المؤتمرنت/ د. ابتهــاج الكمـــال * -
فسـاد المسـئول من فســاد الإجــراءات
ضمن مخاض الدولة في مكافحة الفساد المستشري تعددت الرؤى والفرضيات التي تضع آليات المواجهة مع الفساد، ويبدو أن التوجه القائم يرتكز على مفصلين: أولهما وضع تشريعات قانونية تكفل تعقب الفساد ومحاسبة مرتكبيه، وثانيهما تأمين التعاملات الإدارية بسلسلة إجراءات تمنع حصر القرار بيد شخص أو بضعة أشخاص محدودين.
-
لكن واقع الحال اليمني يؤكد أن الفساد لم يكن نتاج ثغرات تشريعية بقدر ما هو نتاج انتهاكات قانونية، وضعف الأدوات التنفيذية للقانون..لأن القانون كان يتعطل عند مواجهة الفاسدين، وتحل بدله تسويات، واجتهادات، وأعراف مختلفة؛ الأمر الذي أوجد مخرجاً آمناً للفساد ليفلت بجلده من طائلة العقاب..لقد أقر مجلس النواب سلسلة لوائح تشريعية جديدة في إطار قانون مكافحة الفساد، لكنه اغفل أن القوانين السابقة النافذة تنتظر من يعمل بها.. وهو المصير الذي قد تؤول إليه القوانين الجديدة ما لم تحل مشكلة التنفيذ.. وهذه المشكلة أفاض في الحديث عنها كثيرون!اليوم نحن نقف أمام مشكلة جديدة هي في الأصل من نتاج الحرب على الفساد. فالمشرع في هذا المجال يعتقد أن تعقيد الإجراءات الإدارية للتعاملات الحكومية من شأنها تضييق فرص الفساد، باعتبار أن دائرة صنع القرار اتسعت ولم تعد تحتمل الخروقات والصفقات الجانبية..
-
- لكن الذي حدث هو أن وجدت إدارات الدولة نفسها محاصرة بعدد كبير من اللجان ذات المسميات المختلفة ، والتي تتكون كل لجنة منها من عدد من المسئولين، رغم أن أغلبها تتشابه في المهام التي تؤديها، وكان لهذه الصيغة الجديدة انعكاسات سلبية كبيرة على اتجاهات الحرب على الفساد.. لعل في مقدمة الانعكاسات السلبية للإجراءات المستحدثة هو أنها نقلت المسئولية القانونية من عاتق الرجل الأول في المؤسسة إلى عاتق اللجان – بما معناه أنها وفرت المزيد من الحماية للفساد عندما يكون مرجعه صانع القرار الأول في المؤسسة، إذ أن اللجان المشكلة هي عبارة عن موظفين عاديين خاضعين لسلطة، ونفوذ الرجل الأول- سواء كان وزيراً أم مديراً عاماً، أو غير ذلك- وبالتالي فإن تبعيتهم له بالمرتب والمركز والدرجة الوظيفية والعلاوات والامتيازات الأخرى كفيلة بجعلهم ينصاعون لإرادته والمصادقة على مشروعية أي ممارسة يرتأيها، وهكذا فهو الوحيد الذي أصبح في مأمن فيما الآخرون تورطوا بالإجراءات.
-
- الأمر الثاني هو أن هذه اللجان أصبحت سبباً في رفع العطاءات المقدمة للدخول في مشاريع أو مناقصات، أو أي صفقات مبيعات أخرى، لأن الشركات أو الموردين أو المقاولين أصبحوا مضطرين لدفع عمولات لثلاث أو أربع لجان بعد أن كانت المسألة محصورة على لجنة واحدة أو اثنين، وإلاّ فإن الصفقة ستضيع من أيديهم – بحسب العرف السائد الذي نعرفه جميعاً..
