د. مزاحم مبارك مال الله: - الصرع... معاناة بين فقدان الوعي والعلاج إن ولادة الطفل الجديد في العائلة تُعّد مناسبة كبيرة وعظيمة ولا تتم الفرحة والسرور بها إلاّ بعد التأكد من صحة جسم المولود وشكله وتتناسب حلاوة هذه المناسبة مع حقيقة وواقع أن يكون هذا الكائن الجديد والذي سيشغل حيّزًا وسيحجز اسمًا ، كامل الخلقة.
نعم فأعداد من العوائل وللأسف الشديد ليست بالقليلة قد أبتلت بأمراض بعض أفرادها، سواء كان هذا المرض قد حصل منذ الطفولة أو أنه طرأ فيما بعد، أفراد للأسف أصيبوا بحالات سببت وتسبب لهم ولعوائلهم الكثير من الآلام المؤلمة حقًا بل تدمي القلب، ومن تلك الحالات يظهر داء الصرع .
الجهاز العصبي يتكون من الجهاز العصبي المركزي ( الدماغ ) ومن الجهاز العصبي المحيطي، وإن الجهاز العصبي المركزي يتألف من:
1.المخ وهو مؤلف من نصفين أيمن وأيسر.
2. المخيخ.
3. النخاع المستطيل والذي يرتبط به النخاع الشوكي والذي يمر من خلال القناة الشوكية والمتكونة من تراصف الفقرات ( الواحدة فوق الأخرى ) وبشكلها المعروف في الجهة الظهرية من جسم الإنسان. إن لكل من هذه التراكيب العصبية وظائفها الخاصة، علمًا أن خلايا الجهاز العصبي وبشكل عام هي خلايا متخصصة جدًا بل عالية وفائقة التخصص، بحيث أن فقدان خلية عصبية مركزية واحدة (وهي مجهرية طبعًا) لا تعوّض إطلاقًا، ورغم محاولات العلماء المتعددة في تحفيز الجسم لأجل إعادة إنتاج هذه الخلايا إلاّ أنها لا تزال في طور التجارب .
إن الخلية العصبية وإضافة إلى تخصصها العالي ( والتخصص نقصد به الوظيفة )، فهي تحوي على مكونات غاية في التعقيد منها مواد كيمياوية عضوية ولا عضوية متطورة جدًا، تساعد على إنتاج الشحنات الكهربائية والتي تتحكم بالفعالية البيولوجية لها، علمًا أن هذه الخلايا لديها خاصية تشريحية لا تحويها أي خلية من خلايا الجسم الباقية، هذه الخاصية متمثلة بوجود المحور، والمحور هذا يتراوح بالطول إستنادًا إلى مواقعها ووظائفها، وإجمالاً فإن الخلايا العصبية تنجز أعمالها وفعالياتها من خلال الشحنات الكهربائية آنفة الذكر. ولا ننسى فإن كل الفعل الحيوي الكيمياوي الفيزيائي الكهربائي لهذه الخلايا إنما يخضع للسيطرة العليا للبؤر العصبية في القشرة الدماغية أو في ما يعرف بالماهاد أو ما تحت الماهاد ( وهي تراكيب معقدة جدًا في الدماغ )، ولذلك فإن الإنسان يعيش حياته بشكل طبيعي وتحت سيطرة الفعل المباشر للخلايا العصبية وما تنتجه من إيعازات وردود لتلك الإيعازات على شكل الشعور والإحساس والحركة و...الخ . ولكن لكل عضو من أعضاء الجسم أمراضه الخاصة به، ومن جملة أمراض الدماغ ، مرض الصرع أو حالة الصرع .
إذًا ، ما هو الصرع ولماذا يحدث وما طرائق تشخيصه وآفاق علاجه؟
الصرع هو عدم إنتظام قصير لوظائف المخ ، وإعتياديًا يتزامن مع إختلال بالوعي ويترافق مع صدور أو إنتاج كم كبير ومفاجئ من الشحنات الكهربائية للخلايا العصبية المخية . هذه الحالة تحصل لدى المرضى على شكل نوبات تطول أو تقصر، عدد هذه النوبات غير محدد، ومن الممكن أن تؤدي إلى مضاعفات.
يعتقد العلماء أن آلية الصرع تعتمد على وجود كم من الخلايا العصبية المتهيجة غير الطبيعية وأن مثل هذه الخلايا تكون عُرضة لظروف التنبيه والتثبيط ومن مصادر أخرى ، وهذا يعني وجود ناقلات المنبهات الكيمياوية وكذلك وجود ناقلات التثبيط ، تؤثران من خلال عمليات بيوكيمياوية على أغشية الخلايا العصبية غير الطبيعية أنفة الذكر والتي لها الأستعداد للتأثر بمثل هذه التأثيرات ، أي بمعنى أن هذه الخلايا ستكون تحت تأثير فعلين متعاكسين تنتج عنهما شحنات يحكمها التوازن الذي سيحصل خلال وقت التأثيرين المتعاكسين .
