نصر طه مصطفى -
موريتانيا بين أيدي المدنيين
انتهت المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية الموريتانية بأن انحصر التنافس بين المرشحين الرئيسيين فيها كما كان متوقعا من قبل. فمن البداية وبسبب وجود عدد من المرشحين الجادين الأقوياء لا يقل عن ستة من بين تسعة عشر مرشحا كان من المؤكد أن تشتتا كبيرا للأصوات سيحدث ولن يتم حسم المعركة الانتخابية من الدورة الأولى. ومع ذلك فقد كان واضحا منذ البداية أن التنافس سينحصر بين المرشح الرئيسي للمعارضة (ولد داده) وبين مرشح التكتل الرئيسي في البرلمان القريب من الحكم السابق (ولد شيخ عبدالله) وهو صاحب الحظ الأكبر في الفوز بالمقعد الرئاسي كما تؤكد كل القراءات المسبقة وعلى ضوء نتائج البرلمانيات بفرعيها النيابي والشيوخ، لكن ليس من الواضح ماذا ستسفر عنه مفاوضات ومساومات الأيام القادمة حتى يوم الاقتراع بين الرجلين ولمن ستقرر بقية أحزاب المعارضة إعطاء أصواتها فترجح كفته وتحسم أول انتخابات رئاسية ديمقراطية حقيقية في هذا البلد الفقير.
ولأن الفارق بين المرشحين بحسب نتائج الدورة الأولى ليس كبيرا فإن ذلك مما يزيد الصورة تعقيدا، فولد شيخ عبدالله حصل على 24% من الأصوات بينما حصل التالي بعده ولد داده على 5.21%، ويلاحظ هنا كذلك إلى جانب ضآلة الفارق بينهما أن الاثنين مجتمعين لم يحصلا إلا على أقل من نصف مجموع الأصوات، الأمر الذي يعني ضعف مستوى التأييد لهما في أوساط الشعب الموريتاني. فإذا كانت نسبة المشاركة في الدورة الأولى بلغت 60% من عموم الناخبين فذلك قد يعني أن الإقبال على الاقتراع في الدورة الثانية سيكون أقل، إلا إذا نجحت بقية الأحزاب التي لن يتنافس مرشحوها في الدورة الثانية في حشد الدعم والتأييد لأحد المرشحين الاثنين فهذا سيعني أننا سنكون بانتظار دورة ساخنة، وهذا وارد على أية حال وليس مستبعدا بالمرة.
لا يمكن الاستهانة بالنتائج التي حصل عليها المرشحون الثلاثة الآخرون فهي أثبتت أنهم سيكونون قادرين على توجيهها لمن يريدون، وإن نجحوا في ذلك فسيؤثرون قطعا في مسار التصويت والنتائج في الدورة الثانية بعد تسعة أيام من الآن، إذ سيكون المرشحان ولد الشيخ وولد داده أحوج ما يكونان لذلك، ويعتقد المراقبون أن ولد داده سيكون أكثر حظا بالحصول على أصوات ناخبي المرشحين الثلاثة التي تتجاوز 27% من أصوات المقترعين في الدورة الأولى باعتبارهم جميعا ينتمون لتجمع المعارضة التي وقفت دوما ضد الرئيس السابق معاوية الطايع، لكن حصول ولد داده على أصوات هؤلاء قد لا يضمن له المقعد الرئاسي لأن المرشح الآخر يحظى بدعم الكتلة الحاكمة السابقة وأكثريتها النيابية كما يحظى بدعم الفئات التقليدية في المجتمع الموريتاني التي تعتقد أن وجوده في سدة الرئاسة سيحفظ مصالحها ولن يدخل البلاد في متاهات سياسية سواء على الصعيد الداخلي أم على الصعيد الخارجي باعتبار البلاد بحاجة إلى الاستقرار في المرحلة القادمة بعد انتهاء الفترة الانتقالية وتسليم العسكر للسلطة، إضافة إلى أن هذه الفئات التقليدية من قبائل وتجار وغير ذلك تعتقد أن وجود (ولد شيخ عبدالله) في الرئاسة سيخلق انسجاما بينه وبين البرلمان من ناحية، وانسجاما بينه وبين العسكر الذين سيعودون إلى ثكناتهم وهم مطمئنون أن مصالحهم أو مكانتهم أو مستقبلهم لن تتضرر من أي إجراءات محتملة قد يتخذها ولد داده وحلفاؤه إن فاز بالرئاسة.
لا أظن أن أحدا يمكن أن يجادل في حق أعضاء المجلس العسكري الانتقالي الحالي بالحصول على ضمانات تطمئنهم إلى عدم تعرضهم في المستقبل لأي إساءات خاصة بعد أن أوفوا بوعودهم وأوصلوا البلاد إلى الديمقراطية والحكم المدني، ولذلك ظلت المعارضة تتهم المجلس العسكري بأنه يدعم سرا الكتلة الحاكمة السابقة بهدف إعادتها إلى البرلمان الجديد ودعم المرشح الرئاسي ولد شيخ عبدالله القريب من هذه الكتلة، إلا أن اتهامات المعارضة لم تجد أدلة حاسمة تؤيدها خاصة في ظل النزاهة والحيادية التي جرت بها انتخابات المجلس النيابي ومجلس الشيوخ، وأخيراً الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، ومع ذلك يمكن تفهم شكوك المعارضة، إذ من الطبيعي أن يسعى العسكريون بشكل أو بآخر أن يدعموا طرفا بعينه ولو بصورة معنوية يعتقدون أنه قادر على توفير الاستقرار للبلاد وعدم الزج بها في مغامرات سياسية، وهم في ذلك سيتجهون بالضرورة لدعم طرف سياسي ليس له انتماء عقائدي، وله علاقات خارجية جيدة وبالذات مع المحيط الإقليمي والدول الأوروبية المعنية مثل فرنسا، ولم يكن بعيدا عن الحكم، بمعنى أن له خبرة ما في إدارة شؤون الدولة، فمثل هذه التقديرات لا بد أن تكون وردت بأي طريقة في حسابات قادة المجلس العسكري الذين يعرفون كل متطلبات الحكم باعتبارهم كانوا جزءا منه طوال فترة حكم الرئيس السابق.
كذلك فإن العسكريين يريدون بالضرورة حكما مدنيا لا يضطرهم يوما ما للانقلاب عليه والعودة للسلطة من جديد فيجلبون على أنفسهم وبلادهم غضب المجتمع الدولي، لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، إذ لا يستطيع أحد التنبؤ بمزاج الشارع في ظل تصويت أجمع كل المراقبين على أنه اتسم بالنزاهة والشفافية، وعلى ذلك فليس من المصلحة استفزاز هذا الشارع قبل التصويت في المرحلة الثانية، ويبدو أن الرئيس المؤقت العقيد أعلي ولد فال لديه الرغبة في الوصول إلى بر الأمان وشاطئ الاستقرار بما يمتلكه من قدرة هائلة على كسب ود مواطنيه بأسلوبه الهادئ البسيط ودفعهم للوقوف إلى جانب الرؤية التي يحملها من دون أن يؤيد مرشحا بعينه بصورة معلنة، وعلى ذلك فإنه يراهن على تحقيق ما يريد يوم 25 مارس/ آذار القادم حيث ينبغي أن تظل المعارضة السابقة هي نفسها المعارضة القادمة فيما يحكم المدنيون الذين اكتسبوا خبرة كافية في الحكم طوال العقدين السابقين، فهل ينجح (ولد فال) في إنجاز ما يريد؟