته أما في حالة انعدام البديل فأن المثقف في حالة استمراره في تجاوزه للعقل فأنه يزيد الواقع سوءً ويدخله في أزمات متلاحقه لا تنتهي، إلا بظهور مثقف بديل قادر على استخدام عقله وتوظيف الأزمة لخلق المشروع المتوائم والمستجيب للواقع.
متى يتجاوز المثقف العقل؟
§ عندما تسيطر عليه مقولاته التي صاغها بالاستناد إلى ايديولوجيا متعالية عن الواقع وازماته وتحولاته فانه أن أمتلك سلطة القسر والقهر كأن يكون حاكم فأنه يعيق الواقع من التغير الطبيعي ، وأن كان خارج الحكم ولا يملك إلا سلطته المعرفية فأنه يحول المعرفة التي يملكها إلى حجاب يزيف الواقع لصالح مقولاته وقيمه ومبادئه المؤدلجة، هذا المثقف ليس نتاج الواقع الذي يتحرك فيه ولكنه نتاج واقع آخر من ناحية فكرية ويحاول ان يتفاعل مع الواقع بمنتج فكري مختلف فيعمق الأزمة ويزيد من شدتها. هذا المثقف قد يحمل فكر حديث أو قديم لا فرق فالنتيجة واحدة.
عندما تتحكم العاطفة أو المصالح الأنانية بالمثقف حتى المثقف الأصيل قد يقع في هذه الورطة عندما يستسلم للواقع وتناقضاته ومشاكله فأما أن يصارع بعقلية محكومة بالعاطفة ضد طرف ومتحيز لصالح طرف آخر أو ان يصارع من أجل مصالحه الذاتية وتصبح العاطفة أو الأنا الفردية حاكم لفكره وشعوره، في هذه الحالة لا ينتج المثقف مشروع وإنما ينتج رؤى غاضبه ومتحيزة، ومشاريع انتهازيه.
المثقف الحقيقي من يكون نتاج واقعه أي نتاج تاريخ المجتمع وتحولاته ويحمل رؤية تغييريه تحكم حركته وينتج فكر مقاوم للقوى المضادة للتغيير والتجديد ولأنه كذلك فأنه في المراحل الأولى يدخل في صراع مع واقعه ويصبح المثقف الأصيل عدو الجميع لأنه يتحدى فكر وسلوك طال أمده في المجتمع فأصبح جزء من تكوينه ومن الصعوبة التخلي عنه بسهولة وهو صديق الجميع لأنه يطرح رؤية جديدة تعبر عن طموح الناس وتطلعاتهم خصوصا القوى الجديدة المتعلمة وعندما تنضج قوى التغيير يتحرك المجتمع ليحمل الجديد بسهولة ويسر.
المثقف يكون قادر على تغيير الواقع بتفاعله معه واندماجه فيه حتى يصل إلى درجة الانسجام مع المجتمع بفهمه الفهم الصحيح ويعيش في عمق أزماته ويشعر بمشاكله وقضاياه والمفاصلة معه في الوقت نفسه مفاصلة تجعله قادر على الخلق والإبداع وتجاوز السلبيات فهو مع الكل وضد الكل في الوقت ذاته وهذا يجعله متحررا إلى درجة الاستقلال التام عن ضغوط المجتمع و الحكم والمعارضة ومتحرر من الايدولوجيا والعاطفة السلبية.
المثقف الأصيل من يحكمه عقله ومبادئه وقيمه لا أنانيته ومصالحة الآنية هذا المثقف يملك زمام المبادرة ويجهد نفسه لفهم حركة المجتمع من حوله بالاستناد إلى رؤية فكرية أنتجها العقل ولكنه عقل لا يتحرر من واقعه التاريخي بل يعيد أنتاجه بصورة جديدة بما يتوافق ومشاكل الحاضر وطبيعة المستقبل كما تبدو ملامحه في المشروع الفكري الذي يتحرك فيه المثقف بل ان المثقف الأصيل قد يؤسس لمشروع جديد منبثق من حركة المجتمع وتحولاته.
ويسهم المثقف في تفكيك الأزمات التي تأخذ بخناق المجتمع فتعصر المثقف وترهقه ومن مخاضاتها يخلق أزمات جديدة لكنها أزمات أبداعية فريدة تسهم في التغيير والبناء والتعمير، ولكن مشكلة المثقف أن عذاباته تزداد مع المقاومة التي يحمل لوائها القدماء وعتاولة الفكر القديم وأصحاب المصالح الذين يرون في التغيير نهاية لمصالحهم.
التغيير الجذري والإصلاح
الأزمة قد تصل إلى درجة قصوى يصبح تجاوزها بحاجة إلى تغيير جذري فتخلق مثقفيها وهم من يحدد مسارها أن تفاعلوا معها بالعقل والقيم الجديدة فالشهيد الزبيري ومثقفي الثورة خلقتهم الأزمة التي كان يعيشها الواقع اليمني في ظل حكم متناقض مع القيم العصرية واستعمار مستغل ومناقض لفكرة الحرية وتقرير المصير فكان مشروع الثورة والقيم التي أسست لها ضرورة لإحداث التغيير الجذري والشامل فالواقع أصبح من السوء بحيث أصبح الإصلاح غير مجدي والمثقف يقود التغيير الجذري عندما يصبح هناك إجماع شعبي وقوى مثقفة في المعارضة وداخل منظومة الحكم لا يحكمها السطحي والعمل اليومي ولكنها تنطلق من مشروع بديل واضح المعالم حتى في خطوطه الرئيسية وقادرة على فهم المزاج والرغبة الشعبية وحاجتها للتغيير.
