جمال آدم - نجاة الصغيرة: لم اغادر الساحة الغنائية أخيراً، جاءني صوت أم علي القريبة منها، لتقول لي: لقد وافقت الفنانة نجاة علي لقائك، جهز نفسك ليوم الغد .
انتابني قلق من هذا التشريف بإجراء المقابلة، وأنا علي علم مسبق أن صاحبة السكون الصاخب حسبما أسماها الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، لم تمنح أي صحافي فرصة إجراء حوار معها، منذ أكثر من ربع قرن.. فماذا أفعل، وما حيلتي في البحث عبر آلاف الصفحات التي لا تذكر إلا شذرات من سيرتها الشخصية، والقليل القليل عن حكايتها مع أغنياتها؟
سبحان الله.. كيف تبدلت الأحوال، وتحولت الأيام، فالآن هناك طاقم من المسؤولين الإعلاميين يسبقون الفنان قبل أن يغني، بنشر حواراته وفبركة معلومات عنه،أما في السابق، فمن كان قادرا علي الحصول علي حوار مع عبد الوهاب أو نجاة أو فريد الأطرش إلا بشق الأنفس ؟
حقاً، أتعبني البحث عن معلومات تخص نجاة الصغيرة عصفورة الجنة و"صاحبة الصوت المخملي"، الذي كان وراء قصص حب كبيرة وأحلام رومانسية عاشتها أجيال متعاقبة. وكان لابد من العودة إلي الخيال والي كل ما تناقلته وسائل الإعلام عنها هنا وهناك، ولكن هل أجدت هذه الطريقة؟
الإجابة قد لا تكون قاطعة ونهائية في هذا السياق، سيما وأن الفنانة التي سعينا إلي الحوار معها، أشارت إلي أن الكثير من المواد المنشورة عنها قد لا يكون دقيقاً أو صحيحاً بما يجعل منها مادة تاريخية وأرشيفية، وإزاء قناعة السيدة نجاة الصغيرة بأن ما كتب عنها كان ناقصاً، والمادة المتوفرة غير دقيقة.
ثمة حلقة مفرغة كان من الصعب الخوض فيها أو الحديث عنها لأسباب خاصة بها، وربما لا يكون في هذا الحوار مساحة هامة للخروج بحقائق كثيرة أو تحقيق سبق صحافي في كم المعلومات المقدمة، ومن هنا ندرك علاقة السيدة نجاة مع الصحافة، وربما كان أحد أسباب غموض هذه العلاقة هي الفبركات التي كانت تقال هنا وهناك عن لسانها بهدف جرها إلي أمور لا تحب الخوض فيها، لإيمانها أن هذا ليس ميدانها، وظل يقينها قائماً علي أن الفنان الحقيقي هو القادر علي التعبير عن نفسه عبر فنه فقط. كلام قد نتفق معه أو نختلف عليه، ولكننا لا نملك إلا أن نحترمه تحديداً، وقد أثبت نجاحه في علاقة السيدة نجاة مع فنها وأغنياتها، وبالتالي قد يسأل سائل لماذا لم تتناول في هذا الحوار الأمر الفلاني، ونرد هنا بأن هذا اللقاء احتفالي ب"عصفورة الجنة ، وإن شاء الله سيكون لنا وقفات أخري في المستقبل. علي العموم، وصلنا إلي فندق القصر الفخم في مدينة جميرا علي شاطيء دبي، حيث تقيم الفنانة نجاة حسب الموعد المحدد بيننا، وأنا اعلم أنني لا أملك إلا عشر دقائق لإ جراء الحديث أو ما يتيسر لي منه، ولكن الدقائق القليلة امتدت إلي ستين دقيقة، ولولا ارتباطاتها الخاصة مع أشخاص آخرين لطال الحوار أكثر. بداية، أعتذر من الزميل المصور الذي رافقني إلي هناك لرغبة السيدة نجاة أن تهدينا بكل احترام صوراً خاصة من الحفل الذي أقيم علي شرفها في دبي من قبل المكتب الثقافي لحميد بن علي العويس بتكريمها كواحدة من الفنانين الذين أسعدوا الناس، وأمام الحب الذي قابلتنا به كان لا بد أن نستجيب لطلبها بكل رضي. وهنا وجدت نفسي كصحافي أمام مهمة غير سهلة، بعد أن لمست حرصها الشديد علي أن يكون كل حديث صادر عنها مدروساً بدقة وعناية وبإشراف شخصي منها، ورغم هذا بدأنا الخوض في حوارنا معها..
يجلس المرء أمامها حقاً ليقارن بين صورة النجمة الكبيرة المرسومة في مخيلته، وبين ذلك الكائن اللطيف والمشبع بالحيوية والدفء، ولست أدري هل أحكي عنها هنا أم تراني انتقلت إلي ذاكرتنا كجيل عايش الألم، كما عايش الفرح في أغنياتها الكبيرة .
