محمد بن المختار الشنقيطي -
شنق العراق
جاء شنق الرئيس العراقي السابق صدام حسين كاشفا لسوء النوايا والتقدير السائدين في العراق اليوم، ولروح الإجرام والانتقام المسيطرة على عقول الممسكين بزمام الأمور هناك.
كما جاء الإعدام شاهدا على العدالة الانتقائية العرجاء التي يسلكها الاحتلال وحلفاؤه، وعجز هذا الاحتلال عن توفير بديل بناء، بقدر قدرته على الهدم والتدمير.
إنه آخر مشهد منذر بمستقبل مظلم للمنطقة برمتها سيكون المنتصر والمنكسر سواء في دفع ثمنه.
الجهل المركب
لخص أحد الكتاب الأميركيين مؤخرا مشكلة السياسات الأميركية في العراق في كلمتين، فقال إنها سياسات مركبة من "الجهل والتكبر". وما أخطرها من خلطة في يد قوة عظمى، تستطيع العبث بمصير الشعوب والأمم، وتعريض مصير شعبها نفسه لمخاطر جمة.
لقد تحدث الكاتب في مجلة "نيوزويك" فريد زكريا في مقال له عن العراق الأسبوع الماضي عن "جوانب القصور الذهنية" لدى الرئيس بوش، كما تحدث كاتب آخر من نفس المجلة عن جهل الرئيس بوش بتداخلات الواقع في الشرق الأوسط.
ولإنصاف الرئيس بوش نقول إن هذا الجهل لم يبدأ مع رئاسته، وإن صار أبين في حالته وأوضح في أيامه، فالجهل من السمات الأساسية التي طبعت سياسات الأميركيين في العراق منذ تحالفهم مع صدام مطلع الثمانينيات ضد إيران، إلى شنقهم إياه بأيدي حلفاء إيران من الشيعة العراقيين الشهر المنصرم.
إن الطريقة المستفزة التي قتل بها الأميركيون صدام حسين، شأنها شأن الطريقة المهينة التي اعتقلوه بها، شاهدة على جهلهم بثقافة الإسلام وبنفسية العرب.
إذ يعتقد كثير من المنظرين السياسيين في الولايات المتحدة أن منهج الإذلال والمهانة المتكررة هو الذي يكسر النفسية العربية، ويفرض عليها احترام العدو والخضوع الذليل له.
ومثل هذا التنظير حاضر حتى في كتب يتم تدريسها في الأكاديميات العسكرية الأميركية، مثل كتاب "الذهن العربي" للكاتب الإسرائيلي-الأميركي "رفائيل بيتاي" الذي يدرسه الضباط والدبلوماسيون الأميركيون بشغف.
لكن العلماء الغربيين الذين درسوا التاريخ الإسلامي بنزاهة يدركون مدى الخطأ والخطل الذي يتضمنه هذا التصور للنفسية العربية المسلمة. فأهم سمات الحضارة الإسلامية -كما يقول مؤرخ الحروب الصليبية العلامة الإيطالي فرانسيسكو غابرييلي- هو قدرتها على النهوض بعد الكبوة، والانتصار بعد الهزيمة، وطول النفَس في مقارعة الغزاة، ورسوخ الإيمان بقدرة الخالق.
ولا يفوق الأميركيين في الجهل إلا الذين يتحالفون معهم ويثقون فيهم من سياسيي المنطقة، كما تشهد بذلك نظرة سريعة على بداية صدام حسين ونهايته.
لقد دفع الجهل بصدام إلى غزو إيران نيابة عن الولايات المتحدة وثقة بدعمها، ثم تمادى به الجهل إلى غزو الكويت وتقديم العراق لقمة سائغة للمتربصين بكل قوة صاعدة في العالم العربي والإسلامي.