والأزمة قد تحتاج إلى إصلاح ومحاولة المثقف نقالها إلى التغيير الجذري يؤسس لفتنة تعمق الأزمة وتصبح مزمنة وتولد قيم مناقضة للتجاوز وتتوالد أزمات مركبة ومعقدة تخلق معها من يخلق ثقافة تحميها، وهذه الفكرة أدركها العز بن عبد السلام الذي خلقته الأزمة ولولاها ما سمعنا به ولكنه تحكم بمسارها وكان النصر حليف مشروعه رغم أن طبيعة الحكم كانت متناقضة مع نسقه الفكري لكنه عمل على التعاون من اجل البناء والتعمير ورفض الواقع وعمل على تعديله ولم يضع رؤيته بحدها الأعلى والنموذج المبتغى ولكن واقعية تبحث عن الأفضل في ظل واقع حاكم ومتحكم بالمثقف ولكن المثقف يسعى دائما لتغييره وهذا موقف عقلي وواقعي رغم أن النسق الفكري الذي يحركه مثالي ولكنه غير متعالي عن الواقع لأنه يشكل للواقع حلم ونموذج، قارن تعامل المثقف التاريخي مع المثقف المعاصر الانتهازي القادم مع الدبابة الأمريكية في العراق فالمشروع الذي دافع عنه مثالي ولكنه افرز أزمات غير قابلة للحل على الأقل في المستقبل المنظور.
وقد لا يتجاوز المثقف الأزمة مهما بلغت أصالته فالمثقف قد يفهم ويحلل واقعه
بطريقة عقلية ويكتشف أسرار التحولات ولكن الواقع بإشكالاته المتراكمه تبلغ درجة التعقيد، بحيث تصبح رؤية المثقف رغم قوتها ونضجها وقدرتها على فهم الواقع إلا أن الواقع يتركها ولكن لمثقف لا يموت يظل نبراسا خادما للتطور الفكري لمن يأتي بعده ويشكل العلامة بن خلدون خير مثل للمثقف المبدع الذي جسد أعلى مراحل تطور العقل الاسلامي في التفكير المستند على منهجية عقلية واضحة المعالم ولكن الواقع بلغ من السوء بحيث يصبح عاجز عن التعامل مع المثقف.
على الرغم ان العلامة ابن خلدون لم يضع مشروع لكن التفسير الذي أتبعه في فهم التاريخ رسم معالم مشروع ناضج ومتماسك والمنهجية العقلية في التفسير والفهم والتحليل حملت في طياتها مشروع عظيم لو تم التعامل معه بشكل صحيح لكانت مشاعل الحضارة الحديثة التي يحملها الغرب بأيدي العرب.
أزمة المثقف اليمني:
اليمن تمر بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية في هذه المرحلة من التاريخ وبلغت الأزمة شدتها ووصلت القلوب إلى الحناجر والعالم من حولنا يتغير كل لحظة من المفترض أن تنتج لنا الأزمة مثقفين عظماء قادرين على التفاعل مع هذه التحولات التاريخية ولكن الخمول مازال قائما والتعامل مع الواقع يتم بالطريقة القديمة ويتم إعادة إنتاج التحليلات السابقة الجامدة فالمثقف اليمني أما أن يعيد إنتاج الماضي ويصارع في وديان خاوية تعيق التغيير وتنتج التخلف أو أن يستهلك طاقاته في قضايا لا علاقة لها بواقع الناس أو أن يصارع من اجل السلطة والثروة. ونتج عن ذلك إشكاليات كثيرة يمكن إجمال بعضها في التالي:
الإشكالية الأولى:
التحليلات المقدمة لفهم الواقع مبنية على موقف عاطفي فالمثقف اليمني لا يحاول أن يفهم ويحلل ويفسر مستخدم منهجية عقلانية بل يبني رؤيته على أساس عاطفي ويحكم على الواقع حكم قيمي فلا يستخدم عقله إلا فيما ندر في فهم الواقع هذه العاطفة ممتزجة بالايدولوجيا وملتحمة بالمصالح الأنانية للفرد أو للمجموعة التي يدافع عنها.
وفي ظل الأزمة المركبة التي يعانيها المجتمع ومع التحولات الداخلية والعالمية فالطريقة السابقة لا تقود إلى التغيير لان التغيير يحتاج إلى تفكيك الواقع بمنهجية علمية وبطريقة تؤسس لمشاريع عقلانية لا تتجاوز الوضع التاريخي لليمن وتجربته الحضارية.
الإشكالية الثانية:
الإغراق في السياسة والدخول في مواجهة مع النظام السياسي ونفي شرعيته و وممارسة النقد بصرامة وجراءة وتجاوز حدود اللياقة وتحدي سلطة الدولة وقوانينها بطرح رؤى سياسية مؤسسة للعنف والتعامل مع الحاكم كعدو ورفض شرعيته الدستورية وهذه التعامل في ظرفنا الراهن يدمر ولا يعمر، وقول هنا لا اختلاف في نقد الحاكم وبقسوة فهذا أمر مبرر ومقبول طالما ظلت الموضوعية هي المتحكمة في قولنا فالحاكم هو المحتكر الشرعي لوسائل العنف ولإكراه وله القدرة على فرض وسائل مادية ومعنوية لمحاصرة الحرية إما باستخدام القانون أو بطرق أخرى قد تكون اقل شرعية كمحاصرة المثقف الناقد بحرمانه من التكريم المعنوي ومحاصرته بحرمانه من مواقع التوزيع السلطوي للثروة والهيبة وفي جميع الحالات فان المثقف الأصيل قادر على خلق البدائل دون أن يغرق نفسه في حالة مواجهة شخصية تتحكم بها عواطف الكراهية والحقد ويظل المبدأ هو الأصل لذا قد تجده في لحظة تاريخية عندما يتوافق مع السلطة السياسية يقاتل في صفها دون ان يكون معها، ولكني أختلف مع من يسلط كل الطاقة النقدية نحو السياسي وينسى السلط الأخرى التي ربما تكون أشد قسوة على المثقف وتحاصره من كل مكان بما في ذلك السلطة الداخلية للمثقف التي يفرضها على نفسه أما نتيجة خوفه من سلطة السياسة أو الدين أو المجتمع أو الحزب..الخ أو سلطة رغباته الجامحة في الثروة والسلطة والهيبة.
