د. عبدالله بن إبراهيم العسكر -
الرياض وصناعة القرار العربي
كانت صناعة القرار العربي الواحد صناعة شاقة، لأن العرب عادة لا يتفقون، فضلاً عن أن يتوصلوا إلى قرار سياسي واحد. واليوم أصبحت النخب العربية، والشعوب العربية تملك طموحات سياسية متواضعة، بسبب الإخفاقات العربية المتتالية.
زيادة على ذلك ما كان من المحرمات السياسية، أصبحنا نقبله على أنه ضرورة سياسية. لا أطيل في هذه المسألة فقد تناولها مؤرخون ومفكرون وسياسيون كُثر. ولكنني أقف اليوم أتأمل قضية صناعة القرار العربي قبل انعقاد مؤتمر القمة العربية في الرياض.
وأول ما يلفت نظري ضرورة بحث القادة العرب في مسألتين مهمتين لا مناص أمامهم من بحثها والتمعن فيهما. الأولى ميكانيكية صناعة قرار عربي ممكن التطبيق، وملزم للجميع. والثانية إعادة تعريف الواقع الإقليمي العربي.
تكاد المسألة الأولى تعيش القمم العربية منذ القمة الأولى. وهي مسألة تراوح مكانها. ومع تقدم العمر بالقمم العربية أضحت هذه المسألة من التعقيد والصعوبة بمكان لا تحسد عليه. فلا يوجد ميكانيكية واضحة للمسائل السياسية الكبرى أو الصغرى، ولا يوجد استراتيجية واضحة. لدرجة أن بعض مفكري العرب والعالم يتساءلون: ماذا يريد العرب. فأعظم قراراتهم السياسية هي بمثابة ردود فعل سياسية أكثر منها صناعة قرارات سياسية. لقد تمعنت في تاريخ العرب الحديث والمعاصر فوجدته ردود فعل آنية وحماسية. ورد الفعل لا عيب فيه، لكن أن يصبح سياسة عربية دائمة فيه أشياء مضرة، وربما قاسية على الأمة وعلى البلاد.
فكم من مآس وقعت، وكم من زعيم عربي اغتيل أو أُعدم، وكم من ثورات وانقلابات وقعت، وكم من مجازر حدثت، وكم من قرارات سياسية أدت بأصحابها إلى الهلاك، وأدت بالبلاد إلى الدمار. الأمثلة كثيرة، بل هي أكثر من الهم العربي على القلب.العالم كله يتقدم بسرعة أو بطء. ونحن بلداناً وشعوباً نتقدم خطوة ونرجع خطوات، وفي أحسن الأحوال نبقى في المحطة نفسها، بينما الآخرون يذهبون إلى محطات جديدة.
قمة العرب القادمة ملزمة بوضع استراتيجية سياسية واضحة. تقول للعالم ما يريد العرب. وهنا أقترح أن تكون أحلام القادة العرب قليلة، وطموحاتهم أقل، ليتمكنوا من رسم استراتيجية قابلة للتطبيق. على القادة العرب أن يلزموا أنفسهم بمواد تتسق مع الواقع العالمي الجديد، وتتسق مع مواد يأخذ بها الآخرون. وسبب ذلك أننا نعيش في حقبة بالغة القسوة وسريعة التغيّر، ولا يمكن كما وصفت أن نبقى ننظر للحلم العربي برومانسية ملونة، والشعوب العربية تحترق من الداخل ومن الخارج.
يريد العرب من قادتهم الصراحة في ما بينهم، وترك خلافاتهم الشخصية إلى حين. فالأمر الراهن لا يتطلب التأجيل وسياسة ردود الفعل. الشعوب العربية تريد من قادتها كوداً سياسياً مقنناً. ما تفعل إن حدث انسحاب، وما تفعل إن لم يحدث. ما تفعل إن أصرت إيران على برنامجها النووي، وما تفعل إن هي جنحت لغير ذلك. ما تفعل لفك الاحتقان السياسي في لبنان. وما تفعل تجاه حرب الأشقاء في فلسطين. أتقف مع فتح أم مع حماس. أين الطريق. ما تفعل تجاه رغبة بعض الدول التطبيع مع إسرائيل فرادى. ما تفعل تجاه المبادرة العربية التي وافقوا عليها في قمة لبنان. أهي ملزمة أم معلمة. هذه أسئلة سياسية ساخنة وقليلة، تتناول قضايا سياسية ساخنة. أما ما يتعلق بالأسئلة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها فقد تجاوزتها الآن، لأنني أضرب أمثلة، ولا أرسم خططاً.
تعرف الشعوب العربية أن قرارات الجامعة العربية إما أنها غير قابلة للتطبيق أو أنها غير ملزمة. وتعرف الشعوب العربية أن اتفاق قادة العرب على مسألة سياسية واحدة دونها خرط القتاد. ونأخذ مسألة الحرب اللبنانية الإسرائيلية في الصيف الماضي مثالاً ساطعاً. فقد انقسم العرب إلى ثلاثة أقسام. قسم وضع وزر بدء الحرب على الحكومة اللبنانية، وقسم وضعه على حزب الله، وقسم على إسرائيل. مع أن بعض العرب لم يكن له اتصال بهذه المسألة تحديداً مثل اتصال ثوب عثمان بمسألة الحرب السياسية بين علي ومعاوية. أين الطريق.
الطريق يكمن في وضع استراتيجية واضحة وملزمة. خطر ببالي أن أقول أن يوكل لثلاث دول أو أكثر التحدث باسم العرب في كل قضية تحدث قريبة منهم. فمثلاً في قضية فلسطين يوكل الأمر لثلاث أو أربع دول تعاطي هذه المسألة، وما تتوصل إليه من استراتيجيات قريبة المدى أو بعيدة المدى، يكون ملزماً للجميع. ثم تذكرت جامعة الدول العربية، أهي قادرة حسب ميثاقها أن تعمل الشيء نفسه. فتذكرت أن الجامعة العربية تشيخ وهي غير قادرة على أن تدفع رواتب موظفيها، وأصبحت تستجدي من أقامها لتقول للشعوب العربية والعالم، سوى قادة العرب، انني هنا. والقادة يعرفون أنها تحتضر.
المسألة الثانية تكمن في ضرورة رسم استراتيجية بخصوص النظام الإقليمي العربي. هذا النظام الذي عاش سنوات كثيرة، وهو في مكانه لم يعد ينسجم مع الفكر السياسي العربي أو الدولي الراهن. العولمة، ومنظمة التجارة العالمية، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحرب على الإرهاب، وسقوط الفكر السياسي الشيوعي، وبروز فكرة الإرهاب الديني، وظاهرة التشدد الديني، وعودة الفكر السياسي المغلف بالدين، وزيادة عدد السكان العرب، وضراوة الفقر والبطالة العربية، والانفتاح والعصرنة التي طالت كل الميادين، والتقنية التي أثرت على كل شيء، وسقوط أنظمة عربية تحت وطأة السلاح، وما سيحدث لأنظمة عربية أخرى في القريب العاجل. وغير ذلك كثير، ألا يتطلب هذا الكم الهائل من التطورات السياسية والاقتصادية والفكرية أن يعيد قادة العرب النظر في المسألة الإقليمية.
بلى هو أمر جلل، لم تعد منظومة العرب الإقليمية صالحة، ولم تعد تلبي أدنى احتياجات الشعوب العربية. أنا هنا لا أقترح شيئاً، ولكنني أُذكر بحجم التحديات، وأقول صراحة ان قمة الرياض، بيت العرب، أمامها مسؤولية كبيرة، والعشم كل العشم في الزعيم العربي، الذي تكاد تجمع عليه العرب وغير العرب. وأقصد الملك عبدالله، الواقع بدون مجاملات أو مسح على الجوخ، نحن في حاجة إلى زعيم عربي صريح، يقول للقمة ما يقولها أفرادها في الغرف المغلقة، وما لا تستطيع قوله في العلن وأمام شعوبها. نعم الملك عبدالله الصريح سيقول لهم، كما قال للزعماء الفلسطينيين الصدق والصراحة الموجعتين. وبالتالي نستطيع أن نقول انه من الممكن أن تقوم الرياض بصناعة القرار العربي الممكن تطبيقاً والملزم تنفيذاً، وإلاّ قل السلام على النظام العربي الإقليمي الذي يترنح اليوم أمام عولمة سياسية قد تؤدي ببعض الدول والأنظمة العربية إلى صفحات التاريخ.
صناعة القرار السياسي العربي صناعة قاسية لم يستطع العرب إتيانها إلاّ في أوقات قليلة وبسبب كريزما شخصية لا بسبب استراتيجية واضحة. لكننا اليوم لا نعيش في حقب الكريزما. بل في حقبة شعبية واسعة. قمة الرياض القادمة لا بد أن تصنع قراراً عربياً. أو تقول للشعوب العربية صراحة: كل يغني على ليلاه.
*نقلاً عن صحيفة الرياض