سيد يوسف - قراءة فى قواعد فهم أحداث الشرق الأوسط حين يتتبع المرء عقلية الإدارة الأمريكية وما تقوم به من تحليلات ومؤتمرات ولقاءات ومبادرات وغير ذلك يدرك للوهلة الأولى أن هؤلاء القوم يسيرون عكس ما تخرج به توصيات هذه التحليلات وكأنهم لا يكادون يفقهون قولا، وما تتابع الكوارث التى تنتج عن قراراتها الخاطئة عنا ببعيد ويكفى أن تلتفت إلى التدخل الأمريكى فى فيتنام قديما، وفى لبنان وفى الصومال فى الماضى القريب، و حديثا فى أفغانستان والعراق والصومال ما يغنى عن سوق الأدلة ، بل ما توصيات تقرير بيكر- هاملتون عنا ببعيد.
وفى ضوء نتائج بعض الأحداث - والتحليلات والتقارير- الخاصة بالشأن العربي والإسلامي في السنوات القليلة الماضية وتحديدا فيما يختص بالتدخلات الأمريكية وتأثير ذلك على الأحداث العربية يمكن استخلاص عدة قواعد تشكل تحليلا عاما للبنية العقلية للإدارة الأمريكية.
وهذى المفردات- التالية- احتمالية لكن يغلب عليها الترجيح لاعتبارات عدة ونريد بسردها أن تكون نواة للذين يفكرون لمغازلة هذه الإدارة ومن ثم يفكرون فى استحداث طرق فعالة للتعامل مع هذه العقلية لتحقيق بعض المكاسب للأمة العربية، كما تنبع أهمية هذه القواعد من طبيعة الدور السياسى الذى يلعبه سياسيو الإدارة الأمريكية بحيث إنها تعرض طريقة تفكير الإدارة الأمريكية حيال بعض شعوبنا ومن ثم يمكن أن تكون مادة جيدة للتنبوء ببعض تصرفات الإدارة الأمريكية ويمكن أن تعطي للمتعاملين مع تلك الإدارة خيوطا كثيرة تغازل بها تلك الإدارة...هذا إذا وجدت مخلصين يهتمون بمصلحة الأمة....والأمل معقود على المستقبل ومن هم على شاكلة حماس...وعسى أن تتبدل أحوالنا الفرط هذى إلى تجميع نلملم به صفوفنا.
فى البداية نشير إلى ما أورده توماس فريدمان عن القواعد الذهبية لفهم أحداث الشرق الأوسط تحت عنوان سأغضبكم: شرقكم الأوسط عاريا وهو أمريكى متعصب للصهاينة قد اكتسب خبرة من اقترابه من صناع اتخاذ القرار، ومن طول ملازمته للكتابة إلا أن الخبير يدرك بسهولة ويسر مدى خواء الرجل من حيث سطحية التحليل، وعنصرية الاتجاه.
وقد ذكر الكاتب عدة قواعد كان يأمل منها أن يقدم للرئيس الأمريكى قواعد محدّثّة عن أصول نقل الأخبار في الشرق الأوسط، وهي قواعد- على حد وصفه- تنطبق على مجال الدبلوماسية بقدر انطباقها على مجال الإعلام، آملاً أن تكون تلك القواعد عوناً له على تصور ما الذي يتعين عليه عمله لاحقاً في العراق.
وكان مما ذكره الرجل نصا :"إذا لم تكن قادراً على شرح شيء لشخص شرق أوسطي باستخدام نظرية المؤامرة، فلا تحاول أن تشرحها على الإطلاق لأنه لن يصدقك".
كما ذكر " العبارة الأكثر استخداماً من قبل المعتدلين العرب هي:"لقد كنا على وشك التصدي للأشرار لو لم تقوموا أنتم أيها الأميركيون الأغبياء بعمل هذا الشيء الغبي... ولو لم تقوموا أنتم أيها الأميركيون الأغبياء بهذا الشيء الغبي لكنا قد وقفنا في وجه الأشرار... ولكن الوقت قد تأخر الآن، وكل ما حدث تقع تبعته عليكم لأنكم كنتم أغبياء للغاية ". ولعلها قولة حق لا يدرى صاحبها عنها شيئا!!
وذكر أيضا " : في سياسات الشرق الأوسط، ليس هناك شيء اسمه الحل الوسط أو ما نطلق عليه هنا في الغرب "الوسط الذهبي". فعندما يكون هناك طرف ضعيف، فسوف يأتي إليك ويقول: "أنا ضعيف فكيف يمكنني المفاوضة على حل وسط"... وعندما يكون هناك طرف قوي، فإنه سيأتي إليك كي يقول: أنا قوي فلماذا يجب علي أن أتفاوض أصلاً من أجل حل وسط؟".
