بقلم :جوزيف ئي. ستيغليتز -
الحكم الصالح يبدأ من البيت
هناك اتفاق أخوي قديم بين الولايات المتحدة وأوروبا يقضي بأن تتولي الأولي تعيين رئيس البنك الدولي وتتولي الثانية تعيين رئيس صندوق النقد.
يبدو أن قضية وولفويتز المؤسفة قد اقتربت أخيراً من نهايتها. وإنه لمن الصعب أن نتصور أنه قد يستمر لمدة أطول في البنك الدولي، ولقد حان الوقت للشروع في التفكير علي نحو أكثر تركيزاً بشأن مستقبل هذه المؤسسة. كنت قد أعربت منذ البداية عن انتقادي للطريقة التي اختير بها وولفويتز، وذلك لأنني طال ما عارضت الاتفاق الأخوي القديم بين الولايات المتحدة وأوروبا، والذي يقضي بأن تتولي الولايات المتحدة دوماً تعيين رئيس البنك الدولي وأن تتولي أوروبا في المقابل تعيين رئيس صندوق النقد الدولي. ويرجع تاريخ هذا الترتيب غير المعلن إلي وقت إنشاء مؤسسة بريتون وودز حين كان النظام الاستعماري ما زال قائماً، إلا أنه لم يعد من المنطقي أو المفهوم أن يستمر هذا الترتيب الغريب في القرن الواحد والعشرين.
ذكرت بعض التقارير أن زعماء أوروبا قد أكدوا للولايات المتحدة أنها إذا ما تمكنت من جعل وولفويتز يتنحي عن منصبه بسرعة وهدوء، فلسوف يسمحون لها باختيار خليفته. قد يكون من السهل أن نفهم رغبة الولايات المتحدة وأوروبا في الاستمرار في أداء الأعمال كالمعتاد، إلا أن مثل هذا الاتفاق يعني إهدار فرصة قائمة. ولا أستطيع أن أفكر في أية وسيلة لاستعادة الثقة في هاتين المؤسستين المهيبتين أفضل من اعتماد الشفافية والانفتاح في الوسيلة التي يتم بها اختيار رئيسيهما.
من بين الدروس المستفادة من مأساة وولفويتز أننا أدركنا مدي أهمية شعور الدول الأعضاء والموظفين في المؤسستين إزاء قيادة البنكين. لقد كان العالم متحيزاً ضد وولفويتز منذ البداية، بسبب تورطه في حرب العراق. إلا أن الناس كانوا علي استعداد لمنحه الفرصة. حتي أن بعض المحللين قالوا إنه قد يكون مثل روبرت ماكنمارا، وزير دفاع الولايات المتحدة الذي ساعد في إغراق الولايات المتحدة في مستنقع حرب فيتنام، إلا أنه بعد ذلك استخدم ولايته للبنك في التكفير عن أخطائه.
في بداية الأمر كانت هناك أسباب للتعلق بالأمل: ذلك أن وولفويتز كان قوياً في الدفاع عن مسألة الإعفاء من الديون ووضع نهاية لمعونات الدعم الزراعية. إلا أنه عين أيضاً عدداً من أصدقائه القدامي وحلفائه السياسيين الذين يفتقر أغلبهم إلي الخبرة في مجال التنمية وعزل نفسه عن العاملين تحت رئاسته، الأمر الذي أدي إلي تنفير وتغريب الأشخاص الذين كان في أشد الحاجة إلي دعمهم. وكما تعلمنا من قضية لاري سومرز أثناء دراستنا في جامعة هارفارد، فإن العلاقات داخل المؤسسات (ليس فقط مع الجهات المانحة والممولة) تشكل أهمية كبري. وفي هذا المجال بالتحديد لم يكن أداء وولفويتز طيباً، علي الرغم من كونه شخصاً ذكياً ودمثاً بكل المقاييس.
الأسوأ من كل ذلك أن وولفويتز لم تكن لديه رؤية شاملة لعمل البنك الدولي. فبدلاً من وضع إستراتيجية للتنمية، لم نجد سوي خطة لتوسيع برنامج مكافحة الفساد الذي أسسه سلفه جيمس وولفينسون.
باعتباري كبيراً لخبراء الاقتصاد أثناء ولاية وولفينسون للبنك الدولي، كنت قد أكدت أن الإخفاق في التعامل مع الفساد يعني المجازفة بتقويض النمو وإجهاض محاولات تقليص الفقر. وبعد أن تركت البنك كانت هذه الأفكار قد لاقت القبول علي نطاق واسع، وأسعدني أن وولفويتز أيد استمرار الجهود التي يبذلها البنك في هذا المجال. إلا أن قضية مكافحة الفساد كان من المفترض دوماً أن تشكل جزءاً واحداً من أجندة تنموية أكثر شمولاً. والحقيقة أن الافتقار إلي الكفاءة من الأسباب التي لا تقل خطورة عن الفساد في تقويض فعالية المعونات.
من المؤسف أن السياسة تدخلت في أجندة مكافحة الفساد التي تبناها البنك. فقد كانت هناك ضغوط تهدف إلي منح العراق المعونات المالية وهو البلد الذي يعج بالفساد بينما اتهمت دول أخري بالفساد دون تقديم أدلة قوية ووافية أو تفاصيل محددة. وهنا أيضاً أهدرنا فرصة هائلة. فقد كانت أهداف الحملة جديرة بالتقدير والثناء، إلا أنها تسببت في توليد العداوات والنوايا السيئة، الأمر الذي أدي إلي تقويض فعاليتها.
يتعين علي البنك الدولي أن يصر علي تبني أرقي معايير الأداء فيما يتصل بجهوده في دعم الديمقراطية والحكم الصالح: فلابد من التعامل مع اتهامات الفساد بجدية، ولابد من تقديم الأدلة إلي السلطات الوطنية لاستخدامها علي نحو منفتح وشفاف ومستقل. وهذه حقيقة لابد وأن يحرص خليفة وولفويتز علي الاستفادة منها. وإذا ما كنا نريد النجاح لحملة مكافحة الفساد فلابد وأن تتسم بالنزاهة والشفافية.
ويصدق نفس الحديث فيما يتصل باختيار رئيس البنك الدولي. وما زالت الفرصة متاحة لانتزاع النصر من بين فكي الهزيمة. فما زال بوسعنا أن نضع نهاية سعيدة لهذه القصة الملحمية الحزينة المؤسفة، إذا ما تم اختيار خليفة وولفويتز في عملية تتسم بالانفتاح والشفافية. وإنني لأتمني أن يكون هذا بمثابة الأمل في خير مستتر تحمله إلينا هذه السحابة السوداء المخيمة علي البنك الدولي.
*(حائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد. وآخر مؤلفاته كتاب بعنوان إنجاح العولمة )..
المصدر صحيفة الراية