فرانسيس فوكوياما* -
أميركا والعراق... تساؤلات ما قبل الانسحاب
وعد الجنرال "ديفيد بيترايوس" قائد القوات الأميركية في العراق بالعودة إلى واشنطن في سبتمبر المقبل لتقديم تقرير عن حصيلة استراتيجية زيادة القوات، وما أدت إليه. وآمل بالطبع أن يأتي الجنرال ليقول إن عمليات القتل الطائفي والخسائر البشرية الأميركية قد انخفضت، ولكن حتى لو افترضنا أنه قد قال ذلك، فإنني أشك في أن يتمكن من تحديد موعد واضح ومقنع تصبح فيه قوات الجيش وقوات الأمن العراقية قادرة على الاعتماد على نفسها دونما حاجة للدعم الأميركي الضخم، الذي تحصل عليه في الوقت الراهن. لذلك فإنه وبصرف النظر عما سيقوله الجنرال، فإن الأمر المقدر، هو أننا سندخل موسم الانتخابات الرئاسية، دون أن يكون لدينا تاريخ موثوق به للخروج الأميركي من العراق.
خلال السنوات الأربع ونيف، التي انقضت منذ اندلاع الحرب في العراق، كانت هناك منعطفات لا حصر لها استدرجنا فيها لتوقع حدوث تقدم سياسي حاسم في العراق، منها على سبيل المثال القبض على صدام حسين (ديسمبر 2003)، نقل السيادة للعراقيين (يونيو 2004)، انتخابات الجمعية التأسيسية (يونيو 2005)، الاستفتاء على الدستور (أغسطس 2005)، وانتخابات البرلمان العراقي (ديسمبر 2005).
وكانت زيادة القوات في العراق هي الورقة الوحيدة التي اضطررنا إلى استخدامها مؤخراً بيد أن زيف هذه الاستراتيجية سرعان ما سيتم اكتشافه. من وجهة نظري، ليس هناك سوى حالة واحدة يمكننا من خلالها سحب قواتنا من العراق، مع المحافظة في ذات الوقت على الحماية الكاملة لمصالحنا الجوهرية، وعلى ادعاء معقول بأن مهمتنا قد أنجزت، وهي عندما تبرز قوات عسكرية وشُرَطية عراقية قوية لديها القدرة على العمل بشكل مستقل عن القوات الأميركية وعلى الحيلولة دون استيلاء "القاعدة"، أو المتمردين "البعثيين"، أو ميليشيا مقتدى الصدر على البلاد.
يجب ألا نخدع أنفسنا. فموقفنا اليوم من بعض النواحي أسوأ بكثير من الموقف الذي واجهه نيكسون في فيتنام منذ 35 عاماً. في ذلك الوقت كان لدى فيتنام الجنوبية جيش، قوامه على الورق مليون جندي، كان قادراً على الرغم من كافة المشكلات التي تواجهه على الصمود لمدة ثلاثة أعوام بعد انسحاب القوات البرية الأميركية. ووفر الجيش الفيتنامي في ذلك الوقت لـ"هنري كيسنجر" ما عرف في ذلك الوقت بـ"الفاصل الزمني اللائق" بين خروج القوات الأميركية وسقوط فيتنام الجنوبية. (في الواقع أن "كيسنجر" قد جادل بشكل مقنع إلى حد ما بأنه كان بمقدور الفيتناميين الجنوبيين أن يصمدوا إلى لأبد، لو لم يقم الكونجرس الأميركي بقطع التمويل الذي كان مخصصاً للإسناد الجوي الأميركي لفيتنام).
لا يوجد في الوقت الراهن -ولن يوجد مستقبلاً- شيء ذا معنى سياسي مشابه لذلك في العراق.
ابتداء من نوفمبر الماضي زعمت وزارة الدفاع الأميركية أنها دربت 322 ألف جندي تابعين للقوات المسلحة والشرطة، ولكنها أقرت في الوقت ذاته بأن العدد الفعلي المتاح، يقل عن ذلك كثيراً بسبب الهروب والاستنزاف. كما يُشار في هذا السياق إلى أن القوات العراقية ما فتئت تعاني من عجز هائل في الدروع والأسلحة والإمداد والتموين والاتصالات، وليس من الواضح كيف سيمكن لتلك القوات أن تقوم بمهامها دون وجود قوات أميركية تأخذ بيدها.
لقد بدأ تدريب القوات العراقية متأخراً، ولم يحظَ هذا التدريب بتمويل كافٍ، ولا باهتمام من المستويات العليا على الرغم مما يُقال إن "بيترايوس" نفسه كان هو الرجل الذي تولى إدارة دفة الجهد التدريبي في السنوات الأخيرة.
ما يعنيه كل هذا هو أنه حتى لو أدت زيادة القوات إلى تخفيض مستوى العنف في العراق بدرجة ما، فإنه لن يضمن خروجاً "آمناً" للقوات الأميركية. هنا تكمن المشكلة فيما يمكن تلخيصه من خلال هذا السؤال: هل هناك أمامنا خيار آخر غير الانسحاب؟ هناك خيار مواصلة البقاء في العراق. وأظن أننا قادرون على تجنب الخسارة في العراق لمدة خمس أو عشر أو خمسة عشرة سنة قادمة، طالما ظلت لدينا الرغبة في المحافظة على وجود مستويات عالية من القوات، وطالما ظللنا قادرين على تحمل خسارة كبيرة في المال والدم. على الرغم من ذلك، فإن أكثر المرشحين "الجمهوريين" لمنصب الرئيس "محافظةً" لا يمكنه أن يخوض حملة انتخابية على أجندة تقوم على إبقاء القوات الأميركية في العراق إلى ما لا نهاية، خصوصاً عندما تبدأ المرحلة الأولى من الموسم الانتخابي في الشتاء القادم، الذي ستدخل فيه حرب العراق عامها السادس.