ومنها " أكثر المشاعر المقدرة دون قيمتها الحقيقية في الشرق الأوسط هي الشعور بالإذلال فالصراع العربي- الإسرائيلي ليس صراعاً يدور على الحدود، وإنما وجود إسرائيل نفسه يمثل إذلالاً يومياً للمسلمين الذين يقدحون زناد فكرهم في محاولة لفهم كيف يمكن لإسرائيل أن تكون على هذا النحو من القوة الهائلة وهم على هذا القدر من الضعف على الرغم من أنهم ينتمون للدين الأكثر تفوقاً. وكأن الرجل يتعامى عن الدعم أو الانحياز الأمريكى والغربى المطلق للكيان الصهيونى!!
ومنها " إن أولويتنا الأولى هي الديمقراطية في حين أن أولوية العرب الأولى هي "العدالة". والقبائل العربية التي تنخرط في قتال عادة هي تلك القبائل التي جرح كبرياؤها سواء على أيدي القوى الاستعمارية، أو بسبب المستوطنات اليهودية على الأرض الفلسطينية، أو على أيدي الملوك أو الطغاة، وهذا هو الوضع في غالبية الأحوال.....والديمقراطية بالنسبة للطائفة الشيعية في العراق هي في المقام الأول أداة للحصول على العدالة.وهو ما ينطبق أيضاً على الأكراد. بالنسبة لنا تدور الديمقراطية في المقام الأول حول حماية حقوق الأقليات،أما بالنسبة لهم، فإن الديمقراطية تدور أولاً حول تعزيز حقوق الأغلبية، والحصول على العدالة. انتهى
والحق أن هذى القواعد تنضح بالعنصرية لا باحترام الحقوق والاعتراف بحق الناس فى تقرير المصير فهى قواعد منزوعة الصلة بالبعد الأخلاقى فضلا عن سطحيتها الشديدة، والتعامى عن تحليل دقيق للأحداث، وتجاهل الانحياز الغربى التام للكيان الصهيونى وتقرير عنصرية الأمريكان، ولا ضير – على هؤلاء – لكن الآمر يحتاج منا إلى تبيان عدة قواعد لا تخطئها عين بصيرة فى التعرف على العقلية الأمريكية.
وهاك بعض هذى المفردات التى تشكل البنية الأساسية لعقلية الإدارة الأمريكية الحالية وتعاطيها مع أحداث الشرق الأوسط:
1/ إحداث قلاقل واضطرابات سابقة التجهيز فى معظم بلاد الشرق الأوسط تثار عند الحاجة ومثال ذلك المشكلات الحدودية بين بعض البلدان ، واللعب على ملف السنة والشيعة كما فى بلدان أخر، ويكفى أن نقتبس من تقرير مؤسسة راند وهو يرسم طريقة محاصرة العقل العربى والبلاد العربية والإسلامية هذى الفقرات: إن غالبية المسلمين من السنة، كما أن الشيعة الذين يشكلون 15% من مسلمي العالم، هم الفئة المهيمنة في إيران، وهم يشكلون الأغلبية المهمشة في البحرين، وفي المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، كما أنهم كانوا كذلك في العراق قبل إزاحة صدام، وقد تكون هنالك مصلحة للولايات المتحدة للانحياز بسياساتها إلى جانب الجماعات الشيعية، التي تطمح في الحصول على قدر أكبر من المشاركة في الحكم، والمزيد من حرية التعبير السياسية والدينية ، فإذا أمكن تحقيق هذا التوافق فإنه قد يشكل حاجزاً أمام الحركات الإسلامية المتطرفة، وقد يخلق أساساً لموقف أمريكيٍ مستقر في الشرق الأوسط.
ولا مانع من إثارة قلاقل بين المسلمين والنصارى كما فى مصر حيث نذكر بما ذكرته مجلة كيفونيم الإسرائيلية الناطقة بلسان المنظمة اليهودية العالمية 1982 من دراسة اعتبرتها الأوساط الإسرائيلية بمثابة "ورقة عمل للحكومات المتعاقبة" حيث ستعتمد على تقسيم جميع الدول العربية على أساس عرقي أو عنصري Disintegration جاء فيها فيما يخص الشأن المصرى : في مصر توجد أغلبية سنية مسلمة مقابل أقلية كبيرة من المسيحيين الذين يشكلون الأغلبية في مصر العليا، وكان الرئيس محمد أنور السادات قد أعرب في خطابه في أيار/مايو من عام 1980 عن خشيته من أن تطالب هذه الأقلية بقيام دولتها الخاصة، أي دولة "لبنانية" مسيحية جديدة في مصر...، كما جاء فيها الرغبة فى تقسيم الأردن بين الأردنيين والفلسطينيين بعد توطينهم هناك، وبتقسيم العراق بين السنّة والشيعة، وبإثارة الصدام بين الأقباط والمسلمين فى مصر، وبإشعال الحرب بين القبائل فى الجزائر، أما عن منطقة الخليج فتقول الوثيقة إن هذه الدول ضعيفة لأن معظم شعبها من الأجانب، وسيكون من السهل إثارة الحرب بينها من أجل البترول.
