د. وحيد عبد المجيد -
قمة الرياض بين الاعتدال والتشدد
السعي إلى حل الخلافات عبر حوار موضوعي صريح، خير من إنكار وجودها. فليس هناك أخطر من رفض الإقرار بالواقع, وخصوصاً في لحظات التحول الكبرى في تاريخ الأمم والشعوب. وأحد معطيات واقعنا الراهن في منطقة الشرق الأوسط هو حدوث تغيير كبير في أنماط التفاعلات بين دولها, وفى داخل بعض هذه الدول, وكذلك بينها وبين العالم.
وأهم ما ينطوي عليه هذا التغيير هو ذلك الانقسام الذي تراكمت عوامله منذ مطلع العقد الجاري وأخذ في التبلور منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في فبراير 2005, إلى أن ظهرت معالمه واضحة خلال وبُعيد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو 2006 .
ولا يفيد في شيء إنكار وجود هذا الانقسام بين اتجاهين أحدهما معتدل يضم دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن في الأساس, والآخر متشدد يشمل إيران وسوريا ومعهما حركات وأحزاب إسلامية سياسية وأخرى قومية عربية. ولا مبرر للامتعاض الذي يبديه بعضنا من الحديث عن هذا الانقسام لأنه ليس عيباً في حد ذاته. فالعيب هو في تكريسه, وبالتالي تحول طرفيه، المعتدل والمتشدد، إلى محورين يشتد الاستقطاب بينهما فيدخلان في صدام متصاعد يأخذ المنطقة إلى كارثة جديدة. ولا عيب أيضاً في كلمتي الاعتدال والتشدد لأن كلاً منهما وصف لحالة سياسية وفكرية, وليس اتهاماً.
فالاعتدال ليس قرين الاستسلام أو التخاذل أو التهاون في الحقوق أو الانصياع لأعداء الأمة, إلا إذا أراده أصحابه أن يكون كذلك. والتشدد ليس صنواً للتطرف أو الإرهاب ولا هو بالضرورة قفز على الواقع وحرق لمراحله, إلا إذا رغب بعض المتشددين في تكرار تجارب مريرة آخرها مأساة عراق صدام حسين. فكل من الاعتدال والتشدد منهج في التفكير وتقدير الأمور وتدبيرها, وأسلوب في العمل وسبيل إلى تحقيق أهداف مبتغاة.
والاعتدال والتشدد, بهذا المعنى, موجودان في مختلف مناحي الحياة. ومن الطبيعي أن يكونا المدخل الأهم إلى تفسير سياسات الشرق الأوسط وما تنطوي عليه من علاقات وتفاعلات صراعية وتعاونية في لحظة يعاد فيها طرح السؤال المركزي عن هوية هذه المنطقة والاتجاه الذي يصح أن تسلكه في حل مشكلاتها, وعن طبيعة علاقاتها مع العالم عموماً, ومع القوى الكبرى في هذا العالم خصوصاً, ومع القوة الأكبر فيه بوجه أخص.
ولا يمكن فهم المشكلات الكبرى التي تواجه المنطقة اليوم عشية قمة الرياض التي ستبدأ أعمالها الأربعاء المقبل, بمعزل عن الخلاف بين المعتدلين والمتشددين على المستوى العربي, وفي الشرق الأوسط بوجه عام. فهذا الخلاف يطبع بطابعه أهم وأكبر القضايا المطروحة على جدول أعمال القمة, ويسود المناخ العام الذي ستعقد في ظله. فالأزمة اللبنانية, على سبيل المثال, هي في جوهرها تعبير عن خلاف بين اتجاهين كبيرين في هذا البلد لكل منهما امتداده الإقليمي. ومستقبل قضية فلسطين في الفترة المقبلة يتوقف على اعتبارات من أهمها العلاقة بين الاتجاهين الرئيسيين في العمل الوطني الفلسطيني. وهما اتجاهان ينحو أحدهما إلى الاعتدال وينزع الآخر إلى التشدد. كما أنهما ليسا بعيدين عن الانقسام الإقليمي العام.
ولذلك يمكن لقمة الرياض أن تحقق اختراقاً باتجاه الحد من التوتر في المنطقة إذا نجحت في البناء على التواصل الذي حدث في الأسابيع الأخيرة بين السعودية وإيران, وكذلك بين مصر وسوريا. فقد أنتج ذلك التواصل تفاعلات مختلفة جزئياً عما ساد المنطقة منذ حرب الصيف الماضي, والتي حملت خطر تحول الانقسام إلى "حرب باردة عربية" جديدة, وخصوصاً عندما استخدم الرئيس السوري بشار الأسد لغة هجومية حادة غير مسبوقة منذ ستينيات القرن الماضي.
