نضير الخزرجي* -
قراءة تحليلية في إنجيل الإسلام وزبوره
لا يطلب الخير من حيث الجلوس في ركن من أركان الدار، ولا تطلب البركة من حيث التقوقع في زاوية من زوايا الصوامع والبيع والمساجد، فالخير يظل حبيس الدار ما ظل صاحبه حبيس الدار رافعا يديه يستنزل الغيث أو دفع ملمّة، عازفا عن الحياة وأهلها، والبركة تظل ترفرف بجناحيها عند بوابة المعابد ما ظل العابد في صومعته يترصّد الخير والبركة تاركا عبء الحياة وراءه.
وطالب الدنيا للدنيا، كطالب الآخرة للآخرة، فالأول ينقصه من الآخرة روحها وريحانها، كما ينقص الثاني من الدنيا كدها ونصبها، فلا تأتي الآخرة بزواج كاثوليكي للدنيا، كما لا تأتي الدنيا بطلاق بائن لها، فكلٌ لازمٌ وملزومٌ له، والأمر بَينَ بَين، ومن أحسن الزواج وأصاب العزل دون الطلاق، جمع الإثنين، وفاز باللذتين وظفر بالحظوتين، إذ المرء مرهون بين اثنتين بين أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا، وبين أن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، فهو كمن ظن الخلود في دار الدنيا فحرص على حرثها ومن ظن الخلود في الآخرة فحرص على حصدها، وبين الحرث والحصاد، تتأرجح حياة المرء بين الخلود الى الأرض والعروج الى السماء، يخلد بعروج عمله الصالح السماء، وينطلق من اسر الدنيا بدعائه الموصول بين الأرض والسماء، فلا يقتصر على العمل دون الدعاء، ولا يرتقي سلم الدعاء دون جناح العمل، فاليد الممدودة الى السماء لابد أن تضرب بجِرانها أرض العمل، حتى تخضّر ويستنزل بها الأفراح ويدفع بها الأتراح.
هذا النسغ الصاعد والنازل للعمل والدعاء، بين الأرض والسماء، يمنهج حركته ويضبط إيقاعه، كتاب "بصائر النور" الذي صدر عن بيت العلم للنابهين، في بيروت، في 172 صفحة من القطع المتوسط، من إعداد الكاتب الكويتي الشيخ عبد العزيز عبد الله الحبيب، حيث وجد في المقدمة التي كتبها الفقيه الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي لكتاب "الصحيفة الحسينية" ضمن مجلدات دائرة المعارف الحسينية، منهاجا ينفتح على الأدعية وشروط استجابتها، والمعوقات التي تحول دون تحققها على مستوى الفرد أو الأمة، فراجع المقدمة تاركا بعض نفحاته عليها، إذ يرى: "أن الدعاء وسيلة من وسائل معرفة الله جل وعلا، فإذا ما خرج من قلب العارف، فانه يصنع المعاجز، ويفتح آفاق المعارف".
وكان الشيخ الحبيب، منذ أميد بعيد يفكر في دراسة موضوعية شافية وافية، عن الدعاء، دون أن يسرح بالإنسان في عالم لا متناه من الآمال وأحلام اليقظة، ودون أن يركس به في عالم لا قعر له من الخوف والوجل، فلما اطلع على الكتاب: "وجدته وافيا بالغرض رغم إيجازه المتعمد، حيث ينتهج المؤلف منهج الاختزال، الذي يخال لي أنه اكتسبه من أدب القرآن والحديث" وعند الحبيب أن المقدمة التي سبقت الأدعية الواردة عن الامام الحسين (ع): "تعد في الواقع مفتاحا لكل من يريد أن يطلع على الأدعية بالإجمال أو يمارس تلاوة الدعاء ويعرف آدابه وشروط استجابته، الى جانب الأمور التي تقف حائلا بين الداعي والاستجابة، بالإضافة الى معرفة حقيقة الدعاء وآثاره وعلاقته بالإنسان ومسيرة حياته، ومدى ارتباطه بالحضارة وبالعلوم الحديثة، وما الى ذلك من أمور يمكن أن يطلق عليها بعلوم الدعاء".
وتعود أهمية الدعاء كما يرى الشيخ الكرباسي، الى كونه من معالم علاقة الفرد بخالقه، وهي واحدة من علاقات ست عالجها الإسلام في إطار التشريع، الى جانب: علاقة الفرد بنفسه، وعلاقة الفرد بفرد آخر، وعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة الفرد بالدولة، وعلاقة الفرد بالبيئة. فهذه العلاقات تحدد حركة الانسان في الحياة الدنيا موصولة بتطلعاته الى الحياة الآخرة، وحتى الذين لا يؤمنون بالله، فإنهم لا يخرجون في تعاملاتهم عن العلاقات الخمس الباقية، لان اجتماع البشر وديمومة الحياة قائمة عليها. بيد أن اللامنتمي او اللاديني، فانه هو الآخر عند الملمات يتوجه الى قوة يستمد منها العون، لا يعرفها، ولكن فطرته تدل عليها، لان الفطرة في ساعة شعور متجردة عن رين الدنيا ومشاغلها، تستقبل موجاتها ذبذبات الأحد الصمد الذين بيده مصائر العباد والبلاد.
وهذه الذبذبات تنقل رسائل خاصة الى مركز القوة تستمد منه العون، يعبر عنها الكرباسي بالرمز الذي: "يستخدمه العبد في اتصالاته بالرب فبدونه لا ترتبط الذبذبات اللاسلكية ولا تتصل الأمواج الروحية بالعالم العلوي للتحاور وعرض الطلب" ، فالدعاء وسيلة التحدث مع القوة العظمى، وهو: "حالة روحية، بل حالة من التجلي الروحي العميق تحصل للإنسان من خلالها رؤية تزيل عنه الجهل بالله، وهو أعمق من مجرد ترديد بعض العبارات وتكرار الجمل، انه اذاً اتصال حقيقي بالله".
وليس الدعاء بديلا عن العمل، ولكنه عامل نفسي مساعد الى درجة كبيرة، كما انه ليس بديلا عن الطب، ولكنه يساعد على الانبساط النفسي المساعد بشكل كبير في كثير من الأمراض النفسية والعضوية، وهذا ما يبحثه المؤلف تحت عنوان "فوائد الدعاء وآثاره" ، فمن أثاره: المساعدة في الشفاء وفي الراحة والطمأنينة، وفي الحصانة من وقوع البلاء. كما إن الدعاء حسب ما يرى المصنف، يجلب للداعي "الشعور بالعز" لتوجهه الى من لا يخيب عنده السؤال، والتجائه الى صاحب "القدرة المطلقة"، وقد أوحى الله الى نبيه عيسى بن مريم (ع): (أدعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيب، يا عيسى سلني ولا تسأل غيري فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة).
وقد يظن البعض أن الدعاء موقوف على طلب الحاجة او دفع ملمة فحسب، ولكن الواقع غير ذلك، وهذا ما يبينه المؤلف تحت عنوان "حدود الدعاء" فيرى أن الدعاء ينطوي على عدد من العلوم أودعها الرسول (ص) وأهل بيته (ع) في مطاويها. على أن من "آداب الدعاء": الكون على الطهارة، واستقبال القبلة، وعدم الجهر بالدعاء، واختيار الزمان، واختيار المكان، والتصريح بالحاجة، والبدء بالبسملة وتقديم الدعاء بالتحميد والتمجيد، وتقديم الصدقة، والدعاء بالمأثور، أي بما جاء في القرآن الكريم ومن كلمات الله القدسية وما صدر عن الرسول (ص) وأهل بيته الكرام (ع)، واتخاذ الوسيلة، والتضرع والرقة، وتعميم الدعاء، وعدم الاقتصار على الذات، ورفع اليدين، عند الدعاء، والتزين، باستخدام الطيب والسواك وقص الشعر وتسريحه وتنظيفه أو تدهينه والتختم ببعض الأحجار الكريمة، ومن الآداب التجمع عند الدعاء، والابتعاد عن اللحن.
