السيد يسين -
الفشل الاستراتيجي الأميركي في العراق
في إطار محاولة يائسة لتبرير الهزيمة الأميركية في العراق صرحت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية قائلة: "كانت استراتيجيتنا في غزو العراق صحيحة غير أننا ارتكبنا أخطاء تكتيكية لا حدود لها"!
ما مدى صحة هذه المقولة الاعتذارية؟
يفنِّد هذه المقولة بطريقة منهجية دقيقة "أنتوني كوردسمان" الخبير الأميركي المرموق والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط والعالم العربي، وأستاذ كرسي الاستراتيجية في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن.
وأهمية النقد الذي يوجهه "كوردسمان" أنه ما فتئ منذ الغزو الأميركي للعراق يلفت النظر إلى خطأ القرار الاستراتيجي للحرب، التي تتبعها خطوة خطوة، محذراً الإدارة الأميركية من المخاطر الحقيقية على أمنها.
وكان "كوردسمان" قد نشر بحثاً في مارس 2006 بعنوان: "الحرب الطويلة: الجرح الذي أحدثناه بأنفسنا"، ويعني لغزو الأميركي للعراق.
وقد لخص هذا المفكر الاستراتيجي الأميركي المرموق أسباب خطأ غزو العراق، والذي تمثل في إصدار عدة قرارات غير موفقة اتخذتها الإدارة الأميركية.
ويمكن إيجاز تحليله النقدي فيما يلي من نقاط:
النقطة الأولى الخوض في حروب طويلة في مدى زمني قصير، وتبني حلول جزئية وغير مناسبة. والنقطة الثانية التقليل من المخاطر المحتملة والتضخيم من الفوائد المرجوة، وتجاهل آليات متعددة غير المواجهة العسكرية المباشرة، مثل الدبلوماسية والاحتواء والردع. والنقطة الثالثة أنه على الولايات المتحدة الأميركية أن تحارب الحرب التي تريدها لا الحرب التي تواجهها، وغياب استراتيجية واقعية لإنهاء الصراع، وعدم وجود استراتيجية عليا.
والنقطة الرابعة هي تجاهل معدلات وطبيعة التوترات المدنية والصراعات العرقية والقبلية والاقتصادية ومسألة الحكم السليم.
والنقطة الخامسة هي الخلط بين مقاومة الإرهاب مع العمليات التي تهدف لفرض الاستقرار وعملية بناء الدولة من جديد. والنقطة السادسة إساءة تقدير حجم الموارد المطلوبة للحرب والمبالغة في رد الفعل كلما طال الصراع وتعمَّقت الأزمة. والنقطة السابعة والأخيرة إنكار خطورة الموقف المتزايد أمام الكونجرس والشعب الأميركي.
وبعد عام من إصدار "كوردسمان" لهذا التقرير النقدي استجاب في الأسبوع الماضي مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي يشغل فيه كرسي الاستراتيجية لهذا النقد الذاتي الصريح، وقرر مواجهة الموقف الأميركي المتردي بتشكيل لجنة لبحث موضوع "القوة الناعمة الأميركية"، وأسند إدارتها لقطبين بارزين في مجال الفكر السياسي، وهما "ريتشارد آرميتاج" و"جوزيف ناي". وقررت اللجنة تصميم مشروع هدفه الارتقاء بالأداء السياسي الأميركي.
وقد شخصت اللجنة الموقف على أساس أن الولايات المتحدة الأميركية في حاجة لإحياء قدرتها على أن تكون قطباً للإلهام والتأثير بدلاً من الاعتماد فقط على قوتها العسكرية. وعلى رغم التفوق الكاسح للقوة الأميركية الصلبة (العسكرية) إلا أن هذه القوة لها حدود لفعاليتها في مواجهة التحديات الرئيسية للسياسة الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية اليوم. وتقرر اللجنة بكل صراحة أن موقع الولايات المتحدة الأميركية في العالم قد تهاوى، وأهملت كل آليات "القوة الناعمة" مثل المساعدات، والدبلوماسية الشعبية، وغيرها وذلك منذ نهاية الحرب الباردة.
وبالإضافة إلى ذلك هناك افتقار للرؤية الاستراتيجية التي من شأنها أن تؤلف تأليفاً خلاقاً بين عناصر القوة "الناعمة" والقوة "العسكرية"، لمواجهة المشكلات الراهنة والمستقبلية.