من جانب الأخر يمكن القول أن الموقف الذهني ليس بالضرورة ان يكون ناقدا بصرامة وقائم على المواجهة حتى في الحالات التي يتم فيها التأسيس لمشروع بديل، وقادات التغيير في الفكر الإنساني عارضوا بقوة لكنهم ظلوا ملتزمين بما يحفظ للمجتمع تماسكه وتضامنه فسقراط قاوم وتحدى ولكنه تجرع السم بقناعة تامة احتراما للمجتمع وقانونه الناظم له وفي تاريخنا الإسلامي كان المثقف قوة إيجابية تقاوم الفعل الخاطئ بطرح الرؤية الاصواب، فالشيخ الجليل بن تيميه لم يدخل في مواجهة حاسمة وغاضبة وناقده لواقعه لكنه وصف الواقع وأزماته ومثالبه ولكنه كان واقعي إلى درجة قبول مغتصب السلطة والتعامل معه لكنه لم يوافق على هذا الاغتصاب واعتبره خارج عن القيمة الاصلية لمفهوم الحاكم المختار بإرادة حرة من الناس، كان الشيخ يُحكّم العقل فجعل الدولة العادلة وأن كانت كافرة منصورة والدولة المسلمة مهزومة أن كانت ظالمه، كان يتحرك برؤية واضحة ومشروع فكري أسس له فكان رمزاً مستمراً للمثقف الباحث عن الصواب، مثقف متحرر قاتل الاعداء مع سلطة أعترف بشرعيتها وهو على يقين أنها مخالفة للمبدأ الذي يحكم نسقه الفكري ولكنه مثقف حقيقي يقاوم ويبني يعارض ويؤيد يتحرك بما يخدم واقعه وتحولاته، استشهد المثقف في السجن ولكن فكره ظل نورا يرشد الأحرار من بعده لا بإعادة إنتاجه بل بتجاوزه وفق مقتضيات وحاجات الواقع وتحولاته فالحركة الدائمة للحياة تخلق مثقفيها ومشاريعها الجديدة المتوائمة مع حركة الواقع وتفاعلاته وحاجاته، وأن كان لها نكهة القديم ولكنها تظهر بصورة جديدة كأنها خلق جديد، وأي محاولة لإعادة أنتاج المثقف القديم ببعث فكره كما هو فان النتيجة مثقف هزيل معزول ومهزوم وعاجز لا يمكنه في تفاعله مع الواقع إلا أن ينتج الأزمات نتيجة اختلاف الزمان والمكان فالبعض قد بعث أفكار الشيخ الجليل بصورتها القديمة فأصبحت مدانة ومتخلفة وأصبح المثقف العظيم محل إدانة من البعض بفعل سذاجة من قاس الحاضر على الماضي وتحيز من حكم على أصلة الأصيل بسلوك المقلد البائس. استشهد المثقف في السجن ولكن فكره ظل نورا يرشد الأحرار من بعده لا بإعادة إنتاجه بل بتجاوزه وفق مقتضيات وحاجات الواقع وتحولاته فالحركة الدائمة للحياة تخلق مثقفيها ومشاريعها الجديدة المتوائمة مع حركة الواقع وتفاعلاته وحاجاته، وأن كان لها نكهة القديم ولكنها تظهر بصورة جديدة كأنها خلق جديد، وأي محاولة لإعادة أنتاج المثقف القديم ببعث فكره كما هو فان النتيجة مثقف هزيل معزول ومهزوم وعاجز لا يمكنه في تفاعله مع الواقع إلا أن ينتج الأزمات نتيجة اختلاف الزمان والمكان فالبعض قد بعث أفكار الشيخ الجليل بصورتها القديمة فأصبحت مدانة ومتخلفة وأصبح المثقف العظيم محل إدانة من البعض بفعل سذاجة من قاس الحاضر على الماضي وتحيز من حكم على أصلة الأصيل بسلوك المقلد البائس.
الإشكالية الثالثة:
تحويل القيم التي يدافع عنها المثقف إلى قيم مطلقة وتصبح هي الحق الذي لا يأتيه الباطل وتتحول الأفكار السياسية مثلا إلى أفكار ميتافيزيقية مطلقة لا يمكن التشكيك بها وتصبح حقائق يقينية أشبه بالعقائد الدينية وتتحول الفكرة النسبية التي هي نتاج عقلي من المحتمل أن تكون خاطئة أو لنقل غير عملية حق مطلق نقدها يعني خيانة للقضية وبهذه الطريقة يتم التشبث بالفكرة والنضال من أجلها للتحول إلى صنم معبود انظر تعامل أحزاب المشترك في تعاملها مع مشروعها السياسي وقناعتها المطلقة ان السياسي طريق لإصلاح كل مناحي الحياة وهذه ليست حقيقية مطلقة فالثقافة مثلا قد تكون لها الأولوية لإحداث التحول، والتاريخ الإنساني الفكري والعملي الواقعي لم يمنح السياسي أولوية للتغيير ولكن الفكر المؤدلج عندما يعجز عن تغيير الواقع يتجه إلى السيطرة على السلطة السياسية واستخدام أدواتها لخدمة الفكر ومصالح النخب الحزبية.
وهذا السلوك لا يهتم بمدى فائدة الفكرة في خدمة الواقع ومنفعة الناس وإنما تصبح القيمة أو الفكرة هي الأصل ويتم إبداع التبريرات المختلفة لحماية الفكرة وقدرتها على معالجة مشاكل الواقع وهنا لا يتم الاستناد على رؤية تحليلية شاملة لفهم البيئة المحيطة وإنما يتم التركيز على جزئية معينة ويتم تعميمها لتصبح هي أسباب كل المشاكل فالعقدة لدى المشترك تتمحور في سلطات رئيس الجمهورية الواسعة وهنا يتم تحميل هذه السلطات كل المشاكل التي يعاني منها الواقع ويتم اختراع مشروع يعالج هذه الجزئية من وجهة نظرهم رغم أن المسألة احتمالية فقد يكون عكس الفكرة هو الصحيح فصلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية ربما هي أكثر جدوى لواقعنا اليمني كان الأجدر بالمعارضة أن تطالب برؤية أكثر منطقية تحد من سلطات الرئيس وتفرض قيود معينة ورقابة ناجعة على سلطاته الواسعة أما الطريقة الانقلابية على المسألة والاعتقاد أنها الحق المطلق فهذا يعني جهل السياسة والتعامل مع المعرفة بعقلية ساذجة وتسطيح للقضايا يخرب ولا يعمر.
