أسعد العزوني - إعدام الأسرار الكبيرة أعدموا حقبة مليئة بالأسرار ولم يعدموا ديكتاتوراً. والرجل الذي تقرر ذبحه على عجل صبيحة يوم العيد, كان لا بدّ ان يرحل كي لا يعرف العالم شيئاً عن طبيعة العلاقة التي جمعته بالولايات المتحدة وبعض الأطراف الاوروبية خلال حربي الخليج الاولى والثانية, والحبل الذي التف حول عنقه نسجته انظمة عربية دعمته بقوة في حربه ضد ايران وسعت في واشنطن وعواصم غربية اخرى الى مساندته لأنه كان يدافع عن بوابة الخليج في وجه «المد الثوري الايراني», قبل ان تشارك في التآمر عليه.
ورحيله كان « الحل» الوحيد لمنع فتح الملفات المكتومة منذ اكثر من ربع قرن, وهو فخ اميركي وقع فيه حكام العراق الحاليون بعدما سبقهم اليه صدام نفسه, وبعض جوانب القصة يستحق ا ن يروى.
سار الى منصة الاعدام مرفوع الرأس رابط الجأش وهتف باسم الأمة وعروبة فلسطين كي يثبت مرة اخرى لأعدائه انه رجل مبادئ وان المبادئ لا تباع ولا تشترى, وان كل ما حدث ويحدث له كان لأنه رفض المساومة على قناعاته واطلق تسعة وثلاثين صاروخاً على اسرائيل خلال «حرب الخليج الثانية» ولو انه قبل الاعتراف باسرائيل لتم تنصيبه امبراطوراً على الخليج كله.
ومن الواضح ان النهاية المأسوية لرجل العراق القوي كانت اقرب الى الثأر منها الى تحقيق العدالة. وبالرغم من انه لم يتم اعدام رجل بريء, بل ديكتاتور يتحمل وزر عدد كبير جداً من الجرائم, فان السرعة التي تم فيها تنفيذ الحكم جعلت العالم كله يصاب بالصدمة والذهول, وكأن المطلوب إسكات الرئيس العراقي السابق الى الأبد كي لا يتسنى له ان يقول ما يريد ان يقوله.
وفي اقل من دقيقتين, وهما الدقيقتان اللتان شهدتا نهاية الرجل, استعاد صدام وهجه واحترامه ومهابته وتحوّل الى ما يشبه الرمز, ذلك انه اول زعيم عربي يقضي شنقاً على يد اعدائه. واعداؤه الذين استباحوا العراق وأرضه وشعبه استهزأوا بمشاعر المسلمين عندما قرروا ذبحه كالشاة في عيد الاضحى, وعندما رفض وضع الكيس الأسود على رأسه وامتنع عن تغطية وجهه, وأصر على ان يظل متماسكاً حتى اللحظة الأخيرة, كان كمن يعاقب جلاديه ويصدر حكماً تاريخياً في حق الذين حاكموه بتجلّد ووقار يثيران الدهشة.
ويمكن معاينة هذه الدهشة في قائمة العزاء التي لا تحصى التي أقيمت في تونس واليمن والاردن وفلسطين المحتلة, وفي السجال الذي بدأ ولم ينته بعد حول مشروعية هذا الاعدام على امتداد العالم العربي, وفي الارباك الذي عاشته الحكومة العراقية في التعامل مع الملابسات التي تخللت العملية والشعارات والشتائم والاهانات التي رافقتها. ومعروف ان أحد الحراس الذين اقتادوا صدام الى منصة الاعدام صوّر اللحظات الاخيرة قبل وخلال وبعد تنفيذ الحكم, في حضور اربعة عشر مسؤولاً على الاقل شهدوا الاعدام. والشريط الذي تبلغ مدته دقيقتين والذي التقط بواسطة هاتف جوال اعطى انطباعاً قوياً بأن الاعدام كان انتقاماً طائفياً واستفزازاً صريحاً, الامر الذي خلق تعاطفاً واسعاً مع الرئيس السابق الذي بدا صلباً وشامخاً فيما اعداؤه يكيلون له الشتائم والاهانات بصورة لا توحي بأي احترام لقرارات العدالة او القوانين العراقية او حرمة الموت.
