المؤتمرنت -
القرضاوي : يجوز قتل مجرمو الحرب
تلقي فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين سؤالا مفاده : هل يجوز قتل أسري الكفار في الحروب؟ أم يجب تبديلهم بالأسري المسلمين؟.
ردا علي ذلك، قال العلامة القرضاوي:
بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام علي رسول الله ، وبعد ..
من نتائج الحرب : أن يكون هناك أسري من الفريقين. وبحثنا هنا عن أسري أعداء المسلمين ، إذا وقعوا في أيديهم كما حدث في غزوة بدر وغزوة بني قريظة، وغزوة بني المصطلق وغيرها . وكيف يعامل المسلمون أسراهم؟
ونبادر فنقول : إن الإسلام يوجب معاملة الأسري معاملة إنسانية ، تحفظ كرامتهم، وترعي حقوقهم ، وتصون إنسانيتهم ، ويعتبر القرآن الأسير من الفئات الضعيفة التي تستحق الشفقة والإحسان والرعاية ، مثل المسكين واليتيم في المجتمع . يقول تعالي في وصف الأبرار المرضيين من عباده ، المستحقين لدخول جنته ، والفوز بمرضاته ومثوبته ، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَي حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (الانسان:8-10) .ويخاطب الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام في شأن أسري بدر فيقول : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَي إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) الأنفال .
فهو يأمره أن يخاطبهم بما يلين قلوبهم، ويجذبهم نحو الإسلام.
أما الأحكام المتعلقة بالموقف مع الأسري ، وماذا يجب أن نصنع معهم ، فقد نص القرآن علي ذلك في آية صريحة من آياته في السورة التي تسمي سورة محمد أو سورة القتال ، وهي قوله تعالي : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّي إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
لا أسر قبل إثخان العدو:-
ومن التعاليم الحربية التي أدخلها الإسلام في نظم الحرب : أن لا يتم الأسر للأعداء في المعركة قبل (إثخان العدو) . ومعني إثخانه : إضعافه وكسر شوكته ، حتي لا يعود لقتال المسلمين مرة أخري .
من أجل هذا عاتب الله النبي والمسلمين بعد معركة بدر :أنهم سارعوا إلي الأسر، والعدو لم يزل قوي الشوكة ، راسخ الجذور ، متمكنا من الأرض ، فلا غرو أن يفكر في الثأر لنفسه والانتقام من المسلمين ، والعودة إلي قتالهم .
وفي هذا جاء قوله تعالي : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَي حَتَّي يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال.
وفي الآية إشارة تحمل لوما للمسلمين : أنهم كانوا يريدون من الأسر أن يستفيدوا ماليا من الفداء الذي يمنح لهم في مقابلة فكهم وإطلاقهم ، وهو معني قوله: (...تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) . والآية -كما نري- واضحة الدلالة علي منع الأسر قبل الإثخان في الأرض ، والعتاب فيها علي هذا الأسر : الأسر قبل الإثخان وليس علي أخذ الفداء بعد الأسر، كما هو مشهور في السيرة .
يؤيد هذا قوله تعالي في سورة محمد : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّي إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ) محمد .
والمراد بشد الوثاق : الأسر ، ولكن لا ينبغي أن يكون هم المقاتلين من أول الأمر أسر العدو ، بل يجب أن يكون الهدف الأول إضعاف قوتهم ، وتحطيم شوكتهم ، ولا سيما أن الأسر فيه مظنة ابتغاء الدنيا بالفداء بالمال .
وبعد تحقق هذا في الإثخان والإضعاف يسوغ للمقاتل أن يأسر ما شاء، بل هو مأمور بهذا (فشدوا الوثاق) إذ ليس سفك الدماء هدفا في ذاته من أهداف الإسلام، فليس في الإسلام ما في التوراة من وجوب ضرب جميع الذكور بحد السيف ، إذا تمكنوا منهم ، فلا مجال لأسر ولا شد وثاق .
وماذا ما بعد شد الوثاق ، أي ما بعد الأسر ، ما حكم هؤلاء الأسري؟
القرآن هنا يخيرنا بين أمرين في التعامل معهم ، وهما : المنّ والفداء ولم يذكر غيرهما .
ومعني (المنّ) : إطلاق سراح الأسير لوجه الله تعالي ، لنتألف قلبه ، ونحبب إليه الإسلام ، حيث فككنا أسره دون مقابل .
ومعني (الفداء) : أن نفدي الأسري بأسري مثلهم في العدد أو أقل أو أكثر، حسب المصلحة ، فرب أسير منا له وزن وقيمة ، نفديه بأكثر من أسير لنا عندهم، والعكس يحدث أيضا .
وقد يكون الفداء بمال ، كما فعل الرسول والصحابة معه في أسري بدر ، حيث طلبوا الفداء بالمال لمسيس حاجتهم إليهم وقدرة أهليهم من قريش عليه.
