عزمي بشارة -
مبادرة السلام وفقدان المبادرة بين أولمرت وتشيني
يدعي أولمرت أن الزعماء العرب لن يسمعوه يقول كلمة “لا” لمبادرة السلام العربية، وما عليهم الا ان يجتمعوا به ويشرحوا له المبادرة. ف”مانيوال” يدوي من نوع: “كيف تقرأ مبادرة السلام العربية” لن يفي بالغرض. يجب ان يشرحوا له المبادرة شخصيا. وعندها سيعطيهم هو درسا في “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس”، وكيف ترفض من دون ان تقول لا. فهو يقول: إن حق العودة هو عائق يجب التخلي عنه لإزالته من طريق السلام، وأن “القدس الموحدة” هي أمر مفروغ منه بالنسبة ل”إسرائيل”، كذلك فإن الإصرار العربي على حدود 1967 تشكل مشكلة. لاحظ انه لا توجد كلمة “لا” واحدة في كل ما قيل.
والحقيقة ان الامر لا يحتاج الى تحليل، فقد رفض اولمرت مبادرة السلام العربية ألف مرة، قبل ان يصر العرب على عرضها من جديد، كما أنه رفضها عمليا في فعل يقطع قول كل خطيب بعد إعادة طرحها، وذلك عندما قرر تخصيص مليار ونصف المليار دولار لتعزيز جهود تهويد القدس. هذه خطوة أهم من أي “لا” شفوية. فحتى لو قال “نعم” لمبادرة السلام العربية واتخذ مثل هذا القرار يجب ان يعتبر العرب هذه ال”نعم” كأنها “لا”، فكم بالحري وهو يقول “لا”.
ومع ذلك هنالك من لا يريد ان يسمع كلمة لا حتى عندما تقال. تدوي في أذنه ويتجاهلها لأن استراتيجيته تقضي ب”تحريك عملية السلام”، فهذا على ما يبدو الأمر المتاح الوحيد حاليا. الأمر الوحيد الذي يتيحه الواقع حاليا هو ليس حلا واقعيا، كما جرت العادة على القول ضد المتطرفين، بل لا- حل واقعي، أو عملية سلام مستمرة. فإذا كان عدم الواقعية يعني عدم قبول الحلول، فإن الواقعية باتت تعني قبول اللا - حلول، أو قبول عملية سلام دائمة، على وزن الثورة الدائمة، دون حل.
تحتاج الدول العربية المعنية الى موهبة لتضع نفسها في مواقف من هذا النوع في مرحلة فشل السياسة الأمريكية في المنطقة العربية والطفرة في أسعار النفط وحالة حرب الكل ضد الكل في “إسرائيل” بانتظار تشكل الخارطة السياسية من جديد على أنقاض “كاديما”.
حلفاء أمريكا يقبلون بعملية سلام ويتمسكون بمبادرة سلام رفضتها “إسرائيل” محولين المبادرة الى موقف ثابت، اي متنازلين عن مواقفهم السابقة، وهم يأملون فقط ان يهدئ هذا المسعى هذه الجبهة او يحيدها في نوع من العلاقات العامة عن الجبهات الاخرى المفتوحة. فحلفاء أمريكا في المنطقة قلقون ومرتبكون بخصوص سياسة أمريكا في العراق وإيران. وهم يتمنون في الواقع عودة السياسة التي اطلق عليها في زمن كلينتون اسم “الاحتواء المزدوج” مع فارق وجود القوة الامريكية المباشرة حاليا. وهذا شبه مستحيل في الوضع الراهن. فجأة يسمحون لأنفسهم بتمنية النفس، أي بعدم الواقعية.
جاء تشيني ليحتوي أصحاب المواقف القلقة، وليهدئ من روعهم ويطمئنهم أنه لن تكون ضربة لإيران من دون معرفتهم ومن دون أخذ مصالحهم الأمنية بعين الاعتبار، وأنه لن تكون صفقة مع إيران تهمشهم وعلى حسابهم. وهذه وعود مستحيلة وغير واقعية بالطبع.
كان هنالك تقارب أمريكي إيراني لفترة ما في دعم حكومة المالكي، وقد أدى هذا التقارب الى ابتعاد مملكة سعودية محرجة عن هذه الحكومة العراقية الإيرانية الأمريكية، ابتعادا يؤهلها للعب دور “ناطق باسم السنة” في مرحلة لم يبق فيها الا محاولة وضع حاجز طائفي بين المقاومة والجماهير العربية. ومن غير الممكن دعم حكومة المالكي وتمثيل “مصالح السنة” في نفس الوقت، بما فيهم “سنة العراق”. وهنالك مشكلة متعلقة بالسياسة الامريكية التي تهمش السنة في العراق منذ يوم الاحتلال الأول.
وبموجب كافة الصحف الأمريكية الممكن متابعتها (أنظر واشنطن بوست ولوس أنجلس تايمز 12 مايو/ أيار كمثال) يحاول تشيني عبر زيارته جسر الهوة بين حكومة المالكي من جهة والسعودية وحلفائها من جهة أخرى لغرض تطويق التأثير الإيراني في العراق. وبموجب نفس الصحف الأمريكية حاول تشيتي بث بعض الواقعية بإفهامهم أنه من غير الواقعي توقع تغيير المالكي حاليا، وأنه لو جاء علاوي مثلا فلن يكون وضعه أفضل.
بالنسبة لحلفاء امريكا فإن العلاقة الأمريكية - الإيرانية حبلى بخطرين. خطر ضربة أمريكية على إيران وخطر صفقة مع إيران. فكيف وصلت دول بهذا الحجم والغنى في أوج الأزمة الأمريكية “الإسرائيلية” في المنطقة إلى وضع تجد نفسها فيه متضررة من صفقة إيرانية أمريكية، ومتضررة من حرب أمريكية إيرانية ايضا. كيف وصلت هذه الدول الى وضع كهذا؟ لا بد ان خطأ وقع في مكان ما على الطريق بين التخطيط والدهاء والحساب. ويبدو ان المشكلة كامنة بعدم وجود سياسة ومشروع خاص بها فهي متأثرة أكثر مما هي مؤثرة. والوضع الطبيعي للمفعول به أن يجد نفسه متضررا دائما.
إيران تريد تعهدا ألا تكون هنالك ضربة عسكرية أمريكية ضدها، وتقبل مكانتها الجديدة كدولة مهمة، ومنتج طاقة نووية، والتسليم ولو المحدود بتأثيرها في العراق. الولايات المتحدة ترغب بتجميد التخصيب ووقف النشاط الإيراني “الذي يمس باستقرار العراق والمنطقة” بأعمال تتعارض مع الاستراتيجية الامريكية...لقد عرضت إيران سابقا هذا النوع من الصفقة عام 2003 ولكن الولايات المتحدة رفضتها في حينه. والآن تسعى هي اليها.
في الواقع هنالك تصريحات نارية من بوش وأحمدي نجاد وحرب نفسية دائرة. ولكنها ليست نفسية فقط فأمريكا تعد العدة لعدوان، ونحن لا نعرف إذا كان هذا الإعداد هو أيضا جزء من الحرب النفسية. كما لا نعرف هل هنالك تناقض بين خطاب تشيني الناري من على ظهر حاملة الطائرات في الخليج والقادم من عصر آخر كأن الحرب على العراق لم تقع ولم تفشل، وبين نشاط الخارجية الأمريكية التي تعد للقاء مع إيران في بغداد، أم انهما يلعبان دورين منسقين: دور الشرطي الجيد والشرطي السيئ في التحقيق؟
حتى لو كان هنالك خلاف فعلي وليس مجرد توزيع أدوار بينهما فثمة إدارة ورئيس يديران المشهد، والأرجح ان هنالك تنسيقاً لابتزاز تراجع إيراني، ولا ينقص بالطبع من يدرس كيفية التصرف الأمريكي لاحقا بموجب الرد الإيراني.. فرضوخ إيران يفرض خطوات تختلف عن تحديها الضغط الأمريكي. وفي الحالتين لا يوجد تخطيط عربي لكيفية التعامل مع صفقة أو تصعيد. فربما تكون المشاعر مع التصعيد الأمريكي ضد إيران أما المصالح فلا تحمد نتائجه، والمشاعر والمصالح ضد صفقة أمريكية إيرانية.
ونحن قادرون ان نتخيل ان تستقل هذه الدول بإرادتها على الأقل في منطقة بعيدة عن الحساسيات حتى مع إيران مثل رد على رفض مبادرة السلام “الإسرائيلية” تلتقي فيه المحاور العربية بعودة الى الموقف العربي الأصلي وليس بالتمسك ب”عملية السلام”، أو اتخاذ موقف حازم من المسألة اللبنانية يضع السلم الأهلي في هذا البلد فوق كل اعتبار. في مثل هذه الحالة يصبح لديها مشروع مستقل عن الولايات المتحدة وعن إيران بحيث يمكنها من تحديد مواقفها من سياستهما في لبنان بموجب مشروعها هي. فلماذا لا تتخيل هي أن تبادر في مكان آخر الى خطوات غير خاضعة للعبة الآخرين؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال هي نفس الإجابة عن السؤال أعلاه: كيف وجدت نفسها قلقة لأنها متضررة من كافة الخيارات المطروحة على أمريكا وإيران. الخليج