وهذا يعني أننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى الدخول في سجال مختلف تماماً عن السجال، الذي كنا منخرطين فيه حتى الآن. وهذا السجال لن يدور حول زيادة عدد القوات، ولا عن الانسحاب بعد أن تكون أهدافنا قد تحققت، وإنما عن الكيفية التي يمكننا بها تخفيض عدد قواتنا بطريقة تؤدي إلى تقليص أكلافنا إلى أدنى حد، وهو ما سيرافق حتماً فقداننا للسيطرة.
وهذا الموقف صعب غير أنه ضروري. والأسئلة التي نحتاج إلى تناولها في هذا السياق هي: كيف نعيد تصميم قواتنا بحيث تصبح قادرة على تقديم الاستشارة والتدريب والدعم بدلاً من الاشتراك المباشر في القتال؟ كيف يمكننا الانسحاب دون وجود جيش عراقي لديه القدرة والجدية على تغطية انسحابنا؟ كيف سنفكك القواعد الضخمة التي أقمناها في العراق مثل قاعدة "كامب ليبرتي" وقاعدة "كامب فيكتوري"، ونحمي العدد المتناقص دوماً من القوات الأميركية الموجود في البلاد؟ ه
هل نمتلك الثقة الكافية في القوات المسلحة والشرطة العراقية التي تجعلنا نقوم بتسليمهم معداتنا؟ كيف يمكننا حماية حياة الذين تعاونوا معنا؟ إن منظر حلفائنا من المواطنين الفيتناميين وهم يتعلقون بالأجزاء البارزة من بدن آخر طائرة هيلكوبتر أميركية تغادر فيتنام من أمام مبنى سفارتنا في العاصمة "سايجون" هو منظر يجب أن نستدعيه إلى ذاكرتنا في هذا الشأن.
وهناك سؤال آخر أيضاً وهو: ماذا يمكن أن يحدث لو تهاوت الحكومة العراقية الضعيفة التي سنتركها وراءنا أو حدثت كارثة سياسية أخرى في حين أن عدد القوات الأميركية التي يمكنها أن تتعامل مع ذلك قد أصبح أقل؟ هل يمكننا في حالة مثل هذه أن نستخدم وكلاء أو نرسل موارد أو إمدادات أسلحة لصياغة شكل المحصلة النهائية، التي ستنتج عن ذلك.
في الوقت نفسه الذي سنقوم فيه بتخفيض عدد القوات، فإن المرجح هو أن تتفاقم الحرب الأهلية ويصبح جل اهتمامنا في ذلك الوقت هو العمل على احتواء تلك الحرب داخل حدود العراق، وهو ما يعني أن الحيلولة دون تدخل قوى أجنبية في هذه الحرب، سيتحول إلى أولوية أكثر عَجَلة مما هي الآن.
من ناحية أخرى، فإن الحالة القائمة في العراق الآن ليست بالضرورة هي تلك الحالة التي يخرج فيها الأمر عن نطاق السيطرة. فعلى رغم أن الوضع في العراق أكثر خطورة من الوضع الذي كان قائماً في فيتنام من بعض النواحي، وأفضل من نواحٍ أخرى. وعلى رغم أنه لا يوجد لدينا جيش عراقي معادل للجيش الفيتنامي الجنوبي، فإن عدونا في نفس الوقت لا يعادل في قوته وخطورته جيش فيتنام الشمالية. علاوة على ذلك، فإنه من الصعب رؤية أي فصيل من الفصائل التي تتصارع مع بعضها بعضاً من أجل السلطة والنفوذ في العراق باعتباره القوة المهيمنة على العراق. وجود القوات المسلحة الأميركية شكل في حد ذاته حافزاً لتجنيد الإرهابيين، ولكن عندما يصبح واضحاً للعراقيين أننا في طريقنا للخروج فإنه سيكون من السهل على الوطنيين منهم في تلك الحالة الانقلاب على الجهاديين الأجانب (وهو ما بدأ يحدث بالفعل في محافظة الأنبار). الحرب الأهلية المتفاقمة ستكون مأساة بالنسبة للعراق، ولكنها لن تكون المحصلة الأسوأ من وجهة نظر الولايات المتحدة أن تنخرط بعض الفصائل التي تكن عداءً شديداً للأميركيين في صراع شرس فيما بينها. إن الحروب الأهلية تنتهي عندما ينتصر طرف من الأطراف على الباقين (من غير المرجح أن يحدث هذا في الحالة العراقية) أو عندما تستنزف الجماعات المتحاربة نفسها أو تتخلى عن المغالاة في أهدافها. إننا لم نخسر الحرب على الرغم من التأكيد الذي ساقه في هذا الخصوص "هاري ريد" رئيس الأغلبية بمجلس الشيوخ الأميركي ("ديمقراطي" من ولاية نيفادا)، ولكن النصر ليس قريب المنال أيضاً. وهو ما يعني أننا بحاجة إلى تصور الطريقة التي يمكننا بها الخروج من هذه المنطقة الشديدة التعقيد الآن.
* أستاذ بكلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة ومؤلف كتاب: "أميركا في مفترق الطرق: الديمقراطية، والسلطة وإرث المحافظين الجدد"
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست" الاتحاد