وروي البخاري في (باب فداء المشركين) في الجهاد : حديث أنس بن مالك: أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقالوا : يا رسول الله ، ائذن لنترك لابن أختنا عباس (بن عبد المطلب) فداءه، فقال : " لا تدعون منها درهما" !وفي معركة بدر : سن الرسول صلي الله عليه وسلم في فداء الأسري سنة مهمة ، وهي : أن يؤدي من ليس لديه مال خدمة مناسبة للمجتمع المسلم ، يقدر عليها الأسير، ويحتاج إليها المسلمون .
ومن أجل هذا شرع الرسول الكريم لمن كان يعرف الكتابة من أسري المشركين: أن يكون فداؤه (تعليم عشرة) من أولاد المسلمين الكتابة. ولم يخش النبي صلي الله عليه وسلم علي أبناء المسلمين من تأثير هؤلاء المشركين علي عقول الصغار من ذراري المسلمين ، فإن محو الأمية لا يحمل معه فكرا ولا اعتقادا ، ثم هم في قلب المجتمع المسلم ، وتحت رعايته وإشرافه ورقابته .
وقد كان زيد بن ثابت الأنصاري -كاتب الوحي ، وأحد كتبة المصحف الإمام بل قائد المجموعة- أحد الذين تعلموا الكتابة في هذه الفرصة.
وبهذا كان النبي (الأمي) أول من حارب (الأمية) بطريقة عملية ، تعتبر خطوة سباقة في ذلك الزمن السحيق.
هل يسترق الأسير أو يقتل؟
وهناك حكمان آخران ذكرهما الفقهاء يتعلقان بأسري الأعداء ، وهما : الاسترقاق والقتل.
وهذان الحكمان لم يذكرا في القرآن كما ذكر المنّ والفداء وإنما أخذا من السنة النبوية ومن عمل الصحابة والخلفاء الراشدين .
جاء عن الحسن البصري : أنه لا يحل قتل الأسير صبرا وإنما يمن عليه أو يفادي. أخرج ذلك الطبري عنه، وأبو جعفر النحاس.
واستدل بقول الله تعالي في سورة محمد : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّي إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّي تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...) (محمد:4) .وهذا قول الضحاك والسدي ، وهو قول عطاء.
وفي مقابل هذا القول:- من قال : لا يجوز في الأساري من المشركين إلا القتل ، ولا يجوز أن يؤخذ منهم فداء ، ولا يمن عليهم . وجعلوا قوله تعالي : (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ) (محمد: من الآية4) منسوخا بقوله تعالي : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )(التوبة: من الآية5).قال النحاس : هذا قول قتادة ، ومروي عن مجاهد.
والقول الثالث : أن الآيتين جميعا محكمتان ، وهو قول ابن زيد . قال النحاس : وهو صحيح جيد بيّن ؛ لأن إحداهما لا تنفي الأخري . قال الله عز وجل: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ )(التوبة: من الآية5) أي خذوهم أسري : للقتل أو المن أو الفداء. فيكون الإمام ينظر في أمور الأساري علي ما فيه الصلاح (أي للمسلمين) من القتل أو المن أو الفداء. وقد فعل هذا كله رسول الله صلي الله عليه وسلم في حروبه ، فقتل عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر، ومنّ علي قوم، وفادي بقوم .
وقيل له - يوم فتح مكة - : إن ابن خطل يتعلق بأستار الكعبة ، فقال : اقتلوه . وهو في عداد الأساري وقد أمر بقتله . وعمر أراد قتل أبي سفيان قبيل فتح مكة ، لولا أن أمّنه العباس.
وهذا اختيار الطبري الذي رد النسخ ، لإمكان الجمع بين الآيتين ، والنسخ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع بينهما بوجه من الوجوه . قال : وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المن والفداء والقتل إلي رسول الله وإلي القائمين بعده بأمر الأمة. اه.
والذي أرجحه من استقراء النصوص، ورد بعضها إلي بعض: أن الأصل ما ذكره الحسن ومن وافقه أنه : لا يجوز قتل الأسير العادي ، وإنما يعامل وفق آية سورة محمد التي تحدد كيفية التعامل مع من شددنا وثاقهم من الأسري (فإما منا بعد وإما فداء).
ولكن يستثني من ذلك : من نسميهم في عصرنا (مجرمي الحرب) الذين كان لهم مع المسلمين ماض سيئ لا يمكن نسيانه ، مثل عقبة بن أبي معيط وابن خطل ويهود بني قريظة وأمثالهم ، فهؤلاء يجوز أن يحكم عليهم بالقتل جزاء ما اقترفت أيديهم من قبل . فهؤلاء يعاملون معاملة استثنائية ، وتطبق عليهم آية سورة التوبة.
والله أعلم .