واليوم تلعب إيران نفس اللعبة بكل جهالة. ففي الوقت الذي ينشر فيه نائب سابق لقيادة أركان الطيران الأميركي مقالا في مجلة "ويكلي ستاندارد" المقربة من اللوبي الإسرائيلي واليمين الديني الأميركي يبين فيه عدد الطائرات ونوع الخطط التي يحتاجها الرئيس بوش لتدمير البرنامج النووي الإيراني، تنشغل القيادة الإيرانية البلهاء بتوسيع نفوذها في العراق، وتغرق في الاصطفاف الطائفي هناك، فتعزل نفسها وتلطخ سمعتها في العالم الإسلامي كله وهي على أبواب مواجهة مدمرة.
العدالة العرجاء
حوكم صدام وشنق على قتْل 148 شيعيا عراقيا في قرية الدجيل عام 1982، وتناسى محاكموه إبادته مئات آلاف الإيرانيين، وآلاف الأكراد في حلبجة بالسلاح الكيماوي، وآلاف السنة العرب المعارضين لسلطته، بمن فيهم قيادات بعثية.
لكن العدالة الأميركية العرجاء -التي هي أصل السخط على الولايات المتحدة في المنطقة- قررت إخراج الأمر كله ضمن صراع سني-شيعي، تأجيجا للحس الطائفي المقيت بين العراقيين، وإشعالا للحرب الأهلية بينهم، حتى يصبح الاحتلال في نظر العراقيين شرا لا بد منه، وأمرا مقبولا في سبيل تأمين الأخ من بأس أخيه!!
وقد وجدت هذه العدالة العرجاء في جهل القيادات الشيعية العراقية، وروح الثأر التاريخي الذي تحمله تلك القيادات، خير أرضية لها. فجاء إعدام صدام في صورة ثأر قبَلي قبيح، لا في شكل إجراء قضائي حكيم من سلطة مسؤولة تخطط لإعادة بناء وطنها ولململة جراحه.
وخرج المشهد كله محمَّلا بروح التشفي والحقد والنذالة، حتى لقد صرح سامي العسكري، وهو أحد المقربين من نوري المالكي، لوكالة رويترز للأنباء قائلا: "لقد سمعنا صوت انكسار رقبته"، يقصد رقبة صدام لحظة الشنق.
وارتفعت أصوات أولئك الحمقى أثناء الشنق: "اللهم صل على محمد وآل محمد وعجِّل فرَجهم والعنْ عدوهم" وكأنهم يذبحون يزيد بن معاوية أو عبيد الله بن زياد ثأرا للحسين بن علي عليهما السلام.
وغاب عن بال أولئك الجهلة أن الأميركيين لم يقتلوا صدام حبا لآل البيت (إلا إذا كان البيت هنا هو "البيت الأبيض") ولا عطفا على ضحاياه من الشيعة الإيرانيين أو العراقيين.
فقد زود الأميركيون صدام بالسلاح الكيماوي لإبادة الإيرانيين مطلع الثمانينيات، ووقفوا متفرجين على إبادته الشيعة العراقيين مطلع التسعينيات.
وإنما قتل الأميركيون صدام لأنه وقف في وجه احتلال بلده، وآثر القتال والمقاومة على الرحيل والعيش هانئا يحتسي "الفودكا" على ضفاف "الفولغا"، كما عرض عليه الأميركيون.
لكن روح الثأر التي عبرت عنها حكومة المالكي الطائفية قد تعلمتها من حكومة الرئيس بوش. وإلا فلمَ كان غزو العراق ابتداء؟ إن الكتاب الأميركيين لا يخفون حقيقة أن غزو العراق كان ثأرا قبَليا لهجمات 11 سبتمبر 2001، وتنفيسا عن غيظ مكتوم لدى اليمين الديني الأميركي واللوبي الموالي لإسرائيل في الولايات المتحدة على كل ما هو عربي أو إسلامي.
