الدكتور / عبدالعزيز المقالح -
المقالح يكتب عن «صمت الفراشات» لليلى العثمان
هي روايتها الخامسة اذا اعتبرنا «المحاكمة» رواية، وهي من وجهة نظري كذلك. والمتابع للمنجز الإبداعي للكاتبة ليلى العثمان لا بد من أن يدرك أن الشطر الأول من حياتها مع الكتابة كان للمقالة ثم القصة القصيرة ولم تدخل عالم الرواية إلا بعدما امتلكت ناصية السرد المطوّل على رغم أن بعض أعمالها القصصية توحي للقارئ بأنها مشاريع روايات. وبغض النظر عن هذه الملاحظة الشكلية، فإن تجربة ليلى العثمان الروائية والقصصية على حد سواء تمثل ظاهرة جسورة بكل ما للكلمة من معنى، فهي منذ وضعت يدها على نار الكتابة لا تقبل بأنصاف الحلول ولا ترضى بما يقال عن اختلاف الظروف في الأقطار العربية، وأن ما يتقبله الجمهور العربي من كاتبة لبنانية لا يقبله من كاتبة خليجية أو سعودية أو يمانية، لذلك فهي تحاول أن تكتب كما تشاء ويشاء لها الفن.
وهذه الإشارة الى جرأة الكاتبة وجسارتها في القول ليست جديدة، فقد سبق الى الاعتراف بها أكثر من ناقد ومبدع ومنهم الروائي العربي الكبير حنا مينه الذي ألمح في مقدمته لمجموعتها القصصية «في الليل تأتي العيون» الى هذه الخصوصية حين قال: «ليلى لا تصالح الواقع، لا تراه قَدَراً، لا تتعبده صنماً، لا تنوء تحت وطأته، لا تهرب منه الى الأمام بل تواجهه، ترفضه، تقاومه، تستأنف ضده، وتومئ الى واقع آخر، أحلى وأبهى، ومن هنا تملك قصتها الإضافية المستقبلية، تملك بعدها الثالث، وتتجنب مطلب التوفيقية، والنقدية النائحة».
هذا بعض ما تستحقه ليلى العثمان على شجاعتها وحرصها على أن تضع النقاط على الحروف في كل ما تكتب، وفي روايتها الجديدة «صمت الفراشات» على وجه الخصوص حيث تتم تعرية العجز العربي رمزياً من خلال تعرية بعض نماذج مكوناته البشرية التي لا همّ لها خارج عالم الحريم، ولا رغبة تسكن وجدانها غير الرغبة في الجسد الأنثوي والإغراق في امتلاكه وإذلاله حتى بعد أن تنطفئ جذوة القدرة على التعامل معه وتتحول الارتعاشة النبيلة الى توق مريض وسقوط لا تسعفنا قواميس كل اللغات في العثور على ألفاظ تتولى وصفه أو تعبر عن القرف مما وصل اليه من ممارسات شائنة تأباها الرجولة، ويندّى لها جبين الأخلاق.
الواقع الحاضر والمسيطر على جو الرواية هو واقع غير متخيل في أجزاء كثيرة منه وربما كان شيء منه قائماً في زمن طفولة الكاتبة تستدعيه الآن أو تتذكره لا لتدينه وتسخر منه فحسب، وانما لكي تنبّه وتحذّر من تكرار وقوعه، فالواقع هو التاريخ الذي يمكنه أن يكرر نفسه ليس بالصورة التي كان عليها وإنما بصورة مغايرة بعض الشيء وبأشكال أخرى. وعلى رغم أن العبودية وهي احدى أهم الثيمات في الرواية قد انقرضت، الا ان الأبواب لا تزال مفتوحة على مصاريعها أمام بعض القادرين من سكان القصور على أن يكون لهم عبيدهم وإماؤهم ونساؤهم الصغيرات وأشياء أخرى يتحدّون بها الزمن الذي يمضي الى الأمام متحدياً كل أشكال العبودية الساخرة منها والمقنعة مع الاعتراف بأنه قد يحمل في بعض منعطفاته تفاصيل من أزمنة غابرة كان الإنسان فيها سلعة علنية يذهبون به الى الأسواق ويبيعون به ويشترون ويقايضون به سلعاً أخرى.
ولا مناص من الإشارة الى أن هذه الظاهرة التي تمحورت حولها الرواية ليست خليجية أو عربية كما يتبادر الى بعض الأذهان وانما هي ظاهرة انسانية تصاحب الرجال المتصابين في أي مكان وزمان، وحيث يوجد المال وتتركز الاهتمامات حول الجنس تنمو هذه الظاهرة وتكبر وتأخذ مدها المشوّه. وما من قرية أو مدينة على الأرض إلا وقد شهدت قصة لمتصابٍ او أكثر يتحدث عنها الناس بسخرية ويشير اليها الأدب شعراً ونثراً، شاركت القصة والرواية في رصدها، لكن يبقى هذا العمل الروائي «صمت الفراشات» فريداً في تحديد ملامح هذه الظاهرة والسخرية منها والعبث بواحد من ممثليها. وعندما يتحول هذا العمل الإبداعي الى الشاشة الكبيرة فسيجد، بوضوح أكثر، أثره المطلوب وينال حينئذ ما يستحقه من شهرة على مستوى الوطن العربي والعالم.