بطبيعة الحال، كان لا بد من جس النبض بسؤال تمهيدي عن علاقتها مع الإعلام والصحافة، وأشرت في سؤالي إلي أنها والسيدة فيروز تتشاركان في أنهما لا تجريان حوارات صحافية، وليست لديهما الرغبة في التعامل مع الإعلام فأجابت بابتسامة : علشان كده خلي بالك أنا من خمس وعشرين سنة ما ديتش حد كلام عن لساني وصحيفتكم البيان هي صاحبة السبق الأول .. وتابعت قائلة: نحن كجيل من الفنانين، تربينا علي أن العمل هو من يتحدث عن الشخص، ويجعله كبيراً في نظر الناس، ولأجل هذا بإمكانك أن تلاحظ الفنانين الكبار مثل عبد الوهاب و أم كلثوم وفيروز.. كلهم كانوا كثيري الغناء قليلي الكلام والإطلالات الإعلامية، و حقيقة كنا نتعب كثيراًعلي إنجاز أغنياتنا، وكنا نراقب كل إشارة لكل كبيرة وصغيرة، كان همنا النجاح الجماهيري إلي حد كبير، وكنا مشغولين إلي درجة الهوس، بأن لا يكون هناك نقص أو خطأ في الأغنية التي تقدم .
ولأن كلام السيدة نجاة، كان يصب في إطار الجماعة، نسألها من تقصدين بكلامك كنا نراقب، ونقرر ونتعب، فأجابت : الملحن والمؤلف وأنا ..هؤلاء هم أصحاب القرار، وحتي أوضح لك الأمر، كان يجب أن أكون علي مستوي الشاعر الذي تعب في صياغة أغنيته وشعره، وأن ارتقي إلي مستوي الجملة اللحنية التي اجتهد الملحن عليها. كان علي صوتي ان يحمل كل مكنونات القصيدة واللحن، حتي يكون هناك تكامل في الأغنية التي ستخرج للناس بأبهي حلة، ومن أجل هذا كان يجب علينا أن ندرك أهمية ما نقدمه للناس التي كانت تنتظر سماع الجديد .
وعن علاقة الجيل الجديد بأصوات الفنانين الكبار وبجيل العمالقة، الذي تنتمي إليه نجاة الصغيرة، قالت ضاحكة: بحكم الزمن من المستحيل أن يظل الناس علي حالهم، لا بد أن يطرأ تغيير علي البشر وعلاقتهم ببعضهم البعض، ولكن باعتقادي أن جيلنا له حضوره، والأجيال التي تسمع الأغنيات الأصيلة تطرب لها، وما يخلد الفنان هو عطاؤه وإنجازه وما قدمه للناس .
وعن قرار اعتزالها الفن وإمكانية عودتها، سيما وان الموسيقار الراحل كمال الطويل قال لها بعد قرار الاعتزال وفي تسجيل تلفزيوني :"عودي إلينا يا نجاة ارجعي إلينا، لقد اشتقنا إلي صوتك.. قالت : عندما يقول واحد بحجم القامة الموسيقية الكبيرة كمال الطويل كلاماً كهذا، لا بد أن نعلم أن له وقعاً خاصاَعلي الأذن والروح أيضاً، ولكن أليس من الجميل أن يجلس الفنان ويشاهد أعماله تنجح باستمرار وسط الأجيال المتنوعة، ماذا بعد وما الذي يمكن أن نقدمه، لا اقصد أن الساحة خالية من المبدعين، ولكني علي قناعة بأنني بابتعادي لن أغادر المكان الذي رسمته في قلوب الناس .
تشعر عصفورة الجنة بحرج ونحن نتعرض لمسلسل الساندريلا الذي عرض لسيرة حياة أختها الممثلة الراحلة سعاد حسني وتقول : القضاء سيقول كلمته في هذا العمل، ولا أريد الخوض في الحديث عن هذا المسلسل أبداً لاسيما أنه حمل أخطاء كثيرة وكبيرة .
وأردنا التأكد من معلومة أخري، حينما حاول الشاعر نزار قباني أن يتواصل مع نجاة الصغيرة عن طريق عبد الوهاب، فأرسل لها قصيدة من كلماته كي تغنيها، كما ورد في عرض حلقات المسلسل السوري نزار قباني الذي قدم في الموسم قبل الماضي.