-
- وبالتالي فإن العميل أصبح يضيف هذه المبالغ مسبقاً لتقديراته للعطاء المقدم.. ولو حاولت الجهات المختصة العودة إلى أرشيف التعاملات السابقة لهذه الإجراءات المعقدة، وعملت مقارنات لاكتشفت حجم الارتفاع الكبير في التكاليف والعطاءات المقدمة في زمن تعددية اللجان.الأمر الثالث هو أن الإجراءات المعقدة انعكست سلباً على السقف الزمني لتنفيذ المشروعات، أو الخدمات للمواطن. فبعد أن كانت الإجراءات لتوريد علاجات طبية، أو بذور زراعية، أو قطع غيار معينة لا تستغرق سوى حوالي شهر وربما أكثر بقليل، أصبحت اليوم تستغرق مدد قد تصل إلى سته اشهر أو أكثر في بعض المؤسسات، ولا تقل عن ثلاتة اشهر في أحسن الأحوال.. ولو كان الأمر متعلق بمواد قابلة لانتهاء الصلاحية فإن ذلك يعني تقليل حجم الفائدة أو المجازفة بسقف زمني ضيق يستدعي تصريف المادة الموردة- كما هو الحال مع الأدوية، والمواد الغذائية.. ولا شك إن مثل هذه الحالات تتناقض مع الطموح المنشود من قبل القيادة السياسية التي تسعى من خلاله للحاق بركب الحضارة العالمية، أو تسريع زمن التطور.ومن هنا نجد أن الآليات المستحدثة للحد من الفساد أصبحت عبئاً على العملية الإنتاجية، وضاعفت حلقات الفساد، ووفرت الحماية لفساد رؤساء المؤسسات، ونقلت إرادة صنع القرار والتخطيط من الإدارة المتخصصة إلى الإدارة المالية التي هي وحدها من يمتلك حق قبول أو رفض أي برنامج مقترح – رغم عدم اختصاصها وإلمامها بجدوى ما هو مقترح لتنفيذه، ومطلوب منها اعتماد التمويل له.إن حجم القلق من الفساد أوجد علاقات عمل غير متوازنة، وخطط غير مستقرة لا يمتلك القائمون على إعدادها منها سوى رسمها على الورق بسقوف زمنية محددة بمقتضيات مسئولياتهم واختصاصاتهم، إلاّ أنها لا يشترط فيها الإنجاز طبقاً لما هو مرسوم لأن ذلك أصبح مرهون بطابور لجان، وبإرادة الإدارة المالية في القبول أو الرفض، والإسراع أو التأخير.. وبالتالي فإننا لم نكتف بإلغاء انسيابية العمل الإداري، بل – أيضاً- خلقنا ضحايا جدد من المسئولين المناط بهم تنفيذ استراتيجيات حكومية عامة، ومحددة بسقف زمني إلاّ أن ديناميكية التنفيذ تتعرقل بفعل فساد الإجراءات المتبعة، وبالتالي فهم بنظر قيادات العمل العليا مقصرين في أداء الواجب، أو فاشلين في تنفيذ ما هو مرسوم لهم..
وإذا كانت مسئولياتهم مرتبطة بخدمة مباشرة للمواطن فإنهم سيتحملون مسئولية كل ما يلحق بالمواطن من ضرر جراء عدم حصوله على الخدمة التي يرجوها في وقتها المحدد.ولو قرأنا الأمر من جانب معنوي، فإن فساد الإجراءات المتبعة من شأنها زعزعة ثقة المسئول بنفسه، وإضعاف شخصيته، لأنه- وإن كان في اللوائح الإدارية صاحب القرار الأول والأخير في مؤسسته- لكنه في الواقع لم يعد كذلك مادام قراره محكوم "تنفيذياً" بقرار طابور الإجراءات الفاسدة.
-
- لابد أن نتساءل هنا: إذا كان ذلك هو حال الواقع، فكيف يمكن للقيادة الحكومية أو السياسية أن تقيس معايير التمايز والتفاضل بين المسئولين!؟ وكيف يمكن أن نفهم التناقض بين رغبة توسيع التحول إلى اللامركزية، وبين حصر اعتمادات مختلف الوزارات والمؤسسات الحكومية بوزارة واحدة هي المالية، وبوزير واحد هو وزير المالية!؟ ذلك صحيح أننا نواجه فساد مستشري ، وعلينا محاصرته، ثم اجتثاثه ولكن ليس بمحاصرة أنشطة الدوائر والمؤسسات والوزارات، بل من خلال اتجاهين: الأول هو بتشديد دور الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وتوسيع صلاحياته، وكوادره، وربطه مباشرة برئاسة الجمهورية. والثاني هو بتشديد العقوبات الرادعة لمختلف المخالفات الإدارية والمالية والإجرائية..
ومع وجود لوائح عمل واضحة وغير قابلة للتأويل فإن كل اتجاه سيكون واضحاً ومن السهل تتبع ضوابط سلامته.كما أن الشيء المهم أيضاً هو أن أغلب الفساد المالي الموجود يجد له أصحابه مسوغاته القانونية.. فالمؤسسات اليوم تنفق الملايين تحت أبواب نثريات، وندوات، وفعاليات وغير ذلك من المسميات التي يسهل استحصال السندات لها.. وإذا ما أردنا مكافحة الفساد يجب علينا أن نبدأ أولاً من إيجاد حل لهذه الثغرات.. ووضع تساؤل أمام كل ريال يتم صرفه: ما الجدوى التي حققها هذا الريال، وهل كان بالإمكان تحقيق نفس الجدوى بنصف ريال؟ ولماذا لم تأخذ هذه الجهة أو تلك بالخيار الأفضل!؟الحرص على المال العام يجب أن يقرأ بطريقة الفريق الواحد، فمن يراهن على الفوز لا يجرد جميع اللاعبين من الكرة ويضعها بين قدمي لاعب واحد، بل بغرس روح العمل الجماعي.. وألفت الانتباه هنا أنه إذا كانت الرشوة في الماضي يتقاضاها مسئول واحد في مؤسسة ما ، فهي اليوم تدفع للمسئول، ولطوابير اللجان، ولمن بيده قرار الاعتماد المالي.. يعني أن الرشوة نفسها ارتفعت نسبتها لأن من بيده القرار الإداري، مضطر لاقتطاع جزء منها لمن بيده القرار الفنين ثم لمن بيده القرار المالي.. وكل هذا وليد فساد الإجراءات المستحدثة.
*-مدير عام البرنامج الوطني للامداد الدوائي