ريتشارد بيرل -
الـ"سي آي إيه"... كيف خذلت أميركا؟!
يمهد جورج تينيت لمذكراته بتذكر حوار يزعم أنه دار بيننا في الثاني عشر من سبتمبر 2001 إذ يقول: "حين كنت في طريقي إلى الجناح الغربي، شاهدت ريتشارد بيرل يخرج من المبنى بينما كنت على وشك الدخول إليه... التفت إليَّ بيرل وقال: على العراق أن يدفع ثمن ما حدث أمس، عليهم أن يتحملوا المسؤولية. نظرتُ إلى بيرل وتساءلت في نفسي: تُراه مع من التقى في البيت الأبيض مبكراً هذا اليوم؟".

والحال أنني كنت في أوروبا يوم الثاني عشر من سبتمبر 2001، حيث لم أتمكن من الحصول على تذكرة للعودة إلى واشنطن؛ ثم إنني لم أقل أبداً لتينيت إن العراق مسؤول عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لا وقتها، ولا في أي مناسبة أخرى. يُفترض أن تنتهي القصة عند هذا الحد على اعتبار أن الأمر ربما يتعلق بخطأ في التذكر، ليس إلا؛ وأن تينيت ربما نسب إليَّ شيئاً سمعه في مكان آخر، أي أنه خطأ بحُسن النية.

بيد أنني فوجئت عندما كرر تينيت هذا الزعم حتى بعد أن تم تنبيهه إليه، قائلاً: "ربما كنت مخطئاً بخصوص ذاك اليوم، ولكنني لم أكن مخطئاً بخصوص ما قاله وما كان يعتقده". ففي برنامج "Meet the Press" (واجه الصحافة) التلفزيوني الأحد الماضي، جادل تينيت بأن روايته "تجد ما يزكيها" في التصريح الذي أدليت به للكاتب والصحفي "روبرت نوفاك" في السابع عشر من سبتمبر والرسالة التي وقعتها إلى جانب 40 شخصاً آخر في العشرين من سبتمبر وبعثنا بها إلى الرئيس. غير أن التصريح الذي يتألف من عشر كلمات والذي أدليت به لنوفاك لم يَرِد فيه ما يفيد بأن العراق مسؤول عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وكذلك الحال بالنسبة للرسالة التي جاء فيها أن "أي استراتجية تروم استئصال الإرهاب ورعاته يجب أن تشمل جهوداً واضحة لتنحية صدام حسين عن السلطة".

ويصر تينيت على أن يساوي بين تصريحين هما في الواقع مختلفان: أن العراق مسؤول عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر –وهو ما لم أقله أبداً- وأن خلع صدام حسين قبل أن يقتسم الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية والنووية مع الإرهابيين أصبح مسألة عاجلة، وهو ما قلته بالفعل. ويستمر في التأكيد خطأ على أن الأكاذيب حول مسؤولية العراق عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر شجعت الرئيس على اتخاذ قرار بخلع صدام حسين.

تينيت، الذي كان حريصاً بشكل يمكن تفهمه، على نسف أسطورة أننا ذهبنا إلى العراق على أساس المعلومات الاستخباراتية الخاطئة التي وفرتها وكالته، يسعى إلى استبدالها بأسطورة أخرى، مفادها أن قرار خلع صدام حسين إنما يعزى إلى التأثير القوي لنائب الرئيس ومجموعة من المثقفين المنتمين إلى تيار "المحافظين الجدد". وللترويج لهذه الفكرة، لم يتردد في أن ينسب إليَّ وإلى آخرين تصريحات مختلقة.

لاشك أن القراء المنتبهين لاحظوا على الفور أن ما يسميه تينيت "تزكية" ليس شيئاً من ذلك. وعلى ذكر القراء المنتبهين، فالمؤكد أن تينيت ليس واحداً منهم -وهو عيب كبير بالنسبة لمديرٍ لـ"السي آي إيه" وكارثة لهذه الوكالة. ذلك أن التحليل غير المتأنِّي وعدم توخي الدقة بخصوص الأدلة، هما اللذان تسببا لتينيت في أزمة مصداقية مازالت آثارها السلبية على سياستنا الخارجية مستمرة إلى اليوم.

فعلى مدى سنوات، فشلت المؤسسة الاستخباراتية الأميركية في توخي الدقة بخصوص الحقائق التي تعد أساسية بالنسبة لمهمتها. والواقع أن تقييم "سي آي إيه" الذي ذهب إلى أن صدام حسين كان يمتلك أسلحة كيماوية وبيولوجية، ليس سوى آخر مثال على ذلك. فقد كان الرئيس ونائب الرئيس والكونجرس وآخرون يعولون على المعلومات الاستخبارتية التي وفرتها "سي آي إيه" في عهد تينيت -إلى درجة أنهم كرروا خلاصات "سي آي إيه" علناً باعتبارها حقائق.

عندما طلب مسؤولو وزارة الدفاع من "سي آي إيه" إعادة تقييم ما إن كان جهاز الاستخبارات العراقي في عهد صدام قد دعم الإرهابيين، وما إن كانت له علاقات مع "القاعدة"، أبدى تينيت مقاومة في البداية؛ وبعد ذلك تعامل باستخفاف مع الشواهد التي كان محللو "سي آي إيه" قد تجاهلوها. ورغم أنه اعترف لاحقاً بهذا الأمر في رسالة إلى السيناتور السابق "بوب غراهام" ("الديمقراطي" من فلوريدا)، إلا أنه مازال يقلل من شأنه في وقت لا يتوانى فيه عن مهاجمة منتقدي "سي آي إيه".

غير أن أكبر فشل استخباراتي خلال العقدين الماضيين هو فشل "سي آي إيه" في فهم الأصولية الجهادية ودق ناقوس الخطر للتحذير من تهديدها. ذلك أن "التطرف الوهابي" والدعوة إلى الجهاد ضد المشركين، هو الذي أنجب مرتكبي الحادي عشر من سبتمبر والكثير من الأعمال الإرهابية التي أعقبته. والحال أن تينيت لا يستطيع، في محاولاته إلقاء اللوم على الآخرين وتحميلهم مسؤولية إخفاقات "سي آي إيه"، القول: "لقد أخبرت الرئيس بأن بعض حلفائنا يمولون آلاف المساجد والمدارس الدينية عبر العالم حيث يتم تلقين أفكار الجهاد والعنف لإرهابيين شباب محتملين". فقد فشلت "سي آي إيه" في إشعار زعمائنا بخطر التطرف الإسلامي والخطر الكبير الذي يشكله بالنسبة للولايات المتحدة.

لقد تمكن جورج تينيت على نحو ما، ومعه أهم وكالة استخبارات وطنية، من إيجاد أسلحة دمار شامل لا وجود لها، بينما فشل في إيجاد روابط بالإرهابيين كانت موجودة –وكل ذلك بينما تم إغفال صعود الأصولية الإسلامية. والواقع أننا لم ندفع سوى الدفعة الأولى من ثمن ذاك الفشل.

* رئيس "مجلس السياسة الدفاعية" من 2001 إلى 2003- وجهات نظر