وهنا بادرتنا السيدة نجاة بالقول : اعتقد أن الموضوع لم يجر بهذه الطريقة بل ما حدث أنني تلقيت يوماً رسالة من الشاعر الكبير نزار قباني، وهنا أشير إلي أن علاقة صداقة ربطت بين عائلتي وعائلة الشاعر نزار، و لكنها ربما لم تكن علاقة قوية بسبب بعد المكان، وجدت في ظرف الرسالة ورقة جميلة مكتوب عليها قصيدة شعرية باللغة العربية الفصحي مطلعها : أيظن ، أحسست بعد قراءة هذه الشعر، أن هنـــاك كنزاً بين كلمات هذه القصــيدة، ولكن العثور عليه كان يتطلب صعوبة كبيرة، ولكني حقيقة لم أتلق القصيدة بارتياح كبير، لأن مفرداتها صعبة ولم يسبق لي أن غنـــــيت بتلك اللغة، فقدمتها للموسيقاركمال الطويل أسأله عنها وعن إمكانية تلحينها، فأجاب مستغرباً: إيه ده .. ومثلــه فعل الملحن محمد الموجي، وبالتالي شعرت بأن الموضوع لن يتم، وقررت أن أرسل القصيدة للنشر في إحدي الصحف المصرية، تكريماً لصاحبها الذي أرسلها لي وخصني بها، وبعد نشرها فوجئت بعبد الوهاب يتصل بي ويقرأ لي القصيدة من الصحيفة، وليسألني هل هذه القصيدة لك؟ فقلت له نعم، وكان يريد الاستفسارما إذا كانت القصيـــدة قد مرت علي أو قرأتها، وســـردت له ما جري، فطلب مني أن أراه كي أستـمع إلي لحن الأغنية، كانت حينها الساعة الحادية عشرة صباحاً، وأكد علي أن ألتقيه بعد ساعتين، وفعلاً، حينما ذهبت إليه كان اللحن جاهزاً، وغنيت أيظن للشاعر الكبير نزار قباني وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.. وخرجت الأغنية للحياة لتحقق حضوراً ساحراً في الأغنية العربية.
هناك من يقول إنك قدمت نزار قباني للنجومية والشهرة بغنائك له، هل نستطيع أن نقول إن صوتك قد قدم الشاعر نزار قباني للناس وزاده شهرة.. وهنابادرت بالإجابة فوراً وبخجل شديد: لا ..لا أستطيع أن أقول هذا، فنزار كان شاعراً كبيراً ورحل عن هذه الدنيا وهو كذلك، وهو يكتب القصيدة المغناة أي أن شعره من النوع المغني، وكنت فخورة بالتعامل معه كشاعر، وأود أن أشير إلي أنه ربطتنا علاقات طيبة مع عائلته في تلك الفترة التي التقينا فيها في عالم الفن .
سألناها كيف تقبلت سماع أغنياتها في حفل تكريمها في دبي، وما الذي انتابها وهي تستمع من جديد إلي أيظن"، و عيون القلب و أسألك الرحيلا ؟ فأجابت: أستمتع بسماع تلك الأغنيات، ولكنني قد لا انظر بعين الرضي إليها، لأني أدرك او أدركت لاحقاً، انه كان بالإمكان تدارك بعض الأخطاء الصغيرة، ولكن عموما هذه الأخطاء لم تؤثر علي المتن العام للأغنية.
وختاماً، سألنا نجاة الصغيرة عن انطباعاتها حيال التكريم، فأجابت: كنت في غاية الفرح في هذا البلد الجميل، في هذه الإمارات التي تزخر بملامح التطور والحضارة في كل مكان تطأه الأقدام، وأتوجه بالشكر الجزيل لسعادة حميد العويس علي هذا التكريم، وأتمني أن أكون بين الفئة التي أسعدت الناس من خلال ما قدمت .
اضاءة
اسمها نجاة محمد حسني البابا، والدها من أصول سورية، وهي من أسرة فنية فوالدها محمد حسني البابا كان يعمل خطاطاً، وله اهتمامات فنية، وأختها غير الشقيقةالفنانة سعاد حسني، وأخوها عز الدين حسني عازف الكمان الذي كان يعمل مع الفنانة الراحلة أم كلثوم، وهويعمل ملحناً في الإذاعة المصرية، وله العديد من الألحان.
في مطلع حياتها بدأت تتدرب علي أغنيات أم كلثوم. وقدم لها لاحقا الشاعرمأمون الشناوي أغنية أوصفولي الحب من تلحين محمود الشريف. غنت للعديد من الملحنين الكبار، ففي بداية مشوارها الفني غنت من ألحان زكريا أحمد، وأحمد صدقي، ومحمود الشريف، و أخيها عز الدين حسني، ورؤوف ذهني وغيرهم .
التقت بالموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب وأعطاها العديد من ألحانه الجميلة، وغنت للملحنين: سيد مكاوي، ومحمد الموجي، وحلمي بكر، وبليغ حمدي، وكمال الطويل الذي اعتبر من أفضل الموسيقيين الذين استوعبوا صوتها.
لعبت نجاة الصغيرة في بداية مشوارها الفني العديد من الأدوار السينمائية، وقامت ببطولة عدة أفلام منها: غريبة ، و الشموع السوداء ، و شاطئ المرح ، و 7 أيام في الجنة وغيرها...
*نقلاً عن القدس العربي
|