وهاك شكلا آخر- خبيثا- من أشكال إثارة القلاقل حتى لو أدى الأمر إلى إحراج حلفائهم فهؤلاء ليس لهم حلفاء فمن المعروف مدى صداقة بعض الأنظمة العربية وبعض الليبراليين للأمريكان، وأمريكا إذ تدرك مشاعر العداء لها من قبل الشعوب العربية فإنها لا تكف عن إعلان تضامنها مع حلفائها مما يثير الشكوك واتهامات العمالة لحلفائها ولنا فى تدعيم سلطة أبى مازن فى فلسطين، ودعم السنيورة وقوى 14 آذار فى لبنان خير شاهد.
2/الارتماء فى حضن الأجندة الصهيونية على حساب قضايا أمريكا نفسها بل التفكير بعقل الصهاينة فى تسيير شئون منطقة الشرق الأوسط كما فى التدخل فى الصومال حديثا2007، والالتفاف على مصر بمحاصرة السودان ومحاولة تفتيته من الجنوب ( أحد تفسيرات الهجوم الأمريكى على العراق هى تأمين الكيان الصهيونى، ومشاعر العداء لأمريكا أحد أسبابها الانحياز القميء للصهاينة وما أحداث لبنان 2006 عنا ببعيد) حتى تندر كثير من الناس بالقول إن عاصمة الولايات المتحدة هى تل أبيب وقد فقه بعض ساسة العرب ذلك فأدركوا أن بوابة أمريكا تبدأ من الكيان الصهيونى ومن ثم ربطوا مصالحهم بالصهاينة تزلفا إلى أمريكا& ووفقا للدكتور المسيرى فإن ما وصل من دعم مالى للكيان الصهيونى من أمريكا وحدها حسب بعض التقديرات 240 مليار دولار منذ عام 1973 حتى عام 2002، وهو مبلغ يفوق ضعف ما أنفقته الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وحسب بعض التقديرات الأخرى يصل جملة ما أنفقته الولايات المتحدة على إسرائيل حتى عام 2002 نحو 6 . 1 تريليون دولار (أي 1600 مليار دولار)، هذا إذا حسبت المساعدات غير المباشرة والخسائر التي تتحملها الولايات المتحدة بسبب دعمها لإسرائيل.
3/غموض الرؤية واضطراب التعامل مع أحداث الشرق الأوسط بصورة تراعى الطبيعة النفسية والاجتماعية والتاريخية لهذه الشعوب وبمعنى آخر افتقاد القدرة على التخطيط الجيد للتعامل مع الأزمات بحيث صارت تفكر وتعمل وتتحرك بمنطق غطرسة القوة مع غياب التفكير العقلانى المبنى على دراسات وتحليلات الخبراء ( مثال ذلك التدخل فى لبنان، والصومال سابقا، وفى العراق حاليا بل واعتماد زيادة القوات المحتلة ب20000 جنديا أمريكيا عام 2007 وكأن الأزمة تكمن فى عدد القوات لا فى طبيعة المقاومة ).
4/تجاهل وجود مشكلات حقيقية خانقة تمر بها قوات الاحتلال الأمريكية تحديدا من حيث زيادة عدد قتلى الجنود الأمريكان فضلا عن الاضطرابات النفسية والتهرب من الخدمة العسكرية والانتحار، وكأنها غير موجودة بالفعل، والتعامل مع ذلك بالتجاهل وبتزييف الحقائق وإخفائها وبالإعلام الكاذب (قتلى الأمريكان وحدهم وفق بعض التقارير الغربية وصل إلى 25000 جنديا فى حين لا يعترف الأمريكان سوى ببضعة آلاف تقترب من 4000 جنديا ) على الأكثر.
5/رفض مبدأ التفاوض أساسا مع الحركات المقاومة إلا حين ينهزم الأمريكان وأعوانهم ومن يحاربون بالوكالة عنهم مما يرسخ ويؤكد النظرة الفوقية فى التعامل مع العرب عموما.
6/التعامل مع مطالب المقاومة فيما يتعلق بالشرق الأوسط والبلاد المحتلة بالحلول العسكرية وبممارسة التشويه بوصم المقاومة بالإرهاب (العدوان الصهيونى على غزة ومباركة أمريكا له).