كما إن لكل عمل شروطه، كذلك هناك "شرائط استجابة الدعاء"، من ذلك: أن يكون الطلب مشروعا، والمبادرة بالعمل، فلا يصح الدعاء دون العمل، ومن الاستجابة الصلاة على محمد وآله، والخلوص في الدعاء، والإلحاح والإصرار، والتهيؤ النفسي، والتوجه الى الله، والتقوى.
في المقابل، فان "عوامل عدم استجابة الدعاء" غير قليلة، إذ لا يمكن توقع الاستجابة بنقض الشروط، مثل ما لا يستطيع المرء استقبال الإشارة الضوئية او الصوتية بانعدام الوسيط، ومن تلك العوامل: عدم الوفاء بالعهد، ومخالفة القوانين الكونية، ونقض شروط الدعاء، وعدم توفر الأرضية المناسبة، والخطأ في الاتجاه، والتناقض بين الأدعية، واقتراف الذنوب، واستعجال الإجابة، وسبق الأمور، والتقاعس، وعدم مصلحة الداعي.
وتحت عنوان "أدب الدعاء وأسلوبه" يجري المصنف دراسة تحليلية للأدعية الواردة في القرآن والمروية عن النبي (ص) وأهل بيته (ع)، فيلاحظ المصنف: "أن الدعاء الصادر عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) له نكهة توازي نكهة ما نزل من السماء، حيث أنها صدرت من خريجي مدرسة واحدة، وهذا الأسلوب الأدبي الخاص بهم هو الذي يجعلنا نميز به الأصيل عن الدخيل". ولأنها: "تحمل مضامين الوحي، فلذلك عبروا عنها بأسماء الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء التي ذكر القرآن منها: الإنجيل والتوراة والزبور والصحف". كما إن دعاء المعصومين يكون على الدوام مقرونا بالعمل، وهذا ما يشير اليه الشيخ الحبيب في تعليقه على الأدعية الواردة عن أهل البيت (ع)، فمن: "أدعية الرسول (ص) بل وآله (ع) يمكن الاستشعار بأنهم يعملون ويدعون، إذ يقرنون أعمالهم بالدعاء، ولم يتوانوا من نصرة الحق في أصعب الظروف، كما لا ينسوا الابتهال الى الله جل وعلا، وهذا درس عملي لكل من يريد أتباع الحق".
ويستعرض المصنف نماذج من أدعية القرآن، ومن أدعية الوحي (الحديث القدسي) وأدعية النبي (ص) وأدعية أهل بيته (ع) بدءاً من الزهراء (ع) وانتهاءاً بالحجة المنتظر (ع)، ولاحظ من خلال الاستعراض، أن في الأدعية اتجاهين:
الأول: الاتجاه اللفظي، حيث يفضل الذوق السليم: "أن تستخدم الكلمات اللينة ذات التركيبة الحروفية الخفيفة في مقام الطلب والسؤال وما في فلكيهما، كما يفضل أن تستعمل المفردات القاسية المركبة من الحروف ذات الوقعة القوية في مقام النهي والانزجار وما شابههما"، ولذلك فان الدعاء المأثور عن النبي وأهل بيته (ع): "في مجمله روعي فيه اختيار الكلمات ذات التركيبة المناسبة والمنسجمة مع المعنى المراد، مضافا الى الوقع والسجع اللذين هما ظاهرتان من ظواهر الأدب عند أهل البيت (ع) المستلهم من القرآن الكريم".
الثاني: الاتجاه المعنوي، الذي تتداخل فيه الأفكار والأحاسيس وبدائع البيان، ليعكس الوجود، ولذلك فان تعليم المعصومين هذه الأدعية للسائل هي: "بمثابة إسعاف له الى اقرب الطرق الكفيلة للنظر في طلباته واستجابة دعواته، فالتعبير العاطفي الذي استخدموه في طيات هذه الأدعية ليس له مثيل في تاريخ الأدب العربي". وما يصطبغ أدعية أهل البيت (ع): "إنهم يغلبون غفرانه على عقابه، ورحمته على عذابه، مما يدلنا على أن الله فتح لنا باب الغفران على مصراعيه، وكاد أن يوصد باب عقابه للطفه بعباده".