رمزياً يختزل عنوان الرواية وهو «صمت الفراشات»، محنة النساء العربيات الصامتات خوفاً، والمحكوم عليهن بأن يبتلعن ألسنتهن ويمتنعن عن التعامل مع جوهر القول وفضوله، والصغيرات منهن بخاصة هؤلاء اللائي يقعن ضحية الزواج بالأغنياء من كبار السن القادرين على توفير المسكن الباذخ بأسواره العالية وأبوابه المنيعة، واللباس الفخم الذي يشبه ألوان الفراشات، ثم لا شيء غير ذلك مما تحلم به المرأة من مشاركة وجدانية وثقة حيّة تحفظ العلاقات الحميمة بين المرأة وشريك حياتها وعدم تعرضها للاضطهاد والاختناق كما هو حال بطلة الرواية التي باعها أهلها لرجل ثري عجوز فعاشت في سجنه الغريب المرعب أربع سنوات بطيئة طويلة كأنها الدهر بكل أوجاعه وشجونه.
وليس العنوان في هذا العمل الروائي، والعنوان دائماً هو عتبة كل عمل أدبي، ليس سوى الإشارة الرمزية الأولى في سلسلة من الرموز المتلاحقة التي تحتشد بها الرواية وتشف عنها ظلال أسلوب ناصع جميل «...ومثل دودة شبه مهروسة تعاني سكرة الموت، ظللت على الأريكة عاجزة عن الحركة. كل شيء في الغرفة الفخمة يحاصرني بجبال غليظة. وأحسست بصمت مريب يهطل من السقف مثل بقايا رماد المواقد البائت ويتوزع في الغرفة سريعاً... وددت لو أفلت صوتي، أطلق ولو صرخة واحدة تدك القصر فأواجه الفضاء حتى وإن تهت فيه، لكن حنجرتي لم تسعفني. وتاه لساني حتى حسبت أنه قطعه قبل أن يغادر الغرفة. ظلت كلماته تطن في أذني: «عليك أن تعتادي الصمت».
ليس الموضوع الغريب جداً وتداعياته المثيرة هو ما يبعث على دهشة القارئ ويضاعف من انفعاله بهذا العمل الروائي فحسب، وانما لغته التي تشبه رهافة الموسيقى وبمعماره ومونولوجاته الداخلية وأحلامه وهذيانه وتداعياته الدرامية التي تدور حول فتاة صغيرة يبيعها أهلها بالمال أو بالأحرى يزوجونها لرجل عجوز يعيش في قصر كبير تديره الخادمات ويشرف عليه عبد شاب. ومنذ الليلة الأولى تتعرض الفتاة الصغيرة لما لم يكن يخطر على بالها، ويخطر على بال أحد، لكنها تحت التهديد والرعب اليومي تلازم الصمت وتدخل في غربة عن العالم، ومع ذلك لا تعدم مساحة من الأرض هي الحديقة المزروعة بالصبار والأعشاب والنخيل تمارس فيها ما تبقى لها من حرية استنشاق الهواء وممارسة غوايتها اليومية في إغراء العبد بمعنى الحرية، وهو الشخص الأول الذي التقت به في القصر على غير انتظار ولا توقّع في ليلتها الأولى، وفي غرفة نومها وعلى سريرها بحضور الزوج العجوز ذي الوجه المطفأ والجسد الأعجف الذي كان كلما اقترب منها تسمع لعظامه اليابسة طقطقة وأنيناً. وفي الحديقة لم تيأس من تحريك العبد وشحنه بمثيرات الألم من عبوديه لعله يتحرر ويحررها معه. جرت الأحداث بعد ذلك على بعض ما تهوى بموت الزوج العجوز وفوزها ببعض من ثروته الكبيرة، لكن حياتها كانت قد أفسدت بالزواج غير المتكافئ وما رافقه وتبعه من أحزان وأشجان.
تلك خلاصة غير وافية لرواية «صمت الفراشات» التي تشكّل اضافة جادّة الى الرواية العربية والى الأعمال الروائية التي كتبتها ليلى العثمان وشقت بها طريقها في حالة غير مسبوقة من التحدي والثقة بالنفس قلّ أن نجدها لدى كاتبة عربية في مشرق الوطن ومغربه... وهذه الثقة لا تقوم على الاعتداد المتهور والمكابرة، بل على ثقافة أدبية واسعة وانفتاح غير مبهور على مرجعيات روائية عربية وأجنبية على مستوى التنظير والإبداع. وكثيرة هي الإشارات التي تعطيها هذه الرواية الجديدة للكاتبة ليلى العثمان، أولى هذه الإشارات تقول ان بعض مفردات السيرة الذاتية للمبدع ومشاهداته تظل نهراً لا ينضب، يستمد منه ما لا يدخل في الحصر من أعمال تختلف شخصياتها وتتعدد مواقفها ومناخاتها ولكنها تبقى مرتكزة على مصدر رئيس هو السيرة الذاتية للكاتب والمبدع الذي يمتلك بموهبته قدرة عالية على استنطاق المواقف والإضافة اليها بما تفيض عليه حصيلة اطلاعه وثقافته ومعايشته للآخرين سلباً وايجاباً. واذا كانت المحاكمة وهي العمل الروائي الذي يسبق «صمت الفراشات» قد اكتسبت حيويتها من توترات الواقع السياسي الذي رافق عذاب الكاتبة، فإن هذا العمل الجديد يكتسب حيويته من الواقع الاجتماعي ومن حساسيات ذاتية ترسبت في ذاكرة الكاتبة عبر طفولة ناعمة وقاسية في آنٍ واحد.
* نقلاً عن الحياة