الإشكالية الرابعة:
الانخراط في المشاريع السياسية والدفاع عنها وتحاشي أي نقد للتجارب السياسية السابقة وأخطاء الماضي والممارسة العملية فالمعارضة السياسية الراهنة من القوى اليسارية والقومية والإسلامية تناضل من اجل الديمقراطية مثلا دون نقد لتجاربها السابقة الرافضة للديمقراطية وتجاربهم السياسية لم تنقد ولم يخرج مثقف من أوساطها ينتقدها حتى تكون قادرة على تكييف نفسها مع التحولات وقادرة على بناء مشاريع فكرية متماسكة ومستجيبة للواقع وحاجاته.
أما النخب المثقفة المؤيدة للحكم فأنها تدرك بوضوح طبيعة المشاكل التي يعاني منها الواقع ولكنها تنخرط في مواجهة مع المعارضة خوفا على مصالحها وتخاف أن تمارس نقد ذاتها لأنها تخاف من ان تستغل القوى المنافسة نقاط ضعفها ورغم ان النقد الذاتي يسهم في تجاوز الأخطاء إلا أن مثقفي السلطة يتيهون في مقولات تبريرية غير متسقة مع واقع المشاكل يفقد مشروعهم السياسي قيمته رغم قدرته على تجديد نفسه بلا مخاطر من خارجه فالمخاطر ربما تنفجر من داخله وهذه مسألة مهمة للتخلص من القوى الشريرة التي تمتص رونقه وربما هي المعيق الفعلي لنقد التجربة من الداخل.
ويمكن القول أن القوى المثقفة المؤيدة للحكم تعيش حالة أزمة مزمنة وغير قادرة على توظيف المشروع الوطني والقراءة المقدمة من القيادة لخلق رؤى فكرية وثقافة حية قادرة على مواجهة الانتكاسات التي يحدثها أهل الفساد في منظومة الحكم والمدعومة من القوى المعادية أما بصورتها التآمرية القذرة أو بصورتها الوطنية التي تحاول إخراج مسارات المشروع بما يخدم رغباتهم الجامحة في السلطة والثروة بصرف النظر عن المخاطر التي قد تدمر المشروع الوطني .
الإشكالية الخامسة:
نفي الآخر والاعتقاد الجازم بان رؤية معينة هي الحق وما عداها باطل رغم انطلاق الجميع من نفس المرجعية وهي القيم المؤسسة للمشروع الوطني وهذا الطرح لا يدرك أن الواقع الواحد لا ينتج أفكار متشابهة حتى في ظل المشروع الواحد وكل مثقف له تفسيراته وفهمه للواقع والحلول المطروحة من المثقفين قد تكون مختلفة ومتناقضة ولكنها ملتزم بجوهر المشروع والواقع المجتمعي والمجتمع يختار ما يناسبه من المنتجات العقلية هي كلها صواب لأنها نتاج الذهن في تفاعله مع الواقع المحيط ولكن حركة الواقع لا تنسجم إلا مع صواب معين في لحظة تاريخية معينة وقد تنتقل الحركة نحو الصواب الآخر بعد أن عدل نفسه وتطور وأصبح أكثر قدره على التوافق مع حركة التحولات وأسهم في الدفع بها نحو الآفاق الجديدة، المهم أن المثقف الحصيف من يتماهى مع الواقع ويخلق مشروعه الفكري من عمق واقعه لا واقع آخر متخيل في الذهن أو منقول من مكان وزمان مختلفين كما هي عليه الحركة الحوثية أو الحركات المناضلة باسم الجغرافيا ليتحول المكان إلى قيمة محورية حاكمة لحركة الفكر والسياسة كالحركات السياسية الرافعة قميص المسألة الجنوبية.
الإشكالية الخامسة:
المثقف الانتهازي المتحرك في مجال الأنا الفردية أو المناطقية والمتحيز لطائفة أو عشيرة أو حزب وتوظيفه للمعرفة والثقافة والفكر لخدمة مصالحه أو مصالح من يمثلهم بصرف النظر عن القيم المؤسسة للمشروع الوطني وعلى الرغم أن حركته قولا وفعلا إلى فناء ولكن تأثيراته السلبية على الواقع مضرة وتضعف التقدم ولكنها من جانب آخر تخلق مقاومة داخلية تقضي عليها لصالح القيم الناضجة المؤسسة للتضامن والإجماع العام.
فالمثقف الانتهازي الرافض لقيمة كالوحدة اليمنية أو المقاوم للدولة الوطنية والنازع نحو الولاءات الدنيا أو الباعث للماضي بوجهه القبيح المؤسس للصراع والتناقض بين أعضاء الجماعة الوطنية أو المثقف المتحرك في ظلال الأنا الفردية المؤسسة للفساد والاستبداد هذا المثقف أيّاً كان منهجه ومبرراته العقلية يمثل نقيض لفكرة المثقف الملتزم المدافع عن مشاريع عقلانية متوائمة مع الواقع وحاجاته ومع طبيعة الإنسان ومتناقض مع الحراك العصري الباحث عن الرقي الإنساني وفق قيم تؤسس للتوافق والسلم والتضامن والتعاون، والمثقف الانتهازي موجود في ثنايا السلطة والمعارضة على السوء وهؤلاء تحكمهم مصالحهم الأنانية وهذه الفئة هي الداعم الفعلي لقوى الفساد وجزء من عملية الإنتاج المستمرة للفساد.
والمثقف الانتهازي في تصوري نتيجة لإشكالية مركبة تواجه المثقف اليمني تنتجها عملية مركبة جزء منها يعود إلى ضعف المثقف وعدم امتلاكه أدوات منهجية وعلمية وعجزه عن تناول القضايا الجوهرية في بنية الثقافة التقليدية الاجتماعية أو في البنية السياسية والاقتصادية وجزء آخر مرتبط بالسلوك والفعل اليومي وبالعادات والتقاليد المتناقضة مع الإنتاج المعرفي فالمثقف الانتهازي مازال متماهي مع الثقافة بوجهها السلبي فمازال الولاء العصبوي بشتى أنواعه في البيئة اليمنية متحكمة بسلوكه على مستوى السلوك والقول المتبادل بين الأصدقاء ذوي الانتماء المتشابه فعلى مستوى الخطاب يتحدث عن مثاليات ومع الواقع يتحرك كأنه جزء منه، ويصبح النقد الموجه والاعتراض على مستوى الخطاب محكوم بما يحرك العقل الباطن لا الخطاب المعلن والنتيجة أن المثقف لا يحلل ولا يفكك بل يتهم ويشتم ويغضب.
فالقيمة كمحدد جوهري لالتزام المثقف منفية هنا يفقد المثقف مصداقيته حتى أمام نفسه ولا يجد من طريق أمامه إلا ان يستمر في تناقضاته ويغرق في انتهازية مقيتة ومع الوقت يبدأ في التنظير للقيم المتخلفة ويعيش حالة من الشقاء بين المثال المتعالي الذي يتمنى ان يكون عليه وبين رضوخه وهزيمته أمام الواقع.
وسبب في تصوري المصالح الأنانية التي يخاف عليها أو يريد تضخيمها وعندما يحس المثقف أن حركته متجه نحو الأنا بوجهها القبيح هنا يقع فريسة تناقضات لا حصر لها بين الحقيقة وما يقول بين المصلحة الذاتية والمصلحة العامة بين المنهج الموضوعي والنقد الزائف غير المبرر ويعيش حالة شقاء مدمرة فيتجاوزه الواقع وينبذه ولكنه يستمر في خلق الأزمات وإعاقة تطور المجتمع.
الإشكالية السادسة:
الصراع من أجل الراهن وتجاهل التأسيس الثقافي وغياب المثقف المستقل فالمثقف المستقل في الجامعات والصحف ومراكز البحث وداخل الأحزاب وفي منظمات المجتمع المدني يكاد حاله حال النجم في ليلة ظلماء فالمتابع للندوات والحوار والنقاش والكتابات الصحفية والفكرية والبيانات والمعارض والفن والأدب والتقارير الإستراتيجية...الخ أغلبها متحيزة لطرف ضد آخر والمصيبة العظيمة أنها متضخمة بلغة السياسي الذي يفكر بالراهن والسطحي ولا هم لها بالتأسيس والبناء الثقافي والفكري.
أن غياب المثقف المستقل واستمرار الوضع لصالح الحرب بين مثقفي السلطة والمعارضة يؤسس للمناكفات السياسية والحروب الإعلامية التي لا تغني ولا تسمن من جوع ويجعل العمل السياسي مجال للصراع الضار وعليه فأن ضبط العمل السياسي وتأسيسه على قيم أصيلة وحقيقية يحتاج إلى إعادة الاعتبار للمجال الثقافي كمجال ثالث يخلق توازن حقيقي في حرب داحس والغبراء اليمنية.
الإشكالية السابعة:
فقدان الأمل والتشاؤم وغياب الدراسات المهتمة بالمستقبل فالجميع غارق في الراهن والآني وهذا ولد إحباط يلف عقول وأرواح البعض فأقعدهم عن التفكير في المستقبل وإذا فكر البعض بالمستقبل فأنه أما أن يغرق نفسه في حالة من التشاؤم واليأس يصل أحيانا إلى مرحلة القنوط وهكذا تعامل ينتج رؤى مستقبلية غامضة وغاضبة وتهدف إلى تعبئة الناس وأما أن يقدم المثقف تحليلات نقدية قاسية تفكك الواقع بسيوف محارب لا بمشارط طبيب ماهر وهذا يجعل منها تنكأ الجرح ولا تعالجه وهي أشبه بهموم يتم تفريغها دون طرح البديل أما البعض الآخر نتيجة يأسه يطرح حلول مثالية لا علاقة لها بالواقع مستقاة من عوالم الماضي أو تجارب شعوب أخرى وهدفها رفض الراهن بكليته والتأسيس لحلم يعشش في العقول مسنود بقيم إيديولوجية غير قادرة على تحليل الواقع وحلول مطروحة لا يمكن أن تعمل في الواقع مما يجعلها غير قادرة على صياغة سياسة أو ترشيد قرار وهذه الرؤى تنتج الفشل والعجز ولا تخدم التغيير ولا تؤسس لمستقبل واقعي فهكذا تعامل في ظل واقع يعاني من مشاكل كثيرة ومتراكمة يجعل النتائج العملية أما أن تؤسس لمشاريع الأنا الفردية ويصبح كل فرد مشروعه ذاته وهذا يؤسس للفساد أو تؤسس لفكر يبحث عن المستقبل بعد الموت وينسى نصيبه من الدنيا وهنا تصبح الحلول تتمحور حول فكرة الموت وهنا يجمد العقل ويقيد الإنسان عن العمل والإبداع والإنتاج ويغرق في الصوفية والانعزال عن الواقع وإذا تحرك هذا المشروع فأنه يضع حلول إنقاذية ثورية ومتهورة لا عقلانية تجعل من الجسد معبر إلى السعادة الأبدية وينتج عن ذلك إرهاب مجنون يجذر ويرسخ التخلف ويغرق الحياة في صراع الفناء والدمار وتصبح الحركة مناقضة لأصل الوجود الإنساني وفطرته التي غرسها الخالق فينا الساعية دائما لتعمير الأرض واستعمارها وإقامة العدل.