وتحت عنوان "مع الدعاء في بعض معانيه"، يرى المصنف أن الدعاء يمر عبر ثلاث قنوات: الاستغاثة ورجاء الخير وطلب الشر. والأعم فيها الاستغاثة، ثم طلب الخير للذات او للآخرين، وطلب الشر او الدعاء على من يستوجب السخط. ووضع جدولا بالآيات القرآنية الظاهرة في الدعاء او جرت مجرى الدعاء ضمن القنوات الثلاث.
ولا يخرج الدعاء عن دائرة العبادة، ولذلك فان المصنف تحت عنوان "بين العبادة والدعاء" يرى انه: "أبرز مصاديق العبادة من جهة، وأولى العبادات الفطرية من جهة أخرى، ونعنى بالأولى أنها عبادة لم تسبقها عبادة أخرى بمقتضى التسلسل الزمني، ونعني فطري أنه لا يحتاج الى أن ينتظر العبد الأوامر من قبل الله لان يلتجئ اليه، ويدعوه بحوائجه ويعرض عليه مآسيه"، كما إن الدعاء هو: "إحدى المشتركات بين الموحدين من الديانات، بل بين البشرية جمعاء سواء من حيث يشعرون أو لا يشعرون، ومن هنا يأتي فضل الدعاء على سائر العبادات، حيث يروى عن الرسول (ص) أنه قال: أفضل العبادة الدعاء، وإذا أذن الله لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، انه لن يهلك مع الدعاء احد".
ولا شك أن القارئ للأدعية المأثورة، يرى نزول المعصوم منزلة الانسان المذنب أمام ربه المنعم، وهذا احد أنماط التعليم التربوي يمارسه المعصوم، آخذا بيد الانسان الظامئ الى غدير ربه يغترف بدلو التوبة عذب الغفران والرحمة، إذ يقتضى أدب الحوار مع الرب وأدب الدعاء مثل هذا النمط من المأثور، وإلا فان النبي (ص) أدبه ربه فأحسن تأديبه، وانه لعلى خلق عظيم، ومثل ذلك أهل بيته (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، بيد أن تعليم الأصحاب والأتباع يقتضي مثل هذا النزول والتنازل عن الذات الإنسية في حضرة الذات الإلهية.
وفي نهاية بحث الدعاء، يتطرق المصنف الى موضوعات أربعة لها علاقة بالدعاء، الأولى "كلمة المشيئة" أي قول (إن شاء الله) بين من يكتبها بضم الحرف الى الفعل فتصبح (إنشاء الله)، ومن يفصل بينهما، ولا يرى المؤلف بأسا من استخدام الصيغتين. ويتطرق الى جمع الأم (الوالدة) فمن يجمعها على أمّات ومن يجمعها على أمّهات، ويذهب مذهب من يرون أن أمهات جمع أم مختص بذوات العقول، وأمات جمع أم مختص بغير ذوات العقول. ويتحدث عن الرسم القرآني، فيرى فيه انه من حيث الزمن متأخر عن نزول القرآن وهو من الخطوط المنسوبة الى أهل الكوفة والبصرة والحجاز وغيرهم، فليست كالقرآن لا يجوز تجاوز نصوصه، وفيما يتعلق بالدعاء، فان المصنف يفضل في باب الدعاء استخدام: "الرسم القرآني لكونه من الآثار الاسلامية وقرب الدعاء من القرآن فله إيحاءاته وخصوصياته". كما بحث "قلب الهمزة ياءً" كما هو المستخدم في الأدعية كبديل عن الهمزة، والياء عنده إحدى القراءات البديلة عن الهمزة مثل أيمة كبديل عن أئمة.
* إعلامي وباحث عراقي
الرأي الآخر للدراسات – لندن
[email protected]