بقلم: أحمد بوعـود* - قراءة في كتاب "خلل يجب الوعي به" بعد الجزء الثالث، من سلسلة وجهة نظر، والذي كان يحمل عنوان التفكير الفقهي ومنطلقات أصول الفقه(1)، صدر للأستاذ أحمد الخمليشي الجزء الرابع الذي يحمل عنوان خلل يجب الوعي به، حيث أبدى وجهة نظره في مجموعة من القضايا الفقهية والأصولية في الفكر الفقهي الإسلامي، محللا ومنتقدا، من أجل خطة للاجتهاد والتجديد قادرة على تجاوز مخلفات الجمود وتغيير الواقع المعاصر... حاول أن يبلورها من خلال خمسة فصول
دور العالم في المجتمع بين الواقع وما ينبغي أن يكون
كان هذا هو الفصل الأول، قصد الكاتب منه بيان واقع دور العالم وما نتج عنه من سلبيات في الفكر الفقهي، ويلاحظ القارئ أن الكاتب يضع لفظة "العالم" بين مزدوجتين، وهذا يدل على نسبية الكلمة ودلالتها عند الكاتب، مما يوحي لا وجود لعالم مطلق. 1-
فدور العالم كما يحدثنا عنه التراث الأصولي والواقع الفكري عند المسلمين، يتمثل في:
أولا: اعتبار العالم وحده المؤهل لإدراك أحكام الشريعة وفهم نصوصها.
ثانيا: العالم عندما يفسر النص لا يعبر عن مجرد رأي في فهمه، وإنما يكشف ويعلن عن "حكم الله"، أو أن حكم الله تابع لظنه... والنتيجة الحتمية لوصف الأحكام الاجتهادية الظنية بأحكام الله، هي ثباتها والابتعاد عن التفكير في مناقشتها، إذ كيف يجرؤ المسلم على المجادلة في أحكام الله وانتقادها(2)؟
ثالثا: الصفة الفردية لاجتهاد العالم وأثرها السلبي، وهنا يلاحظ المؤلف:
-أن التنظيم الاجتماعي، قديما، كان بسيطا. ومع ذلك أدى الأخذ بنظام الاجتهاد الفردي إلى التركيز على مجالات محدودة تهم بالخصوص العلاقات بين الأفراد، ونظام الأسرة،...
-أن البحث في العلوم الإنسانية، ومنها الفقه، واستخلاص النتائج من وقائع الحياة يفتقد الوسائل الموصلة إلى العلم القطعي، ويعتمد فقط القرائن التي يختلف تعامل الأفراد معها باختلاف المؤثرات اللاشعورية التي ينقاد لها الفرد في تفكيره وحكمه على الأشياء.
-أن كليات الشريعة ومبادئها يتعذر على الفرد أن يحسن تطبيقها على المئات والآلاف من الجزئيات، كتحقيق العدل وتفادي الظلم والحيف في قوانين الضرائب، والوظيفة العمومية، والشغل، والحريات العامة، وتنظيم عشرات المهن المختلفة، وإجراءات التقاضي...
2_ ما ينبغي أن يكون
أولا: إعادة النظر في طريقة تكوين العالم ومجالات هذا التكوين.
ثانيا: وجوب التمييز بين "اجتهاد العالم" كرأي وبين "حكم الله" الواجب التطبيق.
ثالثا: تقرير القوة الملزمة للأحكام الشرعية، وظيفة الأمة ومسئوليتها.
هذا الموضوع، يؤكد الخمليشي، من أهم وأدق الموضوعات التي تواجه الأمة الإسلامية، ومع ذلك لم يتوجه التفكير بعد إلى البحث عن الحل الملائم.
ثم يخلص المؤلف إلى تعذر إسناد التقرير في القواعد المنظمة للعلاقات الاجتماعية إلى "العلماء"، بحجة:
-صعوبة، إن لم نقل استحالة، تحديد قائمة العلماء الذين يسند إليهم التقرير.
-بداهة الاختلاف في الرأي، والتنظيم في الدولة الحديثة لا يقبل وجود قاعدتين قانونيتين متعارضتين.