الإشكالية الثامنة:
المثقف المأزوم الذي يحلل ويفهم الواقع بناءً على مواقف عاطفية ويدخل في مناكفات ومنافسة مع الأنداد أو الزملاء أو الحزب المضاد أو الحاكم وتتضخم ذاته ويدور حولها ويعتقد بالجدارة والأحقية وينبذ الآخر ويشوه ويدمر صورته وتتحول الأدوات المعرفية لفهم الواقع إلى خناجر للانتقام. وهذا المثقف يتحول إلى أداة تبريرية لكل حدث وفعل يتوافق مع مواقفه ورؤيته، فيصبح من صنّاع الأزمات ويعيد إنتاجها وبصورة أشد وطأة على المجتمع.
ما لعمل؟
يمثل في تصوري فك الارتباط بين المجال الثقافي وسيطرة المعارضة أو السلطة عليه نقلة نوعية لخدمة التغيير والتحولات بحيث يصبح المجال الثقافي قوة ثالث محايدة ومستقلة عن التوظيف لصالح القوى المتنافسة وبحيث يصبح المثقف قادر على التقييم بحياد تام واستقلالية وهذا لا يعني أن يصبح المثقف بلا موقف بل هو صاحب مشروع وتمثل القيم المؤسسة للمشروع الوطني حاكمة لرؤيته وهذا لا يعني الدفاع عن مفاهيم جامدة بل قيم في حالة من الحراك والفاعلية والمثقف هو القادر على تفعيلها ومنحها القوة بالتفسير والتحليل وإعادة بنائها بما يتوافق والمتغيرات ومصالح الوطن وحاجات الناس وطموحاتهم.
فالمثقف المستقل يكون أكثر حرية ومنتمي للمجال العام والمصالح العامة وخدمة الناس بمعزل حتى عن مصالحه بحيث يكون البحث عن مصالح العموم سابق على كل المصالح وهذا المثقف يختلف عن المثقف في مجال السلطة أو مجال المعارضة الذي يحاصر في رؤية حزبية.والمثقف المستقل عادة ما يكون انتمائه لمصالح الناس أولا وأخيرا، ومتحررا من الايدولوجيا الزائفة التي لا تعبر عن الواقع وتحكمه قيم ومبادئ المجتمع التي جسدها المشروع الوطني ويدافع عنها برؤية منهجية وعقلانية متحيزة لمصالح العموم.
واستقلال المثقف يعطي الناس قادرة على فهم مصالحهم من خلال منظار متحيز ومنتمي لمصالحهم المادية والمعنوية ومتجاوز للصراع السياسي بين الأحزاب وقادر على تقييم السلوك والفعل السلطوي للحاكم والمعارضة وتفكيك التناقضات لدى وجهي السلطة ويساعد الجماهير على امتلاك حريتها من استغلال الإطراف السياسية والإيديولوجية التي تستخدم التعبئة لتحريك الناس.
أما الدور الأكثر فاعلية للمثقف المستقل فهو بناء القيم الوطنية والإنسانية والمبادئ والقواعد المنظمة للحياة الاجتماعية والعمل على تأسيس المشاريع الفكرية والثقافية القادرة على إحداث التغيير فمشكلتنا في اليمن أن المشاريع السياسية بناء في فراغ فكري، فالمشروع السياسية للمعارضة مثلا مؤسس على رؤى فكرية مشتته وغير واضحة ومعزولة عن طبيعة الحراك الاجتماعي وواقع الناس وعلى الرغم من تأكيده وبطريقة مثالية للقيم الديمقراطية والمطالبة بالتغيير الشامل للمنظومة السياسية وفق الطرح الذي يؤسس له المشروع السياسي الليبرالي إلا انه منتج مثالي لا يعبر عن أصحابه ورغم تناقض المشروع مع نفسه في جوانب أخرى والذي يهمنا هنا المبالغة في الحديث عن قيم كانت نتاج مشروع ثقافي متكامل تشكل خلال فترة زمنية طويلة في الغرب والطرح المقدم غير متسق مع التحولات الديمقراطية وطبيعة المجتمع اليمني ناهيك أن القيم المطروحة في التحليل النهائي ليست مؤسسة على الطرح المعرفي والفكري الحاكم للمدافعين عنه والمناضلين من اجله مما يجعله مشروع مؤسس على فراغ فكري وثقافي.
ولكن المشروع دخل بقوة في الساحة وأصبح الحل السحري لكل مشاكل الواقع والإشكالية ان بعض المثقفين المستقلين تحولوا إلى قوة داعمة للمشروع والنضال من أجله وتحول هنا المثقف إلى سياسي لصالح المعارضة وتأثر بالسياسي المعارض وأصبح راضخ لمقولاته وتابع له ففقد استقلاليته وقيمته المعنوية والمثقف المستقل يختلف عن المنتمي للمعارضة أو للحاكم فقد يدافع المثقف المعارض عن مشروعه مثله مثل المثقف العامل من أجل المشروع الذي يحمله الحاكم ولا عيب في ذلك ولكن فقدان الحس النقدي لدى المثقف المستقل وانجراره وراء السلطة أو المعارضة أفقد المجال الثالث هيبته وجعله ضعيفا يعمل فيه أقلية منبوذة من المعارضة والسلطة ويمارس عليهم ضغوط من المجالين والسحب مازال مستمر من رصيد المجال الثالث، ويمثل الأستاذ نبيل الصوفي وضعية المثقف المدافع عن المجال الثالث وهذا ربما يفسر لنا انتشاره ومنطقية خطابه وتلقيه هجوم من مثقفي المعارضة وتخوينه واتهامه بالعمالة للسلطة أما مثقفي السلطة فتعاملوا معه كتعامل المعتزلة مع مرتكب الكبيرة فلا هو كافر ولا هو مؤمن ولكنه في منزلة بين المنزلتين.