وترى اللجنة أخيراً أن العام القادم يمثل فرصة فريدة للولايات المتحدة الأميركية، لكي تنخرط في حوار قومي يدور حول أنسب الوسائل لكي يقف إلى جانبها الأصدقاء والحلفاء وذلك لتحقيق مصالحها في أمنها القومي.
وقد اقترحت اللجنة تصميم مشروع يتضمن إشراك مجموعة متنوعة من الخبراء ينتمون إلى ميادين شتى. وهم القادة البارزون في الحكومة، وعدد من النواب، وممثلون للقوات المسلحة، وممثلون للجمعيات الأهلية وإعلاميون، وأساتذة جامعيون، وبعض من يمثلون القطاع الخاص. وستجتمع اللجنة ثلاث مرات في عام 2007 وذلك لبلورة "خطة طريق" تهدف لإحياء دور الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها مصدراً للإلهام والقيادة، وذلك بالاعتماد على الأبحاث التي قام بها خبراء مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية. والغرض هو صياغة توصيات لرسم سياسة متكاملة لتقوية نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وتصحيح صورتها في العالم وتأكيد فعاليتها في مواجهة المشكلات الدولية. وسيقدم التقويم النهائي للمشروع في نهاية عام 2007، بهدف المساعدة في تشكيل سمات الحوار السياسي خلال عام 2008 وهو عام الحملات الانتخابية الرئاسية.
والواقع أن ما أشرنا إليه من أنماط الاستجابة للهزيمة الأميركية في العراق وتدهور موقع الولايات المتحدة الأميركية في العالم يستدعي التأمل، بغرض الاستفادة من هذه الخبرة المتميزة.
وأول الدروس التي ينبغي أن نتعلمها في العالم العربي أن من إيجابيات المجتمع المفتوح حرية التفكير، وحرية التعبير، واستقلالية مراكز الأبحاث الاستراتيجية، وعدم خضوعها للروادع الحكومية المتعددة.
لقد أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية منذ الغزو الأميركي للعراق تقارير متعددة متتابعة وخصوصاً من تأليف "أنتوني كوردسمان" مارس فيها النقد العنيف للرئيس بوش وإدارته، ولم يكتف بذلك ولكنه مارس أيضاً النقد الذاتي للشعب الأميركي، وخصوصاً فيما يتعلق بعدم التصدي في الوقت المناسب للقرار الخاطئ بالحرب على العراق. بل إنه وضع الكونجرس ذاته و"الميديا" الأميركية نفسها موضع المساءلة، لكونها وافقت بشيء من الخفَّة على قرار الحرب خضوعاً منها للأكاذيب التي اصطنعتها إدارة الرئيس بوش لتبرير الحرب.
غير أن الدرس القيم الثاني الذي يستحق أن نطبقه من واقع الخبرة الأميركية هو أنه في تشكيل اللجان البحثية القومية لا ينبغي الاقتصار على السياسيين المحترفين أو ممثلي القوات المسلحة، ولكن بالإضافة إلى ذلك لابد لممثلي المجتمع المدني وعناصر متميزة من العالم الأكاديمي بالإضافة إلى ممثلين للإعلام والقطاع الخاص، أن يكونوا أعضاء أصليين.
وذلك لأنه من خلال تعدد المنظورات وتنوع الخبرات يمكن صياغة السياسات القومية المتكاملة.
والواقع أننا في حاجة إلى الإطلاع المستمر على الكتابات الأميركية التي توجه النقد العنيف لقرار الحرب على العراق، ولمختلف قرارات الرئيس بوش التي تصدر عن غير دراية كافية بالتعقيدات المتعددة في المجتمع العراقي.
لقد أدت سياسة إدارة بوش إلى تخريب التوازن بين كافة الطوائف العراقية والذي كان موجوداً من قبل.
بل إنه يمكن القول -كما يؤكد عدد من الخبراء الاستراتيجيين الأميركيين- إن العراق قد دخل بالفعل في إطار حرب أهلية.
وأياً ما كان الأمر فكل ما أشرنا إليه في هذا المقال لم يكن سوى مقدمة للتحليل الذي سنقوم به للتقرير الخطير الذي أصدره "أنتوني كوردسمان" في 14 مارس الجاري عن حكمه النهائي بصدد الفشل الاستراتيجي الأميركي في العراق. وجهات نظر