وقد كتب الصحفي الأميركي "توماس فريدمان" في صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 4 يونيو/حزيران 2003 أن الدافع الحقيقي لغزو العراق، والذي لا يمكن التصريح به على الملأ، هو حاجة الولايات المتحدة إلى ضربة كبيرة في عمق العالم العربي الإسلامي ثأرا لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، مبينا أن أفغانستان لم تكن كافية لشفاء الغيظ وتنفيس روح الانتقام.
وكأن من العدل في هذا المنطق الأخرق قتل أكثر من نصف مليون عراقي أخذا بجريرة 19 شابا ليس من بينهم من يحمل الجنسية العراقية.
الانقلاب الآتي
لم يكن المشنوق يوم 30|12|2006 هو صدام حسين، الرئيس العراقي الذي قمع شعبه، وركب به المصاعب في حروب عبثية.. فكل ذلك انتهى وانمحى يوم احتلال العراق، يوم تساوى العراقيون في العبودية أمام "المحرر" القادم من وراء البحار، ولم يعد من بينهم حاكم ولا محكوم.
وإنما الذي شُنق يوم 30|12|2006 هو العراق نفسه، العراق الذي أبى أن يكون مطية للاحتلال، أومدخلا لإخضاع شعوب بأسرها بقوة الحراب.
ومهما تكن براعة الأميركيين في الإخراج، وهم قادة العالم في الصنعة الإعلامية، فإن الحكم الذي صدر بقتل صدام حكم أميركي، والحبل الذي طوَّق عنق صدام حبل أميركي.
هكذا ترى الأمر الشعوب العربية والإسلامية في كل أرجاء الأرض، وهكذا تشهد الوقائع التي لا داحض لها. أما اللاعبون الصغار الذين استلموا صدام نصف ساعة ليتولوا دور الجلاد ببلاهة وجهل، ويدفعوا ثمنه تمزقا في أحشاء العراق، فالكل يعرف أنهم مفعول بهم لا فاعلون، ومطيعون لا آمرون.
لقد تواطأ العديد من قادة الشيعة العراقيين في شنق العراق، كما تواطأت إيران في ذلك. لكن المستقبل القريب سيكشف للطرفين سوء الرهانات التي يراهنون عليها.
فأول من سيدفع ثمن شنق صدام حسين هو نوري المالكي الذي بدأ الأميركيون يتحثون جهارا نهارا عن ضرورة رحيله، ثم مقتدى الصدر الذي أقحموا اسمه إقحاما في المشهد الدرامي لشنق صدام حسين.
وقد كتب أحد منظري المحافظين الجدد المقربين من الرئيس بوش "جونا غولدبرغ" في صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" مؤخرا عن حاجة الولايات المتحدة إلى دكتاتور جديد في العراق على شاكلة الدكتاتور التشيلي سيء الصيت "أوغوستو بينوشيه" الذي استعملته الـ(CIA) لاغتيال الرئيس المنتخب "سلفادور ألنبي" وحكم تشيلي بالحديد والنار.
وهذا السيناريو الانقلابي هو كل ما تبقى للولايات المتحدة من خيارات لامتلاك العراق. ومن الجهل الاعتقاد أن أميركا أزاحت صدام وبذلت الدم والمال، لتسلم العراق لإيران على طبق من ذهب. ولن يوقف هذا السيناريو الانقلابي القادم سوى مصالحة وطنية عراقية صادقة، تنبذ الطائفية والثأر، وتسعى للصفح وإصلاح ذات البين، وهو أمر لا يبدو في الأفق المنظور.
لقد عاش صدام حسين جل حياته السياسية دكتاتورا فظا، ومغامرا أحمقا. لكنه مات وهو يردد الشهادة ويتحدث عن الرجولة. والعبرة بروعة النهاية لا بقبح البداية.
ويوم تضع أميركا العراق في يد دكتاتور عسكري جديد يواليها ويعادي إيران، ويقمع حلفاءها الحاليين بقسوة، فسيندم الذين تواطأوا على شنق العراق، ولات ساعة مندم.
ــــــــــــ
كاتب موريتاني/ الجزيرة