محمد الرميحي -
أجندة «حزب الله» وصبر السنيورة!
في النصف الثاني من التسعينات أقام المرحوم الرئيس رفيق الحريري مأدبة عشاء على شرف وفد ثقافي كويتي كان يزور العاصمة اللبنانية بيروت، في فندق البريستول. جمعتني الصدفة على طاولة واحدة، مع الرجل الرقيق والحيي فؤاد السنيورة، والحديث ذو شجون. من ضمن ما قاله وقتها تعليقا على عودة بيروت إلى الحياة، انه قبل سنوات قلائل كنا نناقش في مجلس الوزراء اللبناني، انه لو لا قدر الله وتعطلت طائرة جامبو في سماء بيروت بعطل قاهر، واضطرت للهبوط في المطار لما وجدنا لركابها غرفاً فندقية تكفي لمبيتهم! كان التعليق يدور حول تصميم حكومة لبنان على البناء، بعد أن خربت البلد عن بكرة أبيها في حرب الإخوة الأعداء. لا ماء نقياً يُشرب ولا كهرباء تضيء. خرجنا من دعوة العشاء في تلك الليلة البيروتية الماطرة، ونصف بيروت تقريبا غاطس في الظلام. لقد بُذل جهد إنساني ضخم لعودة لبنان إلى الحياة.
في صيف عام 2004 تبارت الصحف اللبنانية في تعداد لوحات السيارات القادمة من الخارج إلى لبنان، وكان مجملها، المؤجرة محليا والقادمة من الخارج، تفوق في العدد سيارات سكان بيروت. وقتها جاء إلى لبنان تقريبا مليون سائح، وكان موسما اقتصاديا ناجحا.
واليوم يهدد لبنان من جديد بالعودة إلى الظلام، والملام الأوحد هم سياسيو لبنان، ليس جميعهم ولكن بعض المتعنتين منهم، الذين يرغبون في أخذ كل شيء وإلا سيخربونها على الرؤوس!
قراءتي لأحداث لبنان أن البلد ذاهب إلى حرب أهلية كبرى، يكون الرابح فيها هو الخاسر الأكبر.
كان الشعار المرفوع لكل حركات «المقاومة» العربية، هو تحرير القدس، وتحول في لبنان أخيراً الى شعار أبسط وأكثر وضوحا، هو تحرير السراي الحكومي من الرجل الحيي والإنساني الذي اسمه فؤاد السنيورة.
لم يستطع أي حزب عربي منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي حتى السنوات الخمس الأولى من هذا القرن، أن يجمع حوله المناصرين، كما فعل «حزب الله» في لبنان. لم تكن سيرة الحزب كلها كإمرأة القيصر، كان قد وقع في أخطاء إبان حرب الاخوة، ولكنها مقارنة بما حدث من غيره تبقى هينة. إلا أن الحزب جمع في مسيرته أعداء حقيقيين، وأشارت إلى هذه الحقيقة بعض الدول الكبرى، على أن الحزب «منظمة إرهابية». استطاع رجل في قامة رفيق الحريري أن يأتي بشبه المعجزة السياسية، وأن يخلص «حزب الله» من تهمة الإرهاب لدى بعض الدول العالمية المهمة، ويفرق إجماع الدول الغربية عن ذلك، وفي الوقت نفسه يحفظ لـ «حزب الله» سلاحه، على أساس أن يصار في وقت لاحق الى الوصول إلى حل سياسي في البلد الصغير.
كانت قامة الرجل قادرة أن تحقق معادلة «لا ضرر ولا ضرار». وبجهد طويل، دولي ومحلي، تحرر لبنان عام 2000 من معظم الوجود الإسرائيلي على أرضه.
معضلة «حزب الله» انه يعرف ما لا يريد اليوم، ولكن من الصعب أن يعرف من هم خارج نطاق قيادته الضيقة ما يريد على وجه التحديد.
* التحالف مع البرتقالي ميشال عون هو تحالف «زواج متعة» فعون يرغب بكل قوة في الكرسي الأول في لبنان، وهو أمر يرجح أنه بسببه دخل في تحالفات تكتيكية، هو و «حزب الله» يعرفان أنها تحالفات «موقتة»
* حقيقة الأمر أن تحالف الرابع عشر من آذار (وخاصة تيار المستقبل) هو اقرب في الأهداف الكلية البعيدة لـ «حزب الله» من عون وتياره الانعزالي. بقية الفئات الصغيرة المتحالفة مع «حزب الله» حاليا هي قوى صغيرة وثأرية، صنعت سياسيا في أوقات هيمنة القوة الأمنية السورية على لبنان، وكثير منها لا يملك أي تعبير على الأرض يمكن الأخذ بجديته.