7/ رفض ومحاربة التغيير السلمى عبر صناديق الاقتراع والإصرار على أن يحتفظ أعوانهم وحلفاؤهم بالسلطة حتى وإن شاب ذلك الدكتاتورية والتزوير والتزييف وما موقف الأمريكان من انتخابات مصر2005 عنا ببعيد ، بل إن التفاف الأمريكان على نجاح حماس مؤخرا مثال حاضر بالأذهان ....ومن ناحية أخرى احتضان حركات المعارضة الناشئة التى تضطر – مخطئة- إلى المراهنة على معادلة الخارج وقبول التدخلات الأجنبية رغبة فى البحث عن حلول أو حل شامل يوقف تدهور المجتمع حتى وإن كان تدخلا أمريكيا بل وقبول الحوار مع القوى الدولية كالولايات المتحدة .
8/العمل على خلق شعور عام بالإحباط من التغيير السلمى ومن استبدال تلك الأنظمة المستبدة بل الإيحاء أن الخروج عن القبضة الأمريكية يعنى إحداث قلاقل واضطرابات ومن ثم يفقد المواطنون وبعض الأحزاب الثقة فى إمكانية التداول السلمى للسلطة...ويراهن بعضهم على أمريكا.
9/ السيطرة على الإعلام والتشويه المتعمد للأحداث من أجل الابتزاز أو خدمة أجندة الصهاينة فى المنطقة، وما أفغنة الصومال عنا ببعيد.
على هامش الموضوع
* يرى مالك بن نبي أن الحضارة الإسلامية قد فقدت تعادلها يوم فاتها أن ترعى سلامة العلاقة بين العلم والضمير، وها نحن اليوم ـ كما يقول ـ نشهد تجربة أخرى تنتهي إلى اختلال آخر: فالحضارة الأمريكية التي فقدت غنى الروح تجد نفسها على حافة الهاوية ذلك أن المجتمع الأمريكي ـ كما يقول مالك بن نبي ـ متمحور حول القيم التقنية، ولهذا فلا يمكن له أن يستمر أبد الآبدين بله طويلا، فلابد من انتقال تلك الحضارة إلى أمة أخرى.
ويرى روجيه جارودى أن الحضارة الأمريكية الحالية قد بلغت الذروة فى "اللامعنى" و"قيم السوق" و "تقديس الوسائل" و ومن ثم فهى إلى زوال بمعنى ضياعها وسط الحيرة و اللاإستقرار وافتقاد الحياة داخلها لكل معنى، ستصير جسدا بلا روح.
وزوال الحضارة الأمريكية – وإن كنت أرى أنها مدنية وليست حضارة- باتت رؤية فلسفية لدى كثير من الفلاسفة والباحثين وهى عند الفاقهين قانون لا يخطئ يقول تعالى "ََ واللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }محمد38
نقول هذا لئلا يطمئن المراهنون على أمريكا كثيرا .
* والزعم بأن أمريكا تحارب الإرهاب وبأنها تسعى فى نشر الديمقراطيات وحقوق الإنسان زعم كاذب يردده الواهمون فقد كذبت ذلك الشواهد سواء فى فلسطين أو فى العراق أو فى جوانتامو أو فى أبى غريب، وما زاد الإرهاب فى العالم إلا يوم ادعت أمريكا أنها تحاربه وهى التى- حتى الآن- لم تضع تعريفا له، وكذا الزعم بإعادة خارطة الشرق الأوسط الجديد فما ذلك إلا محاولة للابتزاز الأمريكى.
* باختصار أمريكا تطالها مشاعر عداء لا يمكن إخفاؤها لسنوات عديدة مقبلة بسبب رغبتها الدءوب فى تصفية القضية الفلسطينية، وبسبب انحيازها للكيان الصهيونى على حساب الحق العربى، وساسة أمريكا أنفسهم يعترفون بذلك بعد أن يتركوا مناصبهم، فضلا عن استنزاف ثروات بلادنا العربية إما بالاحتلال وإما بدعم الدكتاتوريات فى أنظمة حكم عربية متعددة، فضلا عن عوامل أخرى متعددة كتشجيع الحروب الطائفية، ومحاصرة كل ما هو إسلامى فى منطقتنا ووصمه زورا وبهتانا بالإرهاب ولنا فى حماس نموذجا ولنا فى تصرح بوش بأنها ستكون حربا صليبية نموذجا آخر، واستهداف المدنيين فى غارات غاشمة كما فى الصومال مؤخرا.....ومشاعر العداء هذى إن خمدت اليوم بفعل الدكتاتوريات فهى لن تخمد غدا لا سيما مع الضعف الأمريكى الذى بدأت بوادره تلوح فى الأفق.
|