الدكتور -عبدالعزيز المقالح* -
تأملات ليلية بلا كهرباء
قبل أيام، في التاسعة والنصف مساءً رنَّ جرس الهاتف، كان على الخط صديق مشاكس من النوع الذي لا تُملُّ مشاكسته سألني في البداية: ماذا تفعل؟ قلت له: أقرأ على ضوء ثلاث شمعات، واحدة منها توشك على الانطفاء، ثم سألته: وأنت ماذا تفعل؟ أجاب أقف أمام الطاقة «النافذة» أعد النجوم وأنتظر من أين سوف تهلُّ علينا الطاقة «النووية» فتقضي على هذا الظلام الذي يعجز عن تبديده هلال جمادى الأولى، وتعجز النجوم الغارقة في الفضاء البعيد عن تخفيف قسوته، ثم أردف قائلاً: متى تتحرر المدينة من حالة الانطفاءات المتكررة طوال الليل والنهار والتي وصلت ذروتها مع وزير الطاقة الجديد المعروف بنشاطه وأحلامه الكبيرة.
توقف الصديق قليلاً قبل أن يستأنف حديثه، قائلاً: مشكلتي أنني بعد الوعود الزاهية التي رافقت تشكيل الحكومة الجديدة سارعت الى إلقاء كمية الشمع التي كنت أحتفظ بها إلى الزبالة، وتركت الخزان الكهربائي للأولاد يلعبون به ويتعرفون على ما بداخله من أسلاك وبطاريات تختزن الطاقة الضوئية إلى الوقت المناسب لعلهم في يوم ما يتحولون إلى علماء في هذا المجال، بعد أن ظننت أنه لا فائدة من الشمع ولا من الخزان الكهربائي، وأننا قادمون على زمن بلا إطفاء، ولم يكن تشاؤمي المعهود يأخذني بعيداً إلى التشكيك في مصداقية الوعود الجديدة، علماً بأن الفترة الأخيرة أو بعبارة أوضح الشهور الأخيرة من حياة الحكومة السابقة كانت أزهى فترات الإضاءة في هذه القرية الكبيرة التي تدعى بالعاصمة، إذ لا أتذكر أن الإطفاء تم إلا لساعات محدودة في بعض الأيام.
أسعدني حديث الصديق المشاكس وتمنيت لو يطول، لكن الكهرباء عادت فجأة فأضاءت الحيَّ والمكان وتركني الصديق وذهب ليستمتع بما تبقى من مشاهد حلقة السهرة التي يتابعها بانتظام ويحرص على أن يروي لنا في بعض ساعات المقيل انطباعاته عنها، أما أنا فقد ذهبت إلى النوم الذي غلبني ولم يعد في مقدوري متابعة القراءة أو الكتابة، فضلاً عن مشاهدة التلفزيون الذي تبدأ علاقتي معه في التاسعة مساءً وتنتهي في العاشرة، ولذلك يؤلمني الإطفاء في هذه الساعة بخاصة أكثر مما يؤلمني الإطفاء طوال النهار، لأنها الساعة الوحيدة من الزمن التي أطل خلالها على أحداث العالم ومستجداته بالصوت والصورة، وكم نصحني الأصدقاء بشراء «موتور» صغير لإنارة الغرفة وجهاز التلفزيون لكنني رفضت النصيحة، لأنني أرغب في أن أشارك جيراني شعورهم وانفعالاتهم بحالات الإطفاء منذ سنوات !!
ولا أخفي أنني أبدد بعض ساعات الإطفاء في تأمل مشكلة الكهرباء التي يبدو أنه لا حل لها في جيلنا على الأقل، وأحياناً تقودني التأملات إلى موضوعات الاستنارة والتنوير الروحي والفكري والأخلاقي، وكيف أنه يستحيل تنوير الناس في زمن الظلام الذي ينبغي أن يختفي من المكان لكي يختفي من العقول والأفكار، ولعل تأخير الإنارة في اليمن بقصد أو دون قصد من أسباب تأخير الاستنارة العقلية وإضاءة النفوس، وللذين يربطون إنارة المدن بالعصر الحديث عصر الطاقة الكهربائية المحركة لأوسع الأنشطة الاقتصادية والعلمية، لهؤلاء نقول أن عليهم أن يقرأوا تاريخ المدن العربية الكبرى وكيف كانت شوارعها وأزقتها وميادينها مضاءة، حيث تنار ليلاً بمصابيح الزيت، وأن الاستنارة الروحية والعقلية التي أحرزها العرب لم تصدر عن الظلام الدامس.
وبالمناسبة، فإنه حيث يسود الظلام المادي والمعنوي يسود الفساد والغش والكذب ويترعرع النفاق وتنتشر الجرائم، وكان حلم العقلاء والمفكرين أن القرن العشرين سيكون نهاية عصور الظلام على الأرض، وأن الألفية الثالثة التي بدأت منذ سبع سنوات لن تأتي إلا وقد شملت الإضاءة المعمورة كافة، ويكون البشر في ضوء الأنوار الموروثة والمكتسبة قد شرعوا في التخطيط للعالم المثالي الذي أرادته الأديان وحلم به المفكرون والشعراء وبشرت به المخترعات الهادفة إلى تقريب المسافات وإلغاء الفوارق بين أغنياء العالم وفقرائه، وليست تلك المخترعات التي تعمل على تقليص مساحة الضوء ومساحات الخضرة، وبناء ترسانات الأسلحة المدمرة للأرض وللإنسان.
الشاعر الكبير محمد عبدالسلام منصور في إيقاعاته الغربية على شرقيات جوته:
في طبعة أنيقة راقية صدر الجزء الأول من «الديوان الغربي للشاعر الشرقي .. إيقاع على شرقيات جوته» للشاعر الكبير محمد عبدالسلام منصور، وبترجمته الألمانية التي قام بها الشاعر والباحث الألماني «ينز فنتر»، وقصائد الديوان بداية رائعة لإقامة جسر جديد بين الإبداع العربي والألماني من خلال إحياء جهود الشاعر الألماني الكبير جوته صاحب الديوان الشرقي الذي عبر فيه عن إعجابه وتأثره بالثقافة العربية، وقد جاءت قصائد الشاعر المنصور في المستوى المطلوب تعبيراً فنياً بديعاً عن تلاقي روح الشرق بالغرب، يضم الديوان 41 قصيدة، تتوزع على ثلاثة عناوين هي :«كتاب الحنين» و«كتاب الأغاني» و«كتاب الولادة».
تأملات شعرية
أوقفني في برزخ النور
وقال لي:
وعندما تكون غارقاً في ظلمة الشك
وليس في الأفق سوى سرابِ
ليلٍ معتمٍ،
تذكَّرَ الذي أضاءتْ باسمهِ
المياهُ والأكوانْ.
تذكَّر الذي أمدَّ هذا الكوكب الأرضي
بنهرٍ من شعاعهِ الفضي
زيَّنه بإيقاع النباتِ والألوانْ!
*الثورة