وقد اكدت مصادر عراقية زارت الاردن بعد تنفيذ العملية ان ضباطاً من المخابرات الاميركية والاسرائيلية اشرفوا على هذا التنفيذ من دون ان يختلطوا بالحاضرين, وان الاسرائيليين طلبوا ان يكون طول حبل المشنقة 39 قدماً بعدد الصواريخ التي اطلقت على اسرائيل في مطلع التسعينيات من القرن الفائت, وان من وضع الحبل حول رقبة صدام هو أحد قادة «فرق الموت» التابعة لمقتدى الصدر واسمه «ابو سجادة». ولعل هذا ما يفسر الصراخ الذي سمع في القاعة قبيل ثوان من تنفيذ الحكم «مقتدى... مقتدى... مقتدى» فيما بدا صدام مبتسماً وحبل المشنقة يضيق وهو يردد ساخراً «هيدي هيي المرجلة؟» فيما صاح صدري آخر «الى جهنم» بالرغم من مناشدة الحاضرين التوقف عن هذه الهتافات. كما سمع صوت آخر وهو يهتف «يعيش محمد باقر الصدر» في اشارة الى مؤسس حزب «الدعوة» الذي ينتمي اليه نوري المالكي, والذي أعدمه صدام في بداية الثمانينيات. وقد أظهر التسجيل سقوط صدام عبر فجوة في ارضية المشنقة وهو يردد الشهادتين, وانتهت العملية حين كان يقول «أشهد ان محمداً...». وبعد سقوطه سمع صوت يصيح «سقط الطاغية» من بين صيحات وهتافات اخرى, وفي نهاية الشريط بدت جثة الرئيس العراقي السابق تتدلى من الحبل وعيناه نصف مفتوحتين وقبته ملتوية الى اليمين, فيما كان ينزف من خده, وظهرت في التسجيل ايضاً ومضات لصور التقطها بعض الحضور للرئيس السابق وهو يسلم الروح.
وما زاد المشهد بشاعة وأسبغ على الحكم صفة الانتقام الفئوي من جانب حزب «الدعوة» ما ادلى به سامي العسكري مستشار المالكي من تصريحات قال فيها ان المالكي كان يزف نجله ليلة الاعدام إلا انه وجد وقتاً لمتابعة موضوع صدام وأولاه اهتماماً اكبر من اهتمامه بزفاف ابنه. ثم ظهر مسؤول في وزارة الداخلية ليؤكد ان تنفيذ الحكم كان من مسؤولية وزارة الداخلية لكن «ميليشياويين ودخلاء» هم الذين تولوا العملية بعدما تعرضت غرفة الاعدام للاختراق.
وفي شأن استعجال المالكي تنفيذ الحكم نقل عن مسؤول اميركي في بغداد يوم الاربعاء 3 كانون الثاني €يناير€ الحالي قوله ان رئيس الوزراء العراقي كان قلقاً بشأن احتمال إفلات صدام من الاعدام بطريقة ما إذا لم يتم التنفيذ. وقد أبلغ هذا المسؤول صحيفة «نيويورك تايمز» ان المالكي سارع الى العملية, بعد اربعة ايام فقط من تصديق محكمة التمييز الحكم, خوفاً من ان يقوم مسلحون بعمليات خطف واسعة النطاق واستخدام المخطوفين كورقة مقايضة لاطلاق سراح الرئيس السابق. ومما قاله «كان الأمن هاجسه وكان قلقاً من ان يحصل شيء ما يؤدي الى اطلاق سراحه». وفي اعقاب هذه التصريحات بدأت حكومة المالكي تنظيم حملة اعلامية ورسمية تستهدف التصدي للهجوم الذي تتعرض له على خلفية الاعدام. الحملة دشنت بالاعلان عن اعتقال مسجل الشريط واتخاذ قرار بايفاد مبعوث الى العواصم العربية لتوضيح «الاجراءات القانونية» التي أدت الى تنفيذ الحكم. وفي سياق هذه الحملة التي تستخدم فيها وسائل الاعلام الرسمية قال موقع «نهرين نت» الالكتروني المقرب من حكومة المالكي ان أهم الاسباب التي دعت الى الاسراع في تنفيذ الحكم الرغبة « في احباط مخطط كبير للتنظيمات الارهابية المتصلة بحزب البعث, والتنظيمات التكفيرية ومنها «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين» التي كانت تهيئ لعمليات عسكرية واسعة في بغداد تهدف الى السيطرة على اجزاء مهمة من العاصمة, خصوصاً في منطقة الكرخ وتضييق الخناق على بعض احيائها. ونسب الموقع الانترنتي الى مصادر استخبارية عراقية واميركية القول «إن السلطات العراقية كانت على علم بهذا المخطط وكانت تدرك خطورته وما ينطوي عليه من احتمال تحويل احياء كاملة الى ثكنات عسكرية وجبهات مفتوحة على شكل حرب شوارع تستخدم فيها المدافع وقذائف الهاون بين حي وآخر».