- "العلماء" أنفسهم يقولون بأن أحكام الشريعة شاملة لكل مرافق الحياة في المجتمع المسلم، بينما التكوين التقليدي للعلماء قاصر على بعض تلك المرافق فقط. وفي هذا تكليف للعلماء بما لا يطيقون(3). ويقترح بهذا الصدد مجموعة من الوسائل(4)، نختار منها:
-نشر المعرفة الدينية بين المواطنين. ويقصد خصوصا القيم الدينية الضابطة لسلوك الفرد وأدائه المسئولية؛ وسيلة هذه المعرفة أولا المدرسة الوطنية التي ينبغي أن يدخلها كل أبناء المغاربة بدل مدارس البعثات الأجنبية، وتعليم تقليدي، وعصري، وآخر أصيل، وثالث عتيق.
ثانيا: خطبة الجمعة التي تركز الآن على الجانب الشخصي للفرد، وتهمل الجانب الاجتماعي والسلوكي.
-مساهمة "العلماء" ضمن عناصر حركة المجتمع الناهضة، بالقراءة الواعية لنصوص الشريعة وقيمها السامية، وتنزيلها على وقائع الحياة كما يعيشها الناس، باتباع أسلوب المناقشة والإقناع، فالقرآن وهو كتاب الله أخبر بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنه الصراط المستقيم الذي لا يزيغ عنه إلا هالك.
وأما عن دور العلماء في الحياة الاجتماعية وفي القواعد التي ينظمها، فيرى أنه يجب أن نضع أمام أعيننا في وقت واحد قصد التحليل والاستنتاج، نصوص الشريعة، وأصول الفقه، ووقائع الحياة في حركيتها وتطورها.
بعد هذا، يلخص لنا الكاتب دور العالم ومسئوليته داخل المجتمع الإسلامي، في:
1_دراسة وفهم مصدري الشريعة.
2_معرفة أشكال الصياغة التي وردت بها نصوص الشريعة في تقرير.
3_التطبيق الفعلي للصفة الظنية للأحكام الاجتهادية.
4_الالتزام في تفكيره وتحليلاته بالواقعية، بالانطلاق من الواقع المعيش وما يسود فيه من أنظمة اجتماعية... وبتقديم أحكام قابلة للتطبيق على واقع حياة الناس...(5)
5_الاندماج في المجتمع والتفاعل أخذا وعطاء وترشيدا مع أفكاره ومسيرته التطورية(6).
6_التوعية السليمة للأفراد والمجتمع بأحكام الشريعة.
7_ نشر قيم السلوك التي بدونها لن يتحقق إصلاح ولن يدرك فلاح (لا يغير الله ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
التجديد في أسس الفكر الفقهي قبل مجالاته
يرى الأستاذ أحمد الخمليشي أن أزمة الفكر الفقهي تكمن في العناصر التي يقوم عليها وتتحكم في توجيه مساره وهي :المجتهد ,وسائل الاجتهاد ,طبيعة الرأي الاجتهادي, وعليها كان مدار الكلام في هذا الفصل ,من حيث عرض مكامن الخلل ,ومن حيث بيان جوانب التجديد...
1)أسس الفكر الفقهي المتداول (أو جوانب الخلل)
أولا: المجتهد
إن المجتهد، كما هو في الأدبيات الفقهية والفكرية هو صانع الفكر الفقهي، منه وإليه ينتهي. والواقع أنها فكرة تنظيرية، ربما لا يتحقق لها وجود ملموس قابل للتطبيق. كيف ذلك؟ يجيبنا المؤلف بعرض خلاصة لهذا التصور النظري:
_غياب الطريقة أو الوسيلة العملية لاستحقاق صفة "المجتهد"، حيث لم يعترف لفرد بصفة الاجتهاد، على مر التاريخ. وبعد قيام المذاهب، انحصر الاعتراف بالاجتهاد فيمن نسبت إليهم هذه المذاهب. ووضعت أوصاف لمن عداهم كانت أقرب إلى الاختلاق والافتراض تبريرا لتأسيس المذهبية وشرعيتها.
_غياب الحل العملي في حال تعدد الآراء الذي هو نتيجة حتمية للاجتهاد الفردي...
_المعرفة الفردية للمجتهد قادرة على استيعاب كل مرافق التنظيم الاجتماعي، وتقديم الأحكام الجاهزة منها استنادا إلى فهمه لنصوص الشريعة. لكن هذه المعرفة مستحيل تحققها. فكانت النتيجة تركيز الفقه على العلاقات بين الأفراد، وإغفال تنظيم الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها بالأفراد(7).
_الأمة كلها معزولة عن نصوص شريعتها، ومرفوع عنها مسئولية الرجوع إلى هذه النصوص العمل بمقتضى ما تفهمه منها، فهي ملزمة بتقليد المجتهد...
_التعارض مع سنة الاجتماع البشري التي لا تقبل الانقياد لآراء فرد، والاستسلام لأوامره إلا أن يكون رسولا آمن المحيطون به وبرسالته، أو ديكتاتورا استخف به قومه فأطاعوه.
ثانيا: وسائل الاجتهاد
يقرر المؤلف أن الفقه المقيد باستعمال وسائل التفسير المحددة في الأصول من المنطوق والمفهوم والقياس يتسم بالقصور، ويتعذر عليه النمو ومسايرة تطور الحياة، وعلاقات الناس(8).
ثالثا: الرأي الاجتهادي
يبدأ الخمليشي بالإشارة إلى أن وصف الرأي الاجتهادي بالحكم الشرعي، وأحيانا بحكم الله الواجب التطبيق، أكسبه مناعة أو حصانة مزدوجة، من حيث كونه حكم الشريعة المنزلة للتطبيق لا للمناقشة، فتبقى وظيفة الدارس الحفظ والنقل لا غير... ومن جانب آخر، لا أمل لبلوغ صفة المجتهد التي تخول صلاحية إبداء الرأي، مادام ليس هناك اعتراف بهذه الصفة للفرد، وإن الاجتهاد حصر في الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب.
2_فما هو التجديد المرغوب فيه، إذن؟
ينطلق التجديد في نظر الأستاذ احمد الخمليشي من الأسس أو العناصر التي تمثل أزمة الفكر الفقهي:
أولا: المجتهد
بناء على مظاهر الأزمة المشار إليها سابقا، حيث المجتهد هو صاحب الكلمة والرأي، فإن الكاتب يقترح:
_الاستغناء عن إنفاق الجهد والوقت في مناقشة شروط الاجتهاد وطرقه وأنواعه، مادام ذلك لا يوصل إلى نتائج قابلة للتطبيق في الحياة العملية.
_الترفع عن الجدل الذي لا ينتهي إلى طائل حول من يحق له الحديث عن الشريعة وأحكامها، ومن يمنع عليه ذلك.
_تجاوز الحديث النظري والمناقشات المستفيضة عن مقاصد الشريعة وتقسيماتها إلى التطبيق العملي لهذه المقاصد على أنظمة المجتمع المعيشة، والعلاقات بين أفراده(9).
_توجيه كامل العناية إلى القراءة المتعمقة لنصوص الشريعة، والانطلاق منها إلى صياغة الأحكام التي يحتاج إليها المجتمع.
_يساهم في هذه القراءة كل من أنس من إمكانياته الفكرية القدرة عليها، وسيقحم نفسه فيها قطعا من لا يحسنها، ولكن لا خطر في ذلك، فتعايش الحق والباطل وتدافعهما سنة من سنن الله في هذه الحياة، ويعلو الحق على الباطل، (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)...
ثانيا: وسائل الاجتهاد
يشترك في تجديد الفكر الفقهي:
_المتخصصون في الدراسات الأصولية والفقهية بمفهومها المتداول.
_المتخصصون في الفروع المعرفية التي تزداد تنوعا واتساعا في المجتمع الحديث.
_جميع المكلفين المؤمنين بشريعة الله...
وبعد هذا يستدرك المؤلف قائلا: "والذي يعنينا الآن ليس من يساهم في إنتاج الفقه، وإنما طرق هذا الإنتاج، فلكي ينمو الفكر الفقهي ويستجيب لكل حاجات المجتمع يتعين أن يتناول بالتحليل والاستنتاج كل نصوص الشريعة، سواء كان استخلاص الأحكام منها يقوم على الفهم اللغوي، أو التجربة، أو مراعاة مآل الفعل، أو العقل بالنسبة للكليات"(10).
ثالثا: الرأي الاجتهادي
يرى الكاتب ضرورة الفصل بين إبداء الرأي في تفسير نص شرعي، الذي يجب أن يتاح لكل قادر عليه بتخصصه أو تجربته، أو رجاحة عقله، وبين التطبيق الواجب لهذا النص الذي يسند إلى تقرير الأمة التي توازن بين الآراء المختلفة لتنتقي منها ما تراه أقوى سندا، أو أكثر ملاءمة، أو تمازج بين رأيين أو أكثر...
تطبيق الشريعة بين التنظير والواقع
يتناول الكاتب هنا المفارقة بين ما يريده جميع المسلمين، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية، وبين الواقع، وهو عدم تحقق هذا التطبيق.
هذه المفارقة (أو التناقض)يرجعها المؤلف إلى التناقض العميق الفاصل بين التنظير في ثقافتنا الإسلامية وبين الواقع الذي نعيشه.
أولا: من حيث التنظير
فالفقه، في مضمونه:
_لا يتناول إلا جزءا محدودا من مجموع مرافق الحياة الاجتماعية التي يتولى "القانون" تنظيمها في الدولة المعاصرة.
_حتى الموضوعات التي تناولها "الفقه" استجدت فيها وقائع لم يتعرض لها الفقهاء من قبل.
_قسم غير يسير من الأحكام الجزئية في كل باب من الأبواب الفقهية لم يبق قابلا للتطبيق.
وأما الأسلوب الذي يقدم به هذا الفقه فيلخصه الكاتب في دمجه مع أحكام النصوص القطعية الدلالة ووصف الجميع بـ"أحكام الشريعة الإسلامية"، بل ودون تمييز في الأحكام الاجتهادية ذاتها بين ما يزال منها يحقق المصلحة أو الحكمة التي قرر من أجلها، وبين ما فقد حكمته، يطبق عليه المبدأ الأصولي: الحكم يدور مع علته وجودا وعدما"(12).
أما أصول الفقه فيقرر أن للمجتهد وحده حق تفسير نصوص الشريعة وبيان ما تقرره من أحكام، وصياغة الأحكام الملزمة في جميع مرافق الحياة الاجتماعية، وهو الذي جمع تلك الأوصاف التي أوردها الشافعي، مع ما أضافه الأصوليون بعده.. ورأي المجتهد هو حكم الله أو حكم الشريعة...
ثانيا: الواقع
يؤكد أن هناك تفاوتا كبيرا بين ما كان يحتاج إليه المجتمع قديما من تنظيم إلزامي لعلاقاته، وبين ما يحتاجه مجتمعنا المعاصر... هذا التفاوت أفرز:
_مرافق جديدة لم يعلن قبل بتنظيمها، ولكن اليوم أصبح ضرورة.
_توسعا ظاهرا في القواعد المنظمة للمجالات التي تناولها "الفقه" في مؤلفاته ونوازله.
_عددا من الأحكام التي سبق الإفتاء بها لم يبق قابلا، أو ملائما للتطبيق.
بعد هذا الوصف لعلاقة التناقض بين التنظير والواقع يقرر المؤلف: لا تطبيق لأحكام الشريعة في ظل التنظير الحالي!
فماذا يقترح الكاتب؟
1_ التخلي عن فكرة "المجتهد" بالتصور الذي يقدم به أصول الفقه والبحث عن تصور آخر قابل للتطبيق.
2_تصحيح النظر إلى رأي المجتهد انطلاقا من حقيقة كونه رأيا ظنيا صادرا من فرد يتأثر قطعا، بشعور أو بدونه، بخصائصه الشخصية وبمحيطه الزمني والمكاني.
3_توجيه الدراسات الأصولية إلى:
ا_العناية بجمع كليات الشريعة وتدريسها من خلال الأمثلة العملية المقتبسة من العلاقات الاجتماعية المعيشة، وفي مختلف فروعها من النظام الدستوري إلى ما دونه من مرافق الحياة التي ينظمها القانون في مؤسسة الدولة الحديثة.
ب_إضافة موضوع "حكمة الحكم ومآله" في الدراسات الأصولية، والتأكيد على كون "الحكمة" و"الدلالة اللغوية" عنصرين متوازنين في تفسير النصوص الجزئية، لا غنى لأحدهما عن الآخر. وبذلك تستمر حيوية الفقه، وتنمو لدى دارسيه حاسة التحليل والبحث عن الأفضل. وهذه سمة العقل الخلاق المؤدي لأمانة التكليف.
جـ_إضافة موضوع مستقل للصفة الظنية للأحكام الاجتهادية وربط هذه الصفة بما تتميز به قواعد التفسير من المرونة والتداخل وبطبيعة وقائع الحياة الاجتماعية التي يتجاذبها دوما داعيا المصلحة والمفسدة. ويقترح الأستاذ أحمد الخمليشي في الفقه أهم الخطوات العملية لتطبيق أحكام الشريعة، والمتمثلة في إعادة صياغة مضمون "الفقه الإسلامي" المقدم في مؤسسات الدراسات الإسلامية. ومن ملامح هذه الصياغة:
1_تفريع دراسته إلى قسمين عام وخاص: يتناول القسم الخاص منها كليات الشريعة مع التوسع في تطبيقها على فروع ومجالات الأنظمة الاجتماعية (القانون)المختلفة.
والقسم الخاص يخصص للأحكام الجزئية حسب الأبواب الفقهية المعروفة مع إضافة أبواب أخرى للموضوعات التي لم تدرس من قبل، وتفريعه إلى تخصصات للحصول على تكوين أعمق وأفيد.
2_توجيه دارس الفقه إلى الفهم الصحيح لعدة مبادئ، أنتج سوء فهمها كثيرا من السلبيات، في مقدمتها:
ا_الفهم السليم لنصوص الشريعة مرتبط حقا بمعرفتها وبالاستعانة بقواعد تفسيرها، ولكن تفسير تلك النصوص ليس خارجا عن قوانين الإدراك التي أودعها الله عقل الإنسان، وليس "سرا"، يعلق الخمليشي، لا يكشف إلا لبعض الناس دون الآخرين.
ب_بيان صاحب المعرفة لحجج رأيه المقنعة، وبيان خطأ الآخر وإرشاده إلى الصواب بدل ادعاء الوصاية عليه في الإدراك وإبداء الرأي.
جـ_الدور الأساسي للعقل في فهم النصوص وتطبيقها على وقائع الحياة وجزئياتها.
د_تكامل التخصصات المعرفية لدى الأفراد، وإن بدت منفصلة بعضها عن بعض.
خلل يجب الوعي به
إن الخلل الذي يقصده الكاتب واقع في الثقافة السائدة التي ما تزال تميز بين "الحكم الشرعي" وبين القاعدة القانونية، وتفرق بين بالتالي بين المؤهل للنطق بالأول، وبين من له صلاحية إصدار الثانية. هذا الخلل راجع إلى حصر الاختصاص بالنوع "الأول في المجتهد" أو "العالم"، مع إلزام الآخرين بتقليده، وهذه فكرة سبق للكاتب أن عالجها في الفصول السابقة. ويؤكد هنا على:
أولا: المبالغة في ادعاء تحكم مبادئ أصول الفقه في الاجتهاد على حساب العقل والتفكير المنطقي. والحقيقة، في نظر الكاتب، أن قواعد التفسير الأصولية لا تتجاوز الصفة الاسترشادية والاستئناسية.
ثانيا: إغفال قصور آليات التفسير الأصولية عن الإحاطة بكل نصوص الشريعة.
ثالثا: عدم مناقشة الأسس المبررة للاحتكام إلى رأي فرد في تحديد أحكام الشريعة.
ويختم الأستاذ أحمد الخمليشي مقررا أن لا علاج للوضع المضطرب والعاجز عن الانخراط في حضارة الإنسان المعاصر إلا بإقرار الوحدة بين الحكم الشرعي وبين القاعدة القانونية، كي يكسب التنظيم الاجتماعي الاحترام الواجب من المواطن الذي هو العنصر الفاعل في تحقيق القانون لغايته وأهدافه.
مستقبل العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارات المعاصرة
1-مقومات "الحضارة" وماذا يتوفر منها الآن
-التمكن من المعرفة التي وصلت إليها الحضارات الرائدة.
-التعايش وتدبير الاختلاف. وهنا يعرض الكاتب لأهم الوسائل التي توصل بها المجتمع الحضاري الحديث إلى تدبير الاختلاف:
-حرية إبداء الرأي في ظل عدم انتهاك حقوق الآخرين أفرادا ومجتمعا.
-تشريع النظام القانوني الذي يتجاوز الرأي ويعلوه كي يلزم الجميع ويضبط بدقة علاقات الأفراد ويحدد حقوقهم والتزاماتهم.
-التنظيم المؤسسي للدولة واستبعاد الخلط بينهما وبين الأشخاص الذين يساهمون في تسييرها.