إن أسباب وجود الخلايا ذات الإستعداد للتأثر بهذه الآلية في جسم الإنسان متعددة ومنها : تأثر دماغ الجنين في رحم أمه ولأي سبب ، تأثر دماغ الوليد أثناء الولادة، تأثر دماغ الوليد بعد الولادة مباشرة (مثل نقص الأوكسجين)، تأثر دماغ الوليد بمادة الصفراء ـ إذا ما إرتفعت نسبتها ـ، إرتفاع درجات حرارة الجسم مما تؤدي إلى ما يُعرف بالصرع الحراري، إلتهابات الدماغ وأورامه، الشدّة الخارجية على الرأس وبالتالي تؤثر على الدماغ، حالات مثل غيبوبة إنخفاض السكّر بالدم، أو إنخفاض شديد بمستوى إنتاج الغدد تحت الدرقية، تسمم بمواد كيمياوية، نزوفات دماغية، وذمات دماغية ـ أي تجمع السوائل في الدماغ ـ وغيرها العديد من الأسباب ولكن هذه هي الأهم والأوسع إنتشارًا.
إن الصرع نوعان: الصرع العام ويمتاز بفقدان الوعي، والصرع الجزئي أو البؤري ويمتاز بالإحتفاظ بجزء من الوعي .
إن الصرع وكما قلنا يحدث على شكل نوبة ونوبة الصرع العام على نوعين : إما أن تكون على شكل النوبة الكلية ( الكبرى ) أو على شكل النوبة الجزئية ( الصغرى ) .
النوبة الكلية ( الكبرى ) وتسمى أيضًا نوبة التوتر الإرتعاشي : وفيها المريض يمر بخمسة أطوار :ـ
1.الطور الأولي ـ يمتد بين ساعات إلى أيام ، ليس فيها ما يثير بقدر ما يحصل تغير بمزاجه العام .
2.طور الشعور ـ وهو ما يدعو المريض إلى الشعور بأن شيئًا ما سيحصل له .
3.طور أو مرحلة التوتر أو التقلص ـ وهو الطور الذي فيما لو حدث لا يمكن تفاديه ، فالمريض سيفقد الوعي بحيث إذا كان واقفًا فسيهوي على الأرض ، ويمتاز بتقلص عضلي عام بما فيها عضلات الجهاز التنفسي ( وهنا تكمن الخطورة ) لأن المجرى التنفسي سيُغلق بل ويتوقف محيلاً المريض إلى الإزرقاق مما يدل على توقف عملية التبادل الغازي وبالتالي، فإن نسبة ثنائي أوكسيد الكاربون سترتفع، وإن تأمين الممر التنفسي يُعدّ منقذًا لحياته. إن هذا الطور ينتهي خلال 20ـ 30 ثانية .
4.الطور الإرتعاشي ـ وخلال هذا الطور فإن المريض سيرتعش لا إراديًا بحركات تشمل مختلف أجزاء الجسم والأطراف والوجه. وخلال الطورين الثالث والر ابع فإن المريض ربما يعض لسانه أو يفقد السيطرة على مرور البول منه وحتى ربما لفظ الفضلات الأخرى .
5.طور الإسترخاء ـ بعد إنتهاء هذه الحركات فإن المريض يسترخي بوضعية الغيبوبة وكأنه نائم نومًا طبيعيًا. إن هذا الطور ينتهي خلال دقائق أو ربما في نصف ساعة ، بعد هذا الطور يستفيق المصاب ولكنه يشعر وكأنه في حالة الغشاوة ويعاني من الصداع .
أما النوبة الجزئية ( الصغرى ): وهناك ثلاث أنواع منها :
1.النوع الأول ـ ويمتاز بفقدان الوعي الوقتي البسيط حيث أن المريض (( يحدّق بإنشداه إلى الأمام )) ، هذه النوبة تستمر بين 10و15 ثانية ، وهذه النوبة تكون بسيطة بحيث تحدث وتنتهي دون أن يلاحظها أحد .
2.النوع الثاني ـ وهو أقل حصولاً ولكنه يمتاز بفقدان جزئي بسيط بالوعي مصاحبًا حركات إرتعاشية لعضلات ذراع أو الذراعين .
3.النوع الثالث ـ وهو ما يفقد فيه المريض وعيه كليًا وربما يسقط على الأرض ولكنه ينهض بسرعة وكأنه لم يحصل شيء .