المعادلة التي توفرت في الانتخابات اللبنانية الأخيرة أي (التحالف الرباعي)، وهي «حزب الله» و «أمل» وتيار «المستقبل» و «الاشتراكي»، مع حلفاء أقوياء في الجانب المسيحي («القوات» و «الكتائب») هذه المعادلة، كأي معادلة سياسية تتغير عندما يشعر طرف أو أطراف من المشاركين فيها انه قادر على تغيير التركيبة السياسية لصالحه دون أضرار كبيرة.
لقد كان التحالف ردة فعل على الطريقة الفجة للتخلص من رفيق الحريري، وأيضا للضبابية التي سادت الجو السياسي اللبناني وما يمكن أن ينتج عن ذلك الاغتيال السياسي البشع محليا ودوليا في ما بعد.
المعادلة الجديدة التي يدفع بها «حزب الله» مع جميع القوى المتضررة من الانسحاب السوري هي معادلة ليست لها قواعد معقولة أو واضحة. فخيار الإطاحة بحكومة السنيورة يعني في نهاية الأمر أن يكون «حزب الله» في المقدمة، أي في الحكم، وان توارى خلف حلفاء ضعفاء، فلن يقتنع احد بالقشرة الرقيقة التي يمكن أن يحشدها الحزب من «جماعة المتضررين». وقتها سيكتشف الحزب ما اكتشفته كل القوى العربية الحاكمة في الدول المحيطة باسرائيل، وهي أنها لا يمكن أن تجمع بين الحكم في العاصمة، وبين المشاغبة على الحدود التي تفصلها عن اسرائيل. لقد اكتشفت ذلك مصر أولا ثم الأردن، والدرس واضح في الجولان. فلا تستطيع دمشق مثلا أن تحتفظ بالحكم مع تسخين الجبهة! أما هذه وإما تلك. ومن المستحيل الثاني أن تكون هناك حكومة لها جيش رسمي وفي نفس الوقت «ميليشيا» خاصة بها!
في الحالة اللبنانية يمكن القول بالشواهد أن الحالة ستصبح أصعب بكثير. فالحزب ان حكم تحت غطاء المتضررين، وهو غطاء رقيق، سيكون مباشرة أمام المجتمع الدولي، وستكون له معارضة قوية في الشارع اللبناني (سنة لبنان ومعظم الشارع المسيحي) ولا يستطيع شعب وقد وصل إلى تخوم الحرية أن يتراجع عنها. سيكون المجتمع الدولي أكثر حرية في التضييق على هكذا حكم، ويكون الحزب قد خسر الحسنيين، رفاه اللبنانيين والمقاومة على الحدود.. سيكون على حكومته أن تقبل بوضوح مفاعيل قرار مجلس الأمن 1701 وأي قرارات سابقة دولية ولاحقة.
قلت أن ذلك هو الظاهر في أجندة «حزب الله» في المعركة الدائرة في لبنان اليوم، وهو يستطيع أن يخوضها باسم الطائفة لأن لديه المال والسلاح، فلا أحد من تلك الطائفة، غير نفر قليل، يمكن أن يخرج عما يريده الحزب بسبب ما يتوفر له من مال وسلاح.
أما إذا أخذنا علما بما كتبه باتريك سيل في هذه الصحيفة نهار الجمعة الماضي (12 كانون الثاني) اذ أشار إلى أن جوهر الأزمة اللبنانية «هو في كون الطائفة الشيعية قد حرمت من حقها المشروع في المشاركة في السلطة، وهي اليوم تطالب باسترداد حقوقها» إذا كان هذا هو ما تريده قيادة الحزب، فإن الملف جميعه يتحول الى منحى آخر تماما، هو «انقلابي» بحق، وكل ما عداه ذرائع. المشكلة هي هل الافضل أن تحصل الطائفة «على الحقوق» في دولة صحية مقبولة من العالم أفضل، أم أن تحصل على تلك الحقوق في دولة مقسمة وعليلة وفقيرة ومعزولة؟
أقوى أسلحة فؤاد السنيورة هو ورفاقه اليوم التخلي عن الحكم، وتفضلوا احكموا وسيروا البلد، ما دمتم قد رفضتم قواعد اللعبة الديموقراطية، التي لا تعترف بطوائف، بل تعترف بأكثرية تحكم وأقلية تعارض، ويتقرر ذلك من خلال الانتخابات كما يقرر منطق الأمور!
مشوار ذلك الحكم طويل، فلا سورية ولا غيرها تستطيع أن تُرجع عقارب الساعة إلى الخلف، والإرباك العاجل سيصل إلى معسكر «تحالف المتضررين» وبسرعة شديدة لينفك «زواج المتعة» سريعا، وقد يلجأ البعض إلي إخضاع الحلفاء إلى بيت الطاعة من اجل تقاسم المغانم على حساب رفاهية اللبناني وتطوير البلد. والسؤال أي من الأجندة هي المراد تحقيقها المعلنة أم الخفية؟
* نقلا عن صحيفة "الحياة" اللندنية