واستقلال الجانب الثقافي يمنح الحكم والمعارض قوة تحميهما من الغلو في الخطاب فالحاكم يركز على المنجزات وثبات الأوضاع فالتغيير ربما يؤثر على الأمن والاستقرار، وان تحدث عن الإصلاح والتغيير فانه يضعها بالطريقة التي تثبت الأوضاع ولا تقود إلى التغيير القوى والفاعل أي أن تظل حركة التغيير خادمة لمصالح القوى السياسية في الحكم، أما المعارضة فأنها تركز على السلبيات وتنفي كل الايجابيات ويصبح التغيير اقرب إلى فكرة الثورة والتغيير الجذري لان كل شيء فاسد وهذا التناقض في الخطاب يخلق أزمات متلاحقة والحل باستقلال الجانب الثقافي.
مقترحات لتطوير وتحرير المجال الثقافي:
في ظل ضعف النخب المثقفة المستقلة وفقدانها للأدوات التي تمنحها القدرة على منح الثقافي قوة وهيبة وتجعله قادر على التواصل مع قوى المجتمع المختلفة نقترح التحرك في المسارات التالية لدعم المجال الثالث:
§ العمل على تحرير المجتمع المدني وإخراجه من هيمنة الأحزاب وتحويل النقابات ومنظمات المجتمع المدني المختلفة إلى قوة حقيقية تعمل لصالح أعضائها.
§ تحرير المجال الثقافي من السيطرة السلطوية للحاكم والمعارضة.
§ بناء الوعي السياسي على القيم الجديدة وتجاوز الفكر الإيديولوجي والتركيز على القيم العقلانية والإنسانية وقيم الحرية والديمقراطية وتحرير الثقافة الوطنية من النزعة الإيديولوجية والتفسيرات السطحية والخطاب التعبوي المفرغ من معاني التحليل والتفسير والفهم والأقرب إلى ممارسة السياسية بالشعار وممارسة الخداع بالمفاهيم والقيم الثورية أو الدينية.
§ النضال من أجل القيم المؤسسة للدولة الحديثة ومشروعها الوطني المتمثل بأهداف الثورة فالوحدة والديمقراطية والتنمية بمفهومها الشامل، واستقلال القرار الوطني وبناء شراكه حقيقية مع العالم ثوابت وليست محل خلاف.
§ نقد النظام السياسي بجانبه الحاكم والمعارض بهدف دعمه وتقويم حركته ونقد تصرفاته المتناقضة مع طبيعة المشروع الوطني وتجاوز الأفكار المتطرفة فالمثقف الذي يرفض الحاكم ويسلبه حقه في الحكم المؤسس على شرعية شعبية مثلا يصبح هذا السلوك اقرب إلى الفوضوية والدفاع عن مشاريع عديمة.
§ التأسيس الثقافي للقيم الحديثة كالديمقراطية فالإشكالية التي تواجه الجميع أنهم جعلوا من حول القيم الحديثة إلى شعارات وسلوكيات معزولة عن المجتمع لأنها تفتقد إلى التأسيس الثقافي القادر على تحويلها إلى قيم متوافقة مع البنية الفكرية والثقافية. فمثلا لم أطلع على دراسة جادة تحاول ان تفهم آثار العولمة وما تحمله من قيم على الثقافة اليمنية بمعناها العام المعرفي والثقافة الشعبية ولا توجد دراسات إلا فيما ندر عن التأثير المتبادل بين الثقافة المحلية والتحول الديمقراطي ولا يوجد قراءات جادة حتى الآن تحاول قراءة الثقافة المحلية بما ينسجم مع التحولات الراهنة في الداخل فيما يخص مثلا قيمة الحرية بمفهومها ودلالاتها الليبرالية كمُدخل جديد على العقل اليمني خصوصا بدلالاتها الحديثة. فالقراءات الدعايّة والاندفاع والتهور في الانخراط في الديمقراطية أفقدنا الحس النقدي القادر على إعادة قراءة الديمقراطية بما يتوافق وظرفنا الراهن وطموحنا المستقبلي.
§ التركيز على المستقبل فالمثقف يضع المشاريع ليغير الراهن ويصنع المستقبل.
ملاحظات مهمة:
الملاحظة الأولى على الرغم أن الحاكم والمعارضة لا تحبذ استقلال الثقافة خوفا على أعضائها من قوة الخطاب الباحث عن الصواب لأن الخطاب الثقافي عادة تفكيكي يعتمد التفسير ويتبع منهجية موضوعية ولا همّ له إلا المصالح الوطنية برؤية موضوعية متحيزة للقيمة ولكن وجودهم داخل الأحزاب يمنحها شرعية شعبية ويساعدها على تجاوز أخطائها وهذا جعل الأحزاب تستقطب بعض القوى المثقفين التي تميل في الغالب إلى المجال الثالث ووجودهم في تصوري داخل الأحزاب مهم جدا ويشكل دعم قوى للمجال الثالث وكلما كان خطابهم الثقافي قوي وناضج فأنه يسهم في ترشيد الخطاب السياسي لكن عليهم أن يحذروا من منافسة السياسي فالمثقف إذا فكر بمنافسة السياسي فان الصراع يقوده إلى الإغراق في العمل السياسي ومع الوقت يصبح جزء من اللعبة السياسية وراضخ لقوانينها وهي قوانين تختلف عن قوانين الثقافة وأصحابها.
الملاحظة الثانية هناك قوى مستقلة هي أكثر تبعية للأحزاب أكثر من أعضائها.فبعض القوى المستقلة انخرطت في مشروع المعارضة وهي الوجه الآخر للسلطة هنا يفقد المثقف استقلاليته ويصبح تابع للمعارضة فمهما توافقت وجهات النظر فالمطلوب أن يلعب المثقف المستقل دور المراقب الموضوعي لان التحيز التام يفقد المثقف مصداقية القول والفعل ، فالمثقف الذي يفند قول وفعل الحاكم ويلعب دورا تبريرياً لسلوك المعارضة ومشاريعها يصبح جزء من المعارضة، وهنا يغادر المثقف المجال المستقل ويدخل مجال السلطة المعارضة وينطبق الحال تماما على مؤيدي النظام على طول الخط.