أما نوبة الصرع الجزئي أو البؤري، وهي تعتمد على موقع الإصابة في الدماغ، فالشحنة أو التفريغ الكهربائي يحصل جزئيًا أو موضعيًا مفضيًا إلى حصول إختلال كهربائي عمومي . إن أكثر مواقع نشوء الصرع البؤري هو الجزء الصدغي من الدماغ، ويسمى بالصرع الصدغي ، وبهذا الصرع يصاب المريض بالهلوسة الذوقية والسمعية وكذلك هلوسة بالرؤية، وهناك حالات من فقدان الذاكرة ( الوقتية طبعًا) إضافة إلى تغيير بالمزاج والأحساس العام . أما النوع الآخر من الصرع الجزئي وهو ما يُعرف بالصرع الجاكسوني، وبهذا النوع يعاني المريض من حركات لا إرادية تشمل جزءًا من الجسم سرعان ما تشمل الأجزاء المتناظرة الأخرى .
وهناك أنواع أخرى أقل أهمية وإنتشارًا .
تشخيص الصرع ومعرفة السبب :
يُعد الصرع أحد الأمراض المحرجة للمصاب به، ولتشخيصه يلجأ الأطباء إلى ما يلي :
1.وصف الحالة من قبل أهل المصاب أو من قبل الذين يشهدون النوبة، مع فحص المريض بشكل عام والمناقشة معه ( إذا كان كبيرًا ) مع دراسة التاريخ المرضي والعائلي .
2.الفحص السريري .
3.التخطيط الكهربائي للدماغ .
4.الرنين والمفراز .
5.تحاليل دم عامة .
6.تحاليل السائل النخاعي ، ( ويسميه المواطنون بسحب الماء من الظهر ) .
العلاج :
إن العلاج يرتكز على مرتكزين :
الأول: التعامل مع النوبة. وبهذا المرتكز العلاجي نبذل الجهود من أجل :
1.تأمين المجرى التنفسي للمصاب .
2.تلافي المضاعفات جراء السقوط أو فقدان الوعي أو الإرتعاش .
3.إرشاد المريض (صغير العمر) حول مرضه ، وإشعار مدرسته إن كان تلميذًا، كما إن إجراء توعية لأهل المريض أمر في غاية الأهمية .
4.إرشاد المريض (كبير العمر) حول مرضه وخصوصًا إذا كان يعمل بوظيفة أو بمهنة حرة .
5.مساعدة المصاب لتلاقي ما يمكن أن يحدث بسبب الموقف النفسي الصعب الذي يمر به بعد الإفاقة .
الثاني :معالجة السبب العضوي ( إن أمكن ذلك ) و الكامن وراء إصابة المريض بنوبات الصرع، كالنزوفات الدماغية أو إلتهاب الدماغ أو غيرها من الأسباب .
أما الغاية من العلاج هو أن نمنع قدر المستطاع أو على الأقل أن نباعد بين النوبات التي تنتاب المريض ، وذلك باستخدام بعض الأدوية والتي يجب أن تكون تحت إشراف الطبيب الإختصاصي المعالج. إن هذه الأدوية تمتاز بما يلي :
1.لا يوجد دواء واحد لمعالجة كل أنواع الصرع .
2.مختلف الأدوية يمكن إستخدامها لمختلف المرضى .
3.قليل جدًا من المرضى الذين يحتاجون إلى عدة أنواع من الأدوية .
4.الأدوية تبدأ بجرعات قليلة ونزيدها تبعًا لإستجابة المريض وحالته العامة .
5.يجب مراقبة التأثير السُمي للعلاجات .
6.لايجوز قطع العلاج فجأةً .
7.العديد من هذه الأدوية تتداخل تفاعليًا مع أدوية أخرى ربما يصفها الأطباء لهؤلاء المرضى لذا وجب إخبارهم عن حالة المريض وعن أدوية الصرع التي يستخدمها .
8.الكثير من هذه الأدوية لها تأثيرات سيئة على الأجنّة وتسبب التشوهات الخلقية، لذا فإن الأطباء ينصحون النساء ممن هن في سن الإنجاب أن يتحاشين الحمل أثناء إستخدام هذه الأدوية، وعلى المصابة بهذا المرض أن تخبر طبيبها المعالج قبل أن تحمل .
ولأجل إعطاء الموضوع إستحقاقه فلا بد أن نتطرق وبأيجاز إلى مصطلح يُعرف بـ "الحالة الصرعية"، وهي حالة تمتاز باستمرارية النوبات وبغياب العودة إلى الحالة الطبيعية، هذه الحالة هي مميتة فيما لو لم تُسعف أو تنظّم. إنها شائعة بين الأطفال وبين المرضى الذين يعانون من مشاكل في الدماغ. إن التعامل مع الحالة بما يؤمّن وسائل استمرار بقاء المريض حيّاً هو المطلوب في الحالة الصرعية .
وأخيرًا فإن الصرع حالة مؤلمة حقًا تحتاج دومًا إلى رعاية ضحيتها ومراعاة مشاعر العائلة وأحاسيسها، ويبقى العلم في صراع دائم مع المرض والعاهات إلى أن يفك الرموز ويحل العُقد ويعالج الأمراض .
ايلاف
|