يوسف الصمعان * -
العلاقة بين الصحة والدين والإعجاز العلمي
منذ الستينات الميلادية، بدأت في الغرب تتزايد البحوث والدراسات التي تفحص العلاقة بين «الصلاة» والصحة، كانت تلك الدراسات في بداياتها قد أخذت منحى انطباعيا، وإن تلبست بما يشبه المنهجية العلمية، وهي وإن تعددت أساليبها فإنها غالبا ما تخلص الى أهمية الصلاة في الصحة، وإلى دور أساسي للدعاء في التشافي من الأمراض الجسدية والنفسية ومع الاحياء الديني في الحقبة «الريغانية» الأمريكية تسارعت عجلة هذه البحوث، واشتهرت حينها دراسة «بايرد» وزملائه، والتي أصبحت فيما بعد نبراسا لمن سلك هذا الطريق: قسم بايرد مرضى العناية المركزة لمرضى القلب الى مجموعتين، المجموعة الاولى طلب من أهالي المرضى والكنيسة الصلاة والدعاء لهم بالشفاء، بينما لم تحض المجموعة الثانية بذات الامتياز، لم تفاجئ النتائح من قام بتصميم الدراسة، وتشافت المجموعة الأولى (التي حظيت بالصلاة) بشكل اسرع وأكفأ وأدوم، من المجموعة الثانية.
لم تقف الكنيسة في الغرب المسيحي بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي متفرجة طوال هذا الوقت، إذ دعمت ماديا وأيدت معنويا هكذا دراسات، وصحيح أن الكنيسة التي تملك العديد من المستشفيات، لم تشأ ان تتدخل بعنجهية وسفور في منهجية هذه البحوث، إلا ان وعاظها أصبحوا شعراء لمثل هذه الدراسات، وصار «الاعجاز العلمي» في المسيحية في صلب اهتمامات الواعظين والمبشرين، تماما كما يفعل وعاظنا المسلمون هذه الايام.
حاولت الدوريات العلمية المحكمة ألا تحفل بهذه الدراسات بل وتجاهلتها، كما أن الجمعيات العلمية المعتبرة لم تتحمس لهذا الموضوع، إلا أن عرابي هذه الدراسات تحولوا الى نجوم للتلفزة الفضائية، بل إن موضوع الصلاة والصحة حظي بتحقيق تلفزيوني شهير لأكثر من مرة في قناة ديسكفري المرموقة علميا. ومن طبيعة الاشياء أن يتفرع الموضوع، وصار البحث يتجاوز الصلاة ليشمل الفوائد الصحية لكل الإرشادات المنسوبة للمسيح، وتطور الأمر الى درجة بدا معه وكأن الانبياء إنما بعثوا لخفض الكوليسترول.. وما شاكل من قضايا.
مضت الاهتمامات التي من هذا النوع وتفرعت، وحديثا انقسم الرأي الديني الكنسي إزاء دراسة شهيرة خلصت الى أن شرب كأس من النبيذ الاحمر قد يقلل من اصابات شرايين القلب، فصفق لهذه الدراسة البعض وخاصة في الكنيسة الكاثوليكية باعتبار ذلك تصديقا لقول المسيح، قليل من الخمر يشفي جسد الانسان، في حين تحفظت بعض الكنائس البروتستانتية التي تأخذ موقفا سلبيا من الخمور.
ومع المد الاسلامي انتقلت تجربة الاعجاز الديني الى هذا الجزء من العالم، وقد حاول البعض التعرف على جذور متقدمة لهذه الظاهرة في الادبيات الاسلامية، كما في مقالة حديثة لرضوان السيد بجريدة «الحياة»، إلا أن أول محاجة لافتة في هذا الموضوع، كما أعرف، كانت للطبيب الفرنسي موريس بوكاي في كتابه (التوراة والانجيل والقرآن وحقائق العلم)، حيث امتدح فيه موقف القرآن من العلم، بل وحاول اثبات ان القرآن الكريم يكشف عن حقائق من النوع العلمي، ويحوي العديد من النظريات والتفصيلات المتفقة مع العلم الحديث. لم يكن المنظرون الاسلاميون بداية متحمسين لمثل هذه المقولة، بل إن سيد قطب قد رفض هذا المنهج غير ذي مرة في تفسيره لقوله تعالى «كأنما يصعد في السماء»، وكرر ذلك في غير موضع في تفسيره «الظلال» كما في وقفته عند قوله تعالى «وينزل من السماء من جبال فيها من برد»، ذلك أن هذا المنهج عند سيد هو تنزيل من شأن الحقيقي الثابت القطعي المطلق (الوحي)، الى مستوى العلم الظني المتغير، معتبرا ان هذا النهج سيؤول بأصحابة الى ذات الزلات، التي وقع فيها الإمام محمد عبده، عندما أول بعض الآيات كما في سورتي تبارك والفيل.
