د. أكمل عبد الحكيم -
"شكراً لكم على التدخين"
تقام اليوم العديد من النشاطات والفعاليات التوعوية، على الصعيدين المحلي والدولي، ضمن احتفالات يوم الامتناع عن التدخين (World No Tobacco Day)، والذي يحل كل عام في الواحد والثلاثين من شهر مايو. ومنذ أن خصصت الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية هذا اليوم بالتحديد في عام 1987، ظل رمزاً للجهود الدولية الرامية إلى تسليط المزيد من الضوء على وباء التدخين، وهو الوباء الذي يحصد حياة أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون إنسان سنوياً. وضمن النشاطات والفعاليات المتوقعة، أعلنت هيئة الصحة في أبوظبي عن إطلاق حملة للتوعية بمخاطر التدخين بكافة أشكاله، مع الدعوة إلى منع التدخين في الأماكن العامة. وتسعى الهيئة من خلال هذه الحملة إلى خفض نسبة المدخنين في أبوظبي، والتي تشهد تزايداً مطرداً، وفقاً لتقارير لمنظمة الصحة العالمية. حيث وصلت نسبة المدخنين الذكور إلى 24.3% في الفئة العمرية بين 13 و15 عاماً، لترتفع إلى 42% بين الذكور الذين يزيد عمرهم على 17 سنة.
وبما أن التدخين وآثاره، موضوع ذو جوانب عديدة، سنقتصر هنا على العلاقة بين الأفلام السينمائية، وبين انتشار التدخين بين المراهقين. تفاصيل هذه العلاقة يظهرها فيلم أميركي، بعنوان "شكراً لكم على التدخين" (Thank You For Smoking). ومنذ إطلاقه في مارس من العام الماضي، حصل هذا الفيلم على ست جوائز سينمائية، ورشح لخمسة عشرة أخرى. وتدور أحداث الفيلم الخيالية، حول حياة المتحدث الرسمي لـ"لوبي التبغ" (Tobacco Lobby)، أو جماعة الضغط العاملة لحساب صناعة التبغ في الولايات المتحدة. ويظهر الفيلم كيف يعتمد هذا الشخص وبشكل أساسي، في تأديته لوظيفته اليومية، على التشكيك في الحقائق المتعلقة بسلبيات التدخين، وعلى تحويل أي نقاش جاد حول أضرار التدخين على صحة الفرد وعلى المجتمع إلى مبارزة من الجدل السفسطائي اللانهائي. ومثل هذا الأسلوب، يؤمن الكثيرون بأنه متطابق مع فلسفات غالبية جماعات الضغط العاملة في المحيط السياسي الأميركي، بما في ذلك اللوبي الصهيوني. وهو ما بدا واضحاً من فيلم وثائقي آخر بعنوان "الحقيقة المزعجة" (An Inconvenient Truth)، لنائب الرئيس الأميركