د.عبدالعزيز المقالح -
عن إمارة الشعر وخلافته
* لم أكن الوحيد الذي أثارت انتباهه الدعابة الطريفة التي أطلقها الصديق الشاعر الكبير سميح القاسم في عددٍ سابقٍ من هذه المجلة، وقد تصدّرت الدّعابة مقابلة معه أثناء مشاركته في المؤتمر الأخير لاتحاد الأدباء العرب في مصر العربية، وفوزه بجائزة نجيب محفوظ.. والدّعابة هي: "أطالب بالخلافة والجواهري كان يريد أن يبايعني أميراً للشعراء من بعده". وللشاعر الكبير
–كما يقول أصدقاؤه المقرّبين- قدرة على اختراق أجواء الكآبة المحليّة والعربية بإطلاق عددٍ من الدّعابات الثقافية والسياسية والاجتماعية. ولم تكن هذه الدّعابة الجديدة –بكل تأكيد- سوى واحدة من دعابات كثيرة حاول بها التخفيف عن التوتر العام الذي رافق المؤتمر الأدبي الذي أعاد قيادة اتحاد الأدباء العرب إلى القاهرة.
كان التعليق الأول على الدعابة المذكورة من ناقدٍ عربيٍّ يقيم في إحدى الدول الأوروبية، وقد جاءني عبر الهاتف، وخلاصته أن الجواهري لم يكن أميراً للشعراء، ولم يبايعه أحد بالإمارة، وقد ظل مواطناً يكتب الشعر ويتنقل في المنافي من بلدٍ إلى آخر حتى وافته المنيّة.
وأردف الصديق الناقد تعليقه الجادّ بدعابةٍ مماثلةٍ يندب فيها حظّ النّقاد الذين لم ينالوا إمارة ولا خلافة، ولم يطمح إلى أيّ منهما ناقدٌ كبيرٌ أو صغيرٌ؛ مع أن وجودهم صار يفوق وجود الشعراء، ودورهم في إثارة الخلافات أكثر من دور الشعراء، وإذا كان لا بد من إمارة ما فلتكن من نصيبهم تقديراً لجهودهم في فكّ النـزاعات الشعرية وما طرأ على الحياة الأدبية من خلافات حادّة حول القديم والجديد.
وفي سياق الدعابة نفسها سأفترض أن فكرة الإمارة أو الخلافة في الشعر قد عادت فعلاً إلى الظهور، فإن الأقطار العربية سوف تتنازع عليها كما تتنازع الأمانة العامة لاتحاد الأدباء العرب. في ظني أن كل قطر عربي سيكون له أميره أو خليفته الشعري، أو بالأصح أمراؤه وخلفاؤه؛ فالشعر لم يعد شعراً واحداً أو نظاماً عروضياً واحداً إذ تعددت أنظمته من العمود إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر.
وفي هذه الحال سيكون لكل قطر ثلاثة أمراء وقد يضاف إليهم أمراء الشعر الشعبي على اختلاف أشكاله ومسمياته في النهاية وسيكون هناك بالضرورة اتحاد لأمراء الشعر العربي ونواب ومساعدون ومستشارون وبذلك تكثر المناصب ويشتد التنافس والخلاف عليها ويكون الشعر وحده هو الغائب. أما الجمهور فلن يكون له علاقة بما يحدث فقد نفض يده أو كاد من موضوع الشعر قديمه وحديثه.
وحين نخرج من دائرة الدعابة وندخل منطقة الجد فإننا سنرى أن الشعر العربي لم يكن بحاجة لا الأمس ولا اليوم -ولن يكون بحاجة في الغد- إلى إمارة أو خلافة بقدر حاجته إلى النظر في وضعه الراهن، وفيما يقال عن انحساره، وفقدان تأثيره، بعد أن ترك مكانته لفنون أخرى صارت تجسد التعبير اليومي عن هموم الناس ومسراتهم، وبعد أن كان الشعر في مكان الصدارة وفي صميم ثقافة الشعب بدأ في التواري.
وكان على الشعراء بدلاً عن فتح الأبواب للصراعات الذاتية وإشعال حرائق هي أبعد ما تكون عن معنى الشعر أن يراجعوا أسباب الانحسار وما ينبغي أن يكون عليه الشعر في وطن تكاثر عدد أبنائه ووصل إلى ما يزيد عن ثلاثمائة مليون إنسان فيهم مائة مليون قارئ على أقل تقدير ومع ذلك لا يباع من ديوان الشعر الجيد أكثر من خمسة آلاف نسخة، وهي فضيحة قومية قبل أن تكون فضيحة للشعر والشعراء!
ذلك ما يحتاجه الشعر الذي أقام دولته المعلنة عبر العصور على العلاقة الوثيقة بالجمهور وتحققت دولته بالكلمات الجميلة.
وهي الدولة التي لم يكن لها رئيس ولا ملك وليس فيها وزير ولا أمير، كان ذلك شأنها قديماً وبقي كذلك حديثاً حتى عندما حاول بعضهم أن يغير دستورها غير المكتوب ويدخل عليه تعديلات تنصّ على وجود الإمارة فقد قوبلت التعديلات –يومئذٍ- بقدرٍ غير قليلٍ من السخرية.
ولا أتردد عن القول إن الشاعر الإحيائي الكبير أحمد شوقي الذي تداعى صغار الشعراء وبعض كبارهم إلى تكريمه بتنصيبه أميراً للشعراء، قد كان في قرارة نفسه يسخر من تلك البدعة وذلك المنصب، وإنه كان يرى فيها خروجاً على الدستور المتعارف عليه. لكنه تقبل ذلك التكريم واللّقب الفضفاض تحت وطأة أضواء الإعلام، وإلحاح صغار الشعراء، ووجد أنه لا مناص من تقبل اللقب على مضض رغم جدارته واستحقاقه معنويّاً لما هو أهم من الإمارة.
والدعابة الأكثر إثارة للضحك أن الدكتور طه حسين سارع بعد وفاة شوقي إلى تنصيب الأستاذ عباس محمود العقاد خليفة على إمارة الشعر العربي، وما أظنه إلاَّ مازحاً فقد كان يشكو مرَّ الشكوى من ضعف الشعر العربي في ذلك العهد. كما كان شديد السخرية بشعر شوقي وحافظ وهما أشعر من العقاد بما لا يقاس.
ولعل الصحافة التي كانت يومئذ – شأنها اليوم- تبحث عن الإثارة قد مكنت لدعابة طه حسين وجعلت منها موقفاً ورأياً يستحق أن تتوقف عنده الأوساط الأدبية، وقد فعلت الصحافة ذلك بجدارة، لكن دعوة طه حسين قوبلت بهجومٍ كاسحٍ داخل مصر وخارجها؛ لا لأن العقاد -وهو المفكر والكاتب الكبير- غير جدير باللقب وإنما لأن الفكرة تتنافى مع منطق الإبداع ومع كرامة الشعراء ورغبتهم في التحرر من الألقاب والمناصب.
وتجدر الإشارة إلى أن موضوع إمارة الشعر وخلافته كانت قد همدت زمناً طويلاً ولم تعد مدار حديث في الحياة الأدبية، إلى أن جاءت دعابة الشاعر الكبير سميح القاسم لتعيدها إلى الساحة في إطارها الساخر وتوقظ ما كان قد أصبح منسياً بفضل التطورات التي طرأت على الشعر في النصف الثاني من القرن العشرين، وما رافق تلك التطورات الطبيعية من إشكاليات تتعلق بالخروج على نظام البيتية في القصيدة العربية وصعود شعر التفعيلة، ومن بعده قصيدة النثر، وما أحدثه هذا التغيير من معارك جعلت الجميع ينسون حكاية الإمارة والخلافة وفتحت آفاقاً جديدة للحوار الذي أسهم فيه الشعراء والنقاد، وما تزال أصداؤه تملأ الساحة الأدبية.
إن كبار الشعراء أمثال سميح القاسم ليسوا بحاجة إلى ألقاب الإمارة والخلافة، قدر حاجتهم إلى تكريم أمّتهم، وإنقاذ بعضهم من الوقوف عند حافة الفقر، والهوان في زمن لم يعد في مقدور الشعر فيه أن يطعم صاحبه أو يوفر له أدنى ضروريات الحياة، ولعل في الجوائز غير المشروطة التي تمنحها المؤسسات العلمية والثقافية ما يحفظ كرامة المبدع العربي ويحميه من غواية الألقاب والالتحاق بوظيفة من شأنها – مهما علت أو هبطت – أن تطوق عنقه بحبالٍ غير منظورةٍ تبعده عن الشعر والتفرّغ للإبحار في عوالمه الواسعة . مجلة المجلة