بداية سايرت الصحوة الإسلامية منظرها الكبير في توجسه، ولم يتم الاحتفال كثيرا بالقراءات العلمية للنصوص الدينية، حصل ذلك لبعض الوقت، حيث تساوى في الاهمال حينها مصطفى محمود الآتي من خارج الطيف الاسلامي الحركي، وكانت مساهمته عبر كتابه «القرآن والطب»، ولحقه الى ذات المصير السوري خالص جلبي الطبيب والمفكر الاخواني حينها الذي كتب اطروحته «القرآن محراب الايمان».
غير أنه لم يستمر هذا النهج اللا مرحب طويلا، فهذا الموقف لا ينسجم والحماس الدعوي ولا التجييش الذي كان من طبيعة تلك المرحلة، ولعل عراب التغيير لهذا الموقف كان عبد المجيد الزنداني، وهو صيدلاني يمني يحمل ثقلا عشائريا، وحركيا اخوانيا، استطاع الزنداني، رغم لمز خصومة له طائفيا باعتباره «زيديا»، الحصول على مكانة فريدة لدى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، كان ابن باز يملك مفاتيح عديدة على الصعيدين الرسمي والشعبي، رسميا كان الشخصية الدينية الرسمية الاولى في السعودية فهو المفتي ورئيس الجامعة الاسلامية والمجلس الأعلى للمساجد، وشعبيا كان المرجعية الاولى لكيل اطياف المجتمع، أحبه عامة الناس، واحترمه الحركيون، تمكن الزنداني الذي عرف بمحاضراته التى يقصدها الآلاف من التجييش لهذه الفكرة، وتأسست وحدة الاعجاز العلمي بجامعة الملك عبد العزيز بجدة، ليتبع ذلك وبسرعة عام 1986 تأسيس هيئة الاعجاز العلمي في القرآن والسنة بناء على توصية المجلس الاعلى العالمي للمساحد، وبتسارع لافت تحولت الى الهيئة العالمية للاعجاز في القرآن والسنة بقرار من المجلس التأسيسي لرابطة العالم الاسلامي.
على مدى عقدين كاملين، استطاعت الهيئة بدعم لامتناه من رابطة العالم الاسلامي والدول الخليجية بشكل خاص من تنظيم العديد من المؤتمرات الدورية، وجرى العرف أن يدعى متحدثون من جامعات عالمية يتحدثون عن انبهارهم بالسبق العلمي في القرآن والسنة، وأنهما سبقا العلم الحديث في مناحي شتى فى العلوم الطبية والفلكية، كما أنهما مستودعان لاكتشافات علمية قادمة، وعادة ما يتحدث ضيوف المؤتمر عن بحوث جديدة في منافع العسل والحبة السوداء والحجامة وأبوال الابل، وعندما يسأل المشاركون الأجانب السؤال المتوقع عن تحولهم للاسلام فتكون الإجابة الدبلوماسية المعهودة أن ذلك متروك للوقت المناسب! أصبح الحديث عن الاعجاز العلمي في القرآن والسنة، مسألة تقليدية يشارك فيها كل من انتسب للعلم في العالمين العربي والاسلامي، فهو وبالرغم من سهولته وبساطته إلا أنه متعدد المكاسب، هو أولا يصفق له من قبل الناس، وهو ثانيا مدعوم من الاقتصادي صاحب المال الذي يجد فيه وجها من أوجه نصرة الدين وإقامة الحجة على الناس، وهو ثالثا مبارك من السياسي الذي يجد في رعاية هذا العمل ترويح للناس، وربما ملهاة له عن الهم الاكبر، وهورعاية انتاج العلم! وطبيعي أن تكون الصحة والطب هي الموضوع الابرز في لقاءات هيئة الاعجاز، وفي لقاء هذا العام فاجأ المؤتمرون الناس بالاعلان عن اكتشاف لعقار جديد يقضي على الايدز والتهابات الكبد الفيروسية كلها، وأعلن ايضا عن اكتشافات أخرى لعلاج بعض أمراض السرطانات التي عجز الطب الحديث عن التعامل معها، كان هذان هما الحدثين الأهم، وحكى باحثون عن علاج بأبوال الإبل للعجز الكلوي، وكشوفات اضافية لفوائد العسل والحبة السوداء والحجامة.
أرسل الله رسل بالهدى ودين الحق، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي بشّر وصابر وهاجر وعاهد وقاتل، تنزل عليه الوحي ثلاثا وعشرين سنة، فأمر ونهى وحلل وحرم، ودخل الناس في الدين أفواجا، ما دخلوا يوم انشق له القمر نصفين، وهو أجلى ما يكون الاعجاز، وما آمنوا، وهم العرب أهل الفصاحة واللغة، عندما اعجزهم بيان القرن، إنما كان التحول بعد عمل طويل، أضحى قومه أسياد أمة تقارع امبراطوريات الارض. عاش محمد صلى الله عليه وسلم في قومه كما يعيشون، يسكن كما يسكنون، ويأكل مما يأكلون وتداوى هو وأصحابه كما يتداوى أهل زمانه، تولى أمر الدين بوحي من ربه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقال للناس «أنتم أعلم بأمور دنياكم» ولم يستنكف أن يقول في حادثة «تأبير النخل»: «إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطي ويصيب، ولكن ما قلت لكم عن الله عز وجل، فلن أكذب على الله». كان الطب في جريرة العرب زمن البعثة بدائيا، كان الناس ورسول الله بين ظهرانيهم يصنفون الأمراض حسب الأعراض من دون معرفة بأسبابها، فهناك الحمى والحكة والقي والصداع واستطلاق البطن، من دون معرفة بأن كل عرض منها قد ينتج عن مئات الأسباب المختلفة، وتتلخص أسباب الامراض البدنية عند فكرة وجود الاخلاط والسموم بالجسم، كما أن المس والعين والسحر هما أسباب متاعب النفس.. يتبين اذن أن التصنيف والتشخيص القائمين، لا يتوقع منهما تدخلات علاحية لها علاقة بأسباب المرض الحقيقي، بل إن التدخل عادة ما يراد منه استخراج السموم والأخلاط.