لكن كل هذه المبررات لم تصمد كثيراً امام «المشهد الآخر», مشهد صدام وقد طقت رقبته ثم هوى في السادسة صباحاً في يوم العيد. وقد بلغ التعاطف الشعبي معه حداً حمل حتى اعداءه التاريخيين على توجيه انتقادات صريحة للحكومة العراقية تناولت توقيت تنفيذ الحكم بقدر ما تناولت طريقة تنفيذه والفوضى التي رافقت هذا التنفيذ. وقد انصبت الانتقادات على الاعدام تم على خلفية ثأرية يوم عيد الاضحى او يوم عرفة وجاء استعجال التنفيذ في ضوء تسريبات اميركية مقصودة ومدروسة أوحت انه اذا لم يتم الاعدام يوم السبت 30 كانون الاول €ديسمبر€ 2006 فقد لا ينفذ الحكم فيما بعد «لأن الاميركيين من ضمن توجهاتهم الجديدة سيتولون تهريب صدام من سجنه الى خارج العراق, وقد يرضخون للضغوط الدولية والاقليمية فيصبح من الصعب بعد ذلك تنفيذ الحكم».
وجاء هروب الرئيس الكردي من التوقيع على الحكم لاصدار مرسوم بتنفيذه كاجراء شكلي نص عليه الدستور وقانون المحكمة الخاصة,وقبول رئيس الوزراء القيام بالمهمة وهو المستعجل جداً لابلاغ عوائل ضحايا صدام «فرحة العيد»: اعدام صدام, جاء ليدثر هذه القضية بلباس طائفي يضاف له ان مكان الاعدام كان الشعبة الخامسة لمخابرات النظام السابق المعنية باعدام الاسلاميين الشيعة خصوصاً من حزب الدعوة الاسلامية الذي ينتمي له رئيس الوزراء ومستشاروه. وهكذا فان اعدام صدام في يوم عيد الاضحى أكسب رئيس الوزراء نوري المالكي شعبية لدى الرأي العام الشيعي داخل العراق وربما خارجه, لكن جعله يخسر الرأي العام العربي والاسلامي المتعاطف في اغلبيته مع صدام اثناء حكمه وبعد سقوطه في عملية الغزو العسكري الاجنبية,وقبل تنفيذ حكم الاعدام فيه, وهذا ما كان يفترض ان يشرحه للمالكي مستشاروه ويحذروه من عواقبه.
وبعض هذه العواقب ظهر بوضوح في الاعلام الغربي, فضلاً عن الاعلام العربي, وفي البيانات التي صدرت عن جمعيات حقوق الانسان التي اعتبرت ان الاعدام «ليس مبرراً» و«ان محاربة الوحش لا تبرر تحوّل الجميع الى وحوش», وإلهاب المشاعر الطائفية في بلد يعيش على حافة الحرب الاهلية. وقد ذهب بعض المراقبين الى القول بأن الذي يحكمون العراق اليوم لا يعرفون بالفعل اساليب الحكم وتكتيكاته وهم مأخوذون بالرغبة الجامحة في الانتقام, بالرغم من ان «المدرسة الايرانية» في التعامل مع الاخصام السياسيين نجحت في التعاطي مع عهد الشاه المخلوع ومع انصاره.
وباختصار لقد اغضب اعدام صدام بالطريقة التي حصل فيها كثيراً من العرب حتى الذين رأوا منهم انه يستحق الموت, وتوقع هؤلاء ان يتأجج العنف في العراق, حتى ان بعضهم ذهب الى القول بأن العيد «كان اسوأ عيد عند المسلمين». والذين لم يشعروا بتعاطف حقيقي مع الرئيس العراقي السابق شعروا بالحزن بسبب توقيت العملية من جهة, ولسبب آخر هو ان الاعدام تم في النهاية تحت مظلة اميركية وبشكل يعتبر تحدياً للعرب والمسلمين الذين تملأ قلوبهم الكراهية ضد السياسات الاميركية في المنطقة. |