-القدرة على تدبير الاختلاف بمعنى الجمع بين حرية الرأي وتعدده، وبين ضبط السلوك وتنظيم المجتمع بقواعد وأحكام موحدة ملزمة للجميع، وذلك عن طريق التمييز بين التعبير عن الرأي (فردا وجماعة)الذي لا يلزم أحدا، وبين إقرار الحكم الملزم في السلوك والعلاقات الاجتماعية.
-القيم التي تحقق التوازن بين حاجات الإنسان المادية والاجتماعية(13).
-مساهمة مجموع الأمة في صنع "الحضارة" ومسيرتها.
-القدرة على التعايش مع الحضارات الأخرى.
ماذا نتوفر عليه الآن من مقومات الحضارة ؟
يسوق الأستاذ الخمليشي هنا مجموعة من الإحصائيات المتداولة، نختار منها:
-سكان العالم الإسلامي يقربون ربع سكان العالم وحصتهم من الثروة العالمية تقل عن % 6.
- % 80 من الإعدامات سنويا تنفذ في الدول الإسلامية.
-الجامعات تنفق على البحث العلمي % 1 من ميزانياتها العامة مقابل % 40 تنفقها الجامعات الأمريكية. ومع هذا المستوى الوضيع للبحث العلمي يزيد من هشاشة ما تستنزفه هجرة مليون ومائتي ألف كل عام من البلدان الإسلامية إلى أوربا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلاندا من المهاجرين ذوي التعليم العالي.
-كل الدول العربية لا تترجم من الكتب أكثر من 330 كتاب في السنة الواحدة، وهو لا يتعدى خمس ما تترجمه دولة صغيرة مثل اليونان.
2-الفوز بالمستقبل يفرض تغيير ما بالنفس وإصلاح الذات وأخذ العبرة من الماضي والحاضر آفة حضارة اليوم هي تنكرها للمرجعية الدينية والقيم الروحية، والاستسلام للأنانية النفعية والرغبة الجامحة في المتعة. وهنا يثير سؤالين أجاب من خلالهما عن إشكالية الموضوع:
أولا: لماذا انفصلت الحضارة لدى المجتمع المسيحي عن المرجعية الدينية وانتصرت للعلمانية وفصل الدعوة عن الدين؟
يرى الأستاذ الخمليشي أن سبب ذلك يرجع إلى:
-الجمود الفكري لدى "رجال الدين" أو الإكليروس الذين يمثلون الكنيسة الناطقة باسم الله.
-احتكار "رجال الدين" لفهم النصوص الدينية والإفتاء باسمها.
ثانيا: ما أسباب سريان العدوى إلى المجتمع الإسلامي؟
يبدأ الكاتب هنا عرض بداية التقليد والانغلاق المذهبي وما نتج عن ذلك من أفكار أصبحت مبادئ حاكمة للفكر الفقهي خاصة، والفكر الإسلامي عامة. ثم يوضح أسباب ذلك في:
-ما خلفه "الأئمة" من نصوص وما دون من أجوبتهم هو الشريعة التي أنزلها الله، وأمر الحكم بها ونهى عن تجاوزها، وإن تعلق الأمر بمجرد رأي اجتهادي أو تفسير لنص ظني الدلالة.
-حفظة هذه النصوص والأجوبة هم الناطقون باسم الدين والمالكون لسلطة التحليل والتحريم، وعلى الباقي من المسلمين التلقي والامتثال... وبذلك تشابهت هذه الفتاوي مع فتاوي الكنيسة المسيحية في اعتماد التقليد مع نسبة الحكم مباشرة إلى الله، وإن كان مجرد رأي من رأيي أو أكثر في تفسير النص الديني.
-كل إضافة أو جديد لم يرد عن "الإمام المقتدى به" هو ضلال وفساد، و"شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
-انغلاق التعليم والمعرفة بشأن تنظيم المجتمع وعلاقة الإنسان بالكون المحيط به، في نقل وحكاية "المروي في المذهب" رغم أن الكثير منه لم يعد صالحا للتطبيق...
بعد هذا يلخص لنا الكاتب وجهة نظره في الموضوع يعرضها للمناقشة والتقويم والتقوية، متمثلة في:
-العقيدة الدينية الواعية التي تتأسس لدى الفرد عن وعي وفهم عميق.