مارس صلى الله عليه وسلم التداوي كما فعل قومه، فاحتجم كما يحتجمون، وعولج نزف وجنتيه الشريفتين يوم أحد، بأن أحرقت فاطمة الزهراء حصيرا لتضع رماد الحصير في الجرح، فيساعد في توقف النزف، تماما كما يفعل قومها مع جرحاهم، وأوصى بالعسل لمن استطلق بطنه، وكان ذلك معروفا في وقته، وطلب الطبيب لأم سلمة وسعد بن أبي وقاص، وعندما اتته امرأة تشكي وقالت:«إني اصرع وإني اتكشف، فادع لي (لاحظ ايها القارئ أنها لم تطلب من النبي، صلى الله عليه وسلم، العلاج ولم تفترض فيه القدرة)، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله ان يعافيك». ضمن هذا المجال؛ أي بشرية المصطفى في شؤون الدنيا، اجتهد المصطفى في بعض الجوانب المتصلة بالصحة، يجري عليها مبدأ:«إن الظن يخطئ ويصيب»، و:«أنتم أعلم بأمور دنياكم»، تتجلى بشرية هذه الاجتهادات في تعددها وربما تعارضها أحيانا، وفي أحاديث «العدوى» الصحيحة مثال على هذا التعارض الذي لا يبنغي استغرابه ضمن النسق البشري الاجتهادي، فقد ورد عنه ما يثبت إقرارا بالعدوى، كما في صحيحي البخاري ومسلم: «لا يوردن ممرض على مصح»، وروى البخاري «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، وفي الصحيحين أيضا: «الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني اسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، واذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه». وبعث إلى مجذوم من ثقيف أراد أن يبايع فقال: «ارجع فقد با يعناك». بالمقابل، نجد زخما من الأحاديث الصيحة ايضا ترفض فكرة العدوى قولا كما في الصيحين:«لا عدوى ولا طيرة، فقيل له إن النقبة تقع بمشفر البعير فيجرب لذلك الابل، قال صلى الله عليه وسلم فمن أعدى الأول؟!»، وترفضها، أي العدوى، عملا وممارسة فقد أخذ صلى الله عليه وسلم بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة قال: كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا على الله (رواه الترمذي وابن ماجة).
هذه الأحاديث وغيرها تؤكد بشرية المصطفى عليه السلام في هذه الجوانب الطبية، وإن ما ورد عنه في الصحة هو كما ورد في مسألة الزراعة، أي مسألة تأبير، أو لقاح النخل يجري عليها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الظن يخطئ ويصيب»، وقوله :«أنتم أعلم بأمور دنياكم».
ليس من هم هذه المقالة التقليل من شأن أي من من الهموم العلمية مهما كانت غرابتها، إنما أردت ان أوضح أن هذا النوع من الاعمال، اقصد إدعاء الاعجاز العلمي في النصوص المقدسة موجود في كل الاديان وبذات الحماس، بل وحتى ذات المفردات، فكل النصوص المفتوحة قابلة لأشكال لامتناهية من التأويل، ولعل الاعجاز الأهم الذي تأكد في هذه النسخة الاسلامية من هذا العمل، وإن لم يقصده رواد العمل هو قوله صلى الله عليه وسلم: «لتحذون حذو من كان قبلكم». ما أطمح اليه هو اقتراح أن الذهن البشري يتعامل مع عملتين بطريقتين متوازيتين لكنهما ليستا متامثلتين، بل إن آليتيهما وأدواتهما مختلفتان، بل وحتى سؤاليهما مختلفان، هاتان العمليتيان هما العملية الايمانية والعملية العلمية، فحينما يكون اساس العملية الايمانية هو التصديق بالنص الآتي من السماء والتجربة الدينية؛ فإن اساس العملية العلمية هو النظرية التي من شروط كونها نظرية علمية هو القابليته لنزع البرهنة او تثبيته (كارل بوبر) ثم التجربة العلمية لفحص صدق هذه النظرية..
إنهما عملتيان مختلفتان، ولا يخدم أي منهما محاولة تطويع أو الغاء الآخر لصالحة، وعلى الله قصد السبيل.
* باحث سعودي واستشاري في الأمراض النفسية/ منقول عن الشرق الاوسط