فيصل جلول -
الضحايا العرب يقتلون مرتين
قبل خمسين عاما اغتالت السلطات العسكرية الفرنسية شنقا العقيد الجزائري الأسير “العربي بن مهيدي” من دون محاكمة. كان الرجل قائدا للمقاومة في محيط العاصمة الجزائرية. قبل شنقه حاولت السلطات المذكورة تجنيده جاسوسا في صفوف الثوار من دون جدوى فكان أن اقتيد إلى مزرعة في سهل المتيجة يملكها مستوطن فرنسي متطرف وادخل إلى غرفة تدلى حبل من سقفها. رفض ابن مهيدي أن يشنق معصوب العينين. لم يذعن الجلادون لطلبه. انقطع حبل المشنقة أثناء إعدامه فجيء بحبل آخر واستؤنفت جريمة الشنق حتى الإجهاز عليه.
ظلت هذه التفاصيل مجهولة طيلة نصف قرن، وكانت السلطات الفرنسية تؤكد خلالها أن “ابن مهيدي” انتحر أثناء محاولة فراره من مقر احتجازه وأنه سقط من أعلى مبنى ذي طبقات أربع إلى أن كشف الجنرال “بول أوساريس” قائد جهاز المخابرات الفرنسية الخاصة في الجزائر حينذاك والمشرف على شنق “ابن مهيدي” تفاصيل جريمته لصحيفة “لوموند” المسائية في الرابع من مارس/ آذار الجاري. مرت التفاصيل بصمت. لم يتعرض أحد لهذا الجلاد. لم يمسسه القضاء ولم تسترد أوسمة نالها عن هذه الجريمة وعن جرائم أخرى موثقة في اعترافات نشرها عام 2003 في كتاب شهير يحمل عنوان “الأجهزة الخاصة”.
لكن هل يعقل أن يقاضي أحد الجنرال أوساريس في وقت كاد البرلمان الفرنسي ينجح في تمرير قانون يمجد الاستعمار في الجزائر وإفريقيا أي يمجد بطريقة أو أخرى جرائم قتل سجناء الحرب ومن بينهم الشهيد العربي بن مهيدي؟
أن يعاود “أوساريس” سرد تفاصيل جريمة ارتكبها في الجزائر بين جرائم أخرى من دون أن يخشى اللوم أو الملاحقة القضائية في بلاده ومن دون أن يعبأ بردود الفعل الجزائرية فهذا يعني أن ارتكاب جريمة حرب لا يستدعي عقابا ولا يكلف المجرم شيئا وأن آخرين يمكن أن يسيروا على الرسم نفسه في بلد لا يكف عن المطالبة بمحكمة دولية لمقاضاة “مجرمي الحرب” في “دارفور” فكأن طلب العقاب يسري على “المجرمين العرب” الافتراضيين ولا يسري على غيرهم.في هذه اللحظات وعلى هذا القياس ربما من حق “علي كشيب” المتهم بارتكاب “جريمة حرب” في دارفور أن يتمنى لو أنه ولد في فرنسا وليس في السودان.
وإذا كان البعض يبرر عدم ملاحقة العسكريين الفرنسيين الذين ارتكبوا جرائم حرب في الجزائر باتفاقية “ايفيان” التي توجت استقلال هذا البلد وقضت بحماية المجرمين من الملاحقة القضائية فإن اتفاقيات “كامب ديفيد” التي أنهت الحرب بين مصر و”إسرائيل” لم تتضمن بنودا من هذا النوع، ومع ذلك يبدو أن القاهرة غير مستعجلة لطلب العقاب في جريمة حرب أخرى ارتكبها الجنرال بنيامين بن اليعازر وزير البنى التحتية “الاسرائيلي” بحق 250 أسيرا مصريا - فلسطينيا (يضرب الدكتور مصطفى الفقي الرقم بعشرة).
والملفت في أخبار هذه الجريمة على الرغم من النفي “الإسرائيلي” المتأخر والقول إن الضحايا فلسطينيون وليسوا مصريين وكأن على مصر أن تصرف النظر عن مصير أسرى حرب فلسطينيين كانوا يقاتلون تحت أمرة جيشها الملفت أن مصادرها “إسرائيلية” خالصة وهي موثقة بالصور والشهادات والنصوص وباعترافات صريحة تشبه اعترافات الجنرال “أوساريس” المذكورة.
بدأت القضية في العام1994 مع صدور “كتاب شاكيد” للمؤرخ “الإسرائيلي” أوري ميليشتاين وفيه يروي سيرة فرقة موت “إسرائيلية” تدعى “شاكيد” ارتكبت مجزرة بحق أسرى مصريين وفلسطينيين بعد توقف حرب حزيران/ يونيو عام 1967.لم يتسبب الكتاب في حينه بضجة تذكر في مصر. وفي العام 2001 كرر النائب العربي في الكنيست عزمي بشارة التذكير بهذه الجريمة من دون جدوى إلى أن عرضت القناة الأولى في التلفزيون “الإسرائيلي” فيلما وثائقيا مساء الأحد ما قبل الأخير عن القضية بعنوان “روح شاكيد” يروي تفاصيل الجريمة على لسان القتلة ما أثار ضجة مصرية سرعان ما خفتت جراء مزاعم “إسرائيلية” عن أن الضحايا فلسطينيون وليسوا مصريين.
من البديهي ألا يتحرك القضاء في “إسرائيل” للنظر في هذه القضية، فالدولة بأسرها مبنية على الإجرام. لكن المدهش هو ألا نتحرك نحن العرب لإدانة المجرمين وتحصيل حقوق الضحايا. لم تتبن منظمات المجتمع المدني القضية. لم يعبأ بها مركز ابن خلدون وكأن دوره ودور إخوته وأخواته مكرس لحقوق الإنسان المصري ضد الدولة المصرية وليس للإنسان المصري ضد الدولة الصهيونية. لم تكترث “منظمة العفو الدولية” بالموضوع. لم تعاقب “إسرائيل” في هيئة إنسانية دولية واحدة على هذه الجريمة كما لم تعاقب على أية جرائم من قبل ومن ضمنها مجزرة صبرا وشاتيلا.
في “دارفور” السودانية وعلى مقربة من جمهورية مصر العربية يمارس “المجتمع الدولي” ضجيجا حقوقيا مضحكا حول تصنيف الحرب الأهلية بين “الجنجويد” و”الزغاوة” في خانة “جريمة الحرب” وبالتالي نصرة الفريق الثاني على الفريق الأول. وكأن دور سادة العالم يقضي بالدفاع عن غير العرب ضد العرب بكل الوسائل المتاحة وتحييد كل الجرائم التي تطال عربا عن المساءلة والعقاب.
وبعد هل يحق لسادة العالم أن يسألونا بسذاجة مصطنعة لماذا نكرههم؟ وهل يحق لنا أن نتساءل بسذاجة أكبر عن سبب ازدواجية المعايير عندما يتصل الأمر بقضايانا؟ وهل يحق لنا أن نفاجأ بمقتل ضحايانا والتمثيل بجثثهم مرتين؟