-لتحقيق الاستفادة من العقيدة الدينية، لا غنى عن الانطلاق من إصلاح تعليم "الدين"، وذلك بتفريعه إلى:
ا_تكوين مركز على الوعي بمفهوم الدين وبقيم الفكر والسلوك التي يؤدي بها الإنسان الأمانة التي تحملها بعد أن أبت السماوات والأرض.
ب_تكوين تفصيلي أو متخصص في نصوص الشريعة وأحكامها، ومهام هذا التكوين:
-المساعدة والإرشاد إلى الفهم السليم لأحكام الدين بالبيان والإقناع، وليس بالإملاء وفتاوي التحليل والتحريم.
-قراءة نصوص الوحي وتطبيقها على وقائع الحياة المعيشة، وإنهاء أسلوب النقل والحكاية.
-المساهمة في صياغة "فقه إسلامي" حقيقي يعالج العلاقات التي يحتاج المجتمع فعلا إلى تنظيمها، بدل الاكتفاء بنقل ما قاله السابقون الذي كان في حينه "فقها إسلاميا" يقدم الحلول لكل أسئلة الواقع، أما الآن، فالآلاف من الأسئلة لا تلقى جوابا.
-السعي الحثيث إلى التمكن من المعرفة التي وصل إليها الإنسان في كل فروعها وتخصصاتها.
-التخلي عن الفتاوي الفردية بالتحليل والتحريم والمساس بعقيدة الآخرين باسم الدين، وبأسلوب الإخبار عن الله وشريعته، وتعويض ذلك بالفصل بين إبداء الرأي بمعنى الإقناع الشخصي بأن واقعة ما حكمها الشرعي هو كذا اعتمادا على المؤيدات التي يبينها صاحب الرأي، وهو لا يلزم أحدا أيا كان من صدر منه، وبين إضفاء الصفة الإلزامية على حكم ما باعتباره حكما شرعيا يجب على الجميع تطبيقه والخضوع له. وهذا يتعين أن يوكل إلى مؤسسة يسند إليها المجتمع إقرار الأحكام ا لإلزامية بصرف النظر عن كون الحكم متفقا عليه أو مختلفا فيه بين عدة آراء. وبذلك يكتسب "الحكم الشرعي" حرمته ومصداقيته بدل الفوضى الحالية الناجمة عن فتاوي التحليل والتحريم الفردية.
ويختم الكاتب بجملة أعتبرها محور ما دار عليه الكتاب كله، قوله: "نعلم جميعا حقيقة الانتخابات في العالم الإسلامي عموما، ولكن إذا كنا عاجزين عن إصلاح سلوكنا وعلاج انحرافاتنا، فإن الحديث عن بناء حضارة إسلامية مكافئة لحضارة الغرب أو تفوقها يبقى حديث نفاق وخداع والسكوت خير منه قطعا"(14). وهذا هو الشرط الأساس في الأمر كله.
تعقيب
1- يبدو وكأن فصول الكتاب كتبت معزولة عن بعضها، نظرا لكثرة التكرار الوارد في الأفكار.
2- إذا كان الكاتب يرى أن دقة الموضوع وصعوبته ترجع إلى الجواب عن سؤال: كيف تعبر الأمة أو المجتمع عن رأيه في تقرير الأحكام الشرعية المنظمة المرافقة والعلاقات بين أفراده؟ فإني أرى أن السؤال الأجدر بالإجابة، والأسبق، هو: من يمنح للأمة وغيرها هذا الحق؟ ذلك أن تاريخ المسلمين يشهد أن الأمة بقيت قرونا بعيدة عن التقرير، فلا أحد يعيرها اهتماما.
ولقد تربت الأمة قرونا على ذهنية القطيع، حتى أصبحت لا تقدر على تدبير أمورها، فتنتظر أن يفعل بها ولا تفعل. فإن قرونا ممن الظلم والاستبداد وتهميش الأمة، بل وحتى العلماء،صعب تجاوزها. وهذا في نظري أهم ما يكمن أن يتوجه إليه الفكر الإسلامي المعاصر.