الملاحظة الثالثة تمثل الحرية المحور الجوهري للتأسيس الثقافي وبدونها يفقد المثقف أكسجين الحياة ويمكن القول أن الحرية قد تواجه الحرية بعض المشاكل أثناء شغلها في واقعنا اليمني إلا أن الملاحظ ان تلك المشاكل لا تنبع من مقاومة لفكرة الحرية وحق التعبير وإنما تتعلق بالتفسير والفهم للمصالح الوطنية وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع المثقف ان يخترق كل الخطوط الحمراء في مواجهة السلطة السياسية وبطريقة مناقضة لفكرة الحرية كالتزام ومسئولية وهذا أثار بعض القوى داخل السلطة وجعلها تمارس سلوكيات سلبية في محاولة يأسه للحد من سقف الحرية إلا ان هذه سلوكيات فردية وليست سياسة عامة، ومعظم القوانين الصادرة والأنظمة بخصوص الديمقراطية متوافقة مع طبيعة التحولات والمطلوب التعقل والمرونة من الجميع والنضال من اجل تفعيل القيم المؤسسة للديمقراطية والتي تشكل محل إجماع وطني على مستوى الخطاب والتحرك ليصبح السلوك الفعلي متوافق مع القول ويمثل الوقوف ضد الانتهاكات بإستراتيجية منفتحة ومدركه للواقع ومشاكله ضرورة ملحة في الوقت الراهن، وفي تصوري أن المثقف حتى اللحظة عاجز عن مواجهة السلط الأخرى وإذا لم يفعل فانه لن يتحرر وسيظل عاجز عن أي تأسيس للقيم الجديدة في البنية الثقافية اليمنية هذا أن لم يصبح جزء من إعادة الإنتاج كما هو حال البعض في الماضي والراهن.
الملاحظة الرابعة إن المتابع للحراك الثقافي في اليمن يجد ان المثقف شبه معزول عن المجتمع وإذا ما استثنينا المثقف السلفي بجانبه المنفتح والمنغلق فان المثقف التحديثي أو المجدد يكاد يعيش في حلقات معزولة عن المجتمع وخطابه موجه لمجموعة ثقافية محاصرة تخاطب نفسها مما يجعل تأثيره منعدم في الواقع العملي. فالمدينة التي يتحرك فيها المثقف لا تعرف المثقف ولا تعرف عن منتجاته إلا القليل فكيف بالريف؟ وعلى الرغم أن جزء كبير من المثقفين ملتحمين بقضايا المجتمع ويدركون معاناة المجتمع إلا ان المثقف يعيش همومه عبر الكلمة والكلمة المكتوبة محاصرة لأسباب كثيرة آخرها الأمية ومن جانب أخر يتحرك بلا مشروع واضح وهذا افقده القدرة على خلق تيار سياسي قادر على التعبير عن مشروعة، وهذا دفع الكثير من المثقفين للانخراط في المشروع السياسي للحاكم لماذا؟
في تصوري ان مثقفي المؤتمر لديهم مشروع سياسي قوي ومتماسك ومرن في إعادة قراءة المشروعات والرؤى المطروحة في المعارضة وما يطرحه المثقف المستقل والخبير المتمرس ثم يعيدوا تفعيلها فالأفكار التي تحتويها المشاريع المطروحة في الساحة يتم صياغتها بطريقة تؤتي واكلها في المجتمع وهذا جعل المعارضة في حيرة من أمرهم فانتقلوا من معارضة المشاريع إلى مواجهة شخص الرئيس ثم نظام حكمه ككل ثم سلبه شرعيته ثم اتهامه بالاستبداد ثم الانقلاب على المشروع ككل رغم مشاركة جزء كبير من المعارضة في رسم ملامحه الرئيسية.
ومن وجهة نظري ليس عيبا في المرحلة الحالية أن ينخرط المثقف المعاصر المجدد داعية التغيير في المشروع الوطني الذي يعمل من اجله الحاكم وتقويم المشروع ومحاسبته في نفس الوقت وهذا لن يؤثر على استقلالية المثقف بل ربما ينقل المثقف المشروع إلى آفاق جديدة ومن خلاله تُحمل قيم العصر بقوة إلى أعماق المجتمع في المدينة والريف. ففي الوضع اليمني الراهن لا يمكن اختراق المجتمع إلا عبر القيادات الممثلة للمجموعات أو الذين يمنحهم المجتمع الرضا بتمثيلهم أمام الدولة وهذا المسالة أدركها المؤتمر بقوة سواء في بناء الهيكلية التنظيمية للحزب وحتى في تعبئة الجماهير للأهداف السياسية التي يدافع عنها وقد حقق نجاحات قوية ورغم النقد الذي يجعل من ذلك تأصيل للقيم التقليدية إلا أن ذلك غير صحيح لان المؤتمر يعتمد على تفتيت القوة وتوزيعها بشكل عادل يتوافق مع القوة التي يملكها القيادي المحلي وهذا وان احدث صراع في المراحل الأولى للتحول إلا انه قادر مع الوقت على خلق التوافق والقبول من الأطراف المختلفة، ومن جانب آخر تعامل المؤتمر مع القوى الحديثة بطريقة مختلفة تعلي من شأن الكفاءة والجدارة والقدرة على العطاء بصرف النظر عن الموقع الاجتماعي والتقسيمات المختلفة ولكن الجدارة هنا مبنية على الأصول التي تؤسس لها القيم الحديثة التي تعلى من الكفاءة والمؤهل والقدرة التي يمتلكها الفرد وتحويل هؤلاء إلى قيادات جديدة تخترق المجتمع وتتحالف مع القوى التقليدية ليشكل الطرفين نسق واحد مع الوقت وعندما يتطور المجتمع والدولة تحدث النقلات النوعية وان كان التطور بطيء في المرحلة الحالية إلا أن نتائجه الأولية مبشرة بخير ونتائجه الحتمية خوض الحداثة دون أن يفقد المجتمع اليمني خصوصيته.
*هذه الورقة قدمت في منتدى اصدقاء المقالح يوم الخميس 7-12 وكان عنوان الندوة
غياب النقد في اليمن
|