غير أن الجدار الذي فصل بين مواقف المعتدلين والمتشددين خلال حرب الصيف الماضي لم يكن شديد الصلابة. ولذلك بدأت تحركات تستهدف عبور هذا الجدار عقب انتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان, ولكن ببطء شديد في ظل ضعف الثقة المتبادلة بين الاتجاهين.
فقد استقبلت القاهرة اثنين من كبار المسؤولين الإيرانيين (وزير الخارجية ثم مساعده للشؤون العربية) في 13 ثم 27 أغسطس. والتقى رئيس الوزراء المصري ونائب الرئيس الإيراني في نوفمبر على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، كما قام مدير المخابرات المصرية بزيارة مهمة إلى دمشق في 14 أكتوبر حاملاً رسالة من الرئيس مبارك إلى الرئيس الأسد.
ولم يمنع الجفاء الذي ضرب العلاقات بين القاهرة ودمشق من استمرار الاتصالات الاقتصادية والثقافية, مما أتاح حل مشكلة كبيرة كادت تفاقم الخلاف بين البلدين عندما فرضت مصر رسوم إغراق على بعض السلع السورية. وأدى التقدم الذي حدث في الاتصالات على هذا النحو إلى تيسير زيارة نائب الرئيس السوري إلى القاهرة في 13 مارس الجاري. وتوازى ذلك مع اتصالات سعودية- إيرانية حققت نتائج إيجابية أتاحت زيارة الرئيس أحمدي نجاد إلى الرياض في 4 مارس الجاري.
وهذا كله يوفر أرضية يمكن البناء عليها في قمة الرياض لمواصلة الحوار وتطويره باتجاه حد أدنى من التوافق الإقليمي يضع حداً لتصاعد الانقسام ويحول دون تحوله إلى استقطاب بين محورين. فليس مطلوباً, ولا هو ممكن, إنهاء هذا الانقسام لأنه يتعلق باختلاف في المنهج وليس فقط في السياسات والمواقف والمصالح. ولكن المهم هو أن يكون هناك حوار مستمر قابل لأن يتوسع تدريجياً, بحيث لا تعود المنطقة إلى الأجواء التي سادتها خلال حرب الصيف الماضي في حال اندلاع أزمة كبيرة أخرى.
وبديهي أنه لا يمكن إنجاز ذلك في قمة الرياض إذا بقي بين أقطابها من ينكر وجود اعتدال وتشدد أو يعتبر هذا التصنيف مدعاة للوقيعة بين دول المنطقة.
وإذا كانت وزيرة الخارجية الأميركية تحاول إعطاء انطباع بأن بلادها تعتمد على دول الاعتدال العربي, فهذا ليس مبرراً لإنكار وجود معتدلين ومتشددين لأن الفجوة بين مواقف هذه الدول وسياسة الولايات المتحدة واضحة بما يكفي. فتحفظات الدول العربية المعتدلة على السياسة الأميركية في المنطقة لا تختلف في الجوهر عن الانتقادات التي تتعرض لها هذه السياسة من جانب المتشددين. ولكن الفرق هو في المنهج, وفي الأسلوب. كما أن حرص المعتدلين العرب على التواصل مع إيران وسوريا يحبط, موضوعياً, السياسة الأميركية التي تهدف إلى تعميق الانقسام بين الفريقين.
ولكن لكي تتمكن قمة الرياض من تثبيت التواصل الذي بدأ والانطلاق نحو تدعيمه في الشهور المقبلة, ينبغي أن يكون المعتدلون العرب مستعدين للتعامل مع سوريا بأفق لا يقف عند الأزمة اللبنانية وحدها دون أن يغفلها أو يقلل من أهميتها. فاختزال العلاقة مع سوريا في قضية واحدة, ورهن التواصل معها بمساعدتها في الوصول إلى حل للأزمة اللبنانية, قد يربك التواصل الذي بدأ بين المعتدلين والمتشددين في المنطقة. فالجدار بين المعتدلين والمتشددين العرب أقل صلابة من السور الحديدي الذي يفصل بين اللبنانيين. والأزمة اللبنانية هي الأكثر تعقيداً بالنسبة إلى النظام السوري القلق مما يمكن أن يترتب على إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي في قضية اغتيال الحريري.
ولذلك قد لا تكون هذه الأزمة هي المدخل الملائم لتدعيم التواصل الذي بدأ بين الدول المعتدلة وسوريا. وربما يكون العكس هو الأصح, أي أن يكون تدعيم التواصل سبيلاً لتسهيل حل الأزمة اللبنانية. والمهم, في هذا كله, هو أن يذهب المعتدلون والمتشددون العرب إلى قمة الرياض بعقول مفتوحة وصدور رحبة لأن الخطر يهدد الجميع، ولأن أحداً لن ينجو إذا استفحل الانقسام. وجهات نظر