3 –يرى الأستاذ الخمليشي أن واجب العلماء نشر قيم السلوك التي بدونها لن يتحقق إصلاح ولن يدرك فلاح، لكن الأمر، في نظري، يحتاج إلى تربية لهؤلاء العلماء على هذا السلوك أولا، حتى يجدوا ما يقدمون لغيرهم. فالأمر لن تفي به الكتب والمؤلفات، وإنما يقتضي إرادة نابعة من تربية إيمانية عميقة وشاملة. بل إن ما تكلم عنه الكاتب طيلة هذه الاقتراحات إنما هو جماع شعب الإيمان، أساسها تربية إيمانية قلبية تسيّر العقل.
4- يرجع هذا التناقض بين ما يريده المسلمون، وهو تطبيق الشريعة، وبين واقعهم، إلى ذلك الانفصال الذي وقع منذ وقت مبكر في تاريخ المسلمين بين الشريعة وواقع المسلمين؛ فمنذ انتهاء فترة الخلفاء الراشدين والشريعة مفصولة عن المجتمع إلا في قضايا فردية، إلى أن سد باب الاجتهاد حيث ازدادت الفجوة اتساعا بين الشريعة والواقع إلى يومنا هذا، فأصبح الوصل أمرا مستعصيا.
5- إن تصور الأستاذ أحمد الخمليشي حول الاجتهاد لن يكون له جميل نتائج في مجتمع تميزه خاصيتان:
الأولى: الأمية. وقد كشفت الإحصائيات عن أرقام مهولة. وهنا يأتي دور التعليم الذي يعيش وضعا كارثيا.
الثانية: أن النخبة المثقفة في المغرب، وفي غالب الدول العربية، ليس لها تصور كامل حول قضايا الإسلام ومقاصده بفعل العلمنة والتغريب الذين تعرضت لهما المجتمعات العربية. هذا، دون الخوض في نوايا الآخرين.
من هنا، نسأل: هل يمكن الوضع الحالي أن يساعد على تطبيق هذا التصور؟ وما يضمن لنا عدم الوقوع في الانزلاقات والانحرافات من قبل المغربين والعلمانيين، وتطالعنا الصحف والمجلات بدعمهم لقضايا الفساد القيمي والأخلاقي من غير وازع؟ وهذه أمور لا تدعو إلى اجتهاد، بل هي مما اتفقت عليه جميع الديانات والحضارات!
فهل هذه هي الفئة التي يريد الكاتب إشراكها في الاجتهاد، وإعطاءها حق التصويت؟
6-ألا يمكن لمؤسسات الاجتهاد الجماعي، كما يطرحها كثيرون، أن تحل المشكل في نظر المؤلف؟
7-وأخيرا، أرى أن الضرورة تدعو إلى قراءة تاريخ الفقه الإسلامي الأصولي والاجتهاد من جديد وبمنظار الأحاديث النبوية، والتي تؤرخ لعهد النبوة والخلافة الراشدة ثم الملك العاض فالملك الجبري، وربط هذه التحولات السياسية بما آل إليه الفقه الإسلامي، وكذا مناهج الاجتهاد، قبل سد باب الاجتهاد وبعده، والأسباب الحقيقية التي أدت إلى وضع الجمود والركود. هكذا، فقط، يمكن أن نتبين السبيل للاجتهاد والتجديد، بتجاوز ما سبق أن وقع في الماضي، علما أننا الآن، ووفق المسار التاريخي للأمة، نوجد أسفل نقطة، والبناء من غير النظر إلى التاريخ، إنما هو عبث وتخبط نكتشف بعده أننا لازلنا حيث كنا!!
8-ويبقى الكتاب خطوة مهمة في تبين سبيل الاجتهاد المعاصر، يحتاج كما قال صاحبه إلى مزيد نقاش ونقد، حتى يمكن تطويرها... لكن يبدو أن التيار التقليدي السائد في الفكر الفقهي لا يقبل، ولن يقبل، أن يسمع آراء مخالفة لما هو سائد. وهذا ما لمسته من خلال مناقشة بعض أفكار الكتاب مع بعض الباحثين حتى من داخل دار الحديث!
ومن جهة أخرى، فإن الكتاب يحمل أفكارا يصعب أن تلقى رواجا، للسبب السابق الذكر، ولكون الأستاذ أحمد الخمليشي لم يستطع، وهو الآن في الجزء الرابع من وجهة نظر، أن يؤسس مدرسة تجمع الباحثين الذين يمكن لهم أن يشتركوا معه في أفكاره ووجهة نظره وينشرونها ويطورونها
الشهاب
|