بقلم معن بشور -
"الوعد الصادق" الموريتاني
بغض النظر عن اسم الرئيس الذي ستحمله صناديق الاقتراع الموريتانية في 25 الجاري، فان ما جرى في الجولة الانتخابية الأولى للرئاسة الموريتانية أو في الانتخابات التشريعية والمحلية يعتبر حدثاً نوعياً في حياة موريتانيا وفي المسار الديمقراطي العام على مستوى الوطن العربي تحديداً.
ونوعية هذا الحدث لا تكمن فقط في التزام المجلس العسكري الموريتاني، رئيساً وأعضاء، بتسليم السلطة إلى مدنيين ينتخبهم الشعب، وهو أمر نادر الحصول في دولنا التي عرفت الكثير من الانقلابات العسكرية، حيث يتضمن البلاغ الأول للانقلابيين وعداً بإجراء انتخابات نيابية حرة ثم يجري التراجع التدريجي عن الوعد لصالح قيام أنظمة استبدادية تحت ذرائع مختلفة، طبعاً مع استثناء ينبغي التذكير به دائما، وهو الانقلاب الذي قاده الفريق عبد الرحمن سوار الذهب في السودان ثم سلم السلطة لحكومة منتخبة.
كما أن نوعية هذا الحدث لا تبرز من هذا النضج والانضباط والرقي الذي أبداه المواطن الموريتاني خلال العملية الانتخابية بكل مراحلها ومستوياتها، فالتنافس بين المرشحين على أشده ولكن بأسلوب حضاري مميز، والحوار بين الأحزاب والمواطنين محتدم ولكن بروح ديمقراطية عالية مما يؤكد أن شعبنا العربي والمسلم مهيأ، عكس بعض النظريات، لخوض غمار الديمقراطية بكل جدارة، وان المواطن العربي والمسلم، مهما قيل عما يحيط به من جهل وفقر وتخلف، قادر على الممارسة الديمقراطية كما هو حال أي مواطن في أرقى الدول.
غير ان نوعية الحدث الديمقراطي في موريتانيا تكمن، بوجه الخصوص، في ذلك الترابط الوثيق بين القضية الوطنية والقومية من جهة وبين المسألة الديمقراطية من جهة ثانية.
فالقطيعة الحقيقية التي قامت بين نظام معاوية ولد طايع وبين شعبه، لم تبدأ فقط مع الفساد الذي استشرى في أوساط أركان النظام ومحازبيه، ولا حتى مع التدهور الاقتصادي الذي تشهده دول فقيرة الموارد تتعرض للنهب على يد حكامها والمتنفذين فيها ، بل بدأت بشكل خاص حين قرر هذا النظام، وهو البعيد جداً عن ارض الصراع مع العدو، إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني متذرعاً باتفاقات عقدت في المشرق، ومعتقداً أن الطريق إلى قلب واشنطن، ضامنة بقاء الحكام والانظمة، تمر عبر تل أبيب.
يومها انطلقت تظاهرات من قلب الجامعات والمدارس الموريتانية، وتصدت احزاب وقيادات، وسجن زعماء بارزون منهم احمد ولد داده نفسه، وحلّت احزاب وتكتلات بينها حزب تكتل القوى الديمقراطية الذي يترأسه ولد داده، وقامت حركات انقلابية اشهرها تلك التي قادها العقيد صالح ولد حننا (عضو المؤتمر القومي العربي الى دورته الاخيرة في الدار البيضاء) والذي كان واحداً من ابرز المرشحين 19 للرئاسة الموريتانية.
لقد رأى الكثيرون في تلك التداعيات الشعبية والعسكرية للقرار التطبيعي الرسمي الموريتاني بداية العد العكسي في حياة نظام استمر في حكم بلاده اكثر من 19 سنة، وهي تداعيات توجها سقوط الحكم نفسه، بعد ترنحه لسنوات، على يد المجلس العسكري في اوائل آب/اغسطس عام 2005. وهذا ما يعرفه المرشحان الباقيان للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية سواء سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله الذي لم يكن بعيداً عن النظام السابق ويعرف بالتالي اسباب ضعفه من الداخل او السيد احمد ولد داده المعارض العنيد للنظام السابق واحد قادة ائتلاف التغيير والعضو السابق في الامانة العامة للمؤتمر القومي العربي.
وفي اللقاءات التضامنية العديدة التي شهدتها بيروت، كعادتها، مع المناهضين الموريتانيين للتطبيع مع العدو الصهيوني الذين كان يجري اعتقالهم، كان تركيز شديد على العلاقة بين الالتزام الوطني والقومي وبين النهج الديمقراطي، فالتنكر للاول سيقود حتماً الى التنكر للثاني، والتراجع عن الديمقراطية هو اقصر الطرق لتجويف الالتزام الوطني والقومي او إضعافه او تمكين الاعداء منه.
فما جرى في السنتين الاخيرتين في بلد الشعر والسمك... واخيراً النفط، يعزز الفكرة المركزية التي يقوم عليها مشروع النهوض الحضاري للامة، وهو تلازم مهام الدفاع عن الهوية مع متطلبات النضال من اجل الديمقراطية كتجسيد للتكامل بين حقوق الوطن وحقوق المواطن.
واذا كان من عنوان نختاره للمرحلة الجديدة من حياة موريتانيا فهو "الوعد الصادق"، على غرار "الوعد الصادق" اللبناني. فكلا الوعدين كانا مفاجأة الامة لذاتها، مفاجأة لقدراتها على الحاق الهزيمة بالعدوان والاستبداد في آن معاً.
فقليلاً من الثقة بهذه الامة التي ينجح كوكبة من ابنائها المقاومين في فلسطين ولبنان بقهر الجيش الذي لا يقهر، والتي يسهم مجاهدوها في العراق، رغم ما يعانونه من حصار وتشويه، باعادة رسم خرائط المنطقة والعالم، والتي ينجح اليوم ابناؤها في اقصى المغرب العربي في القراءة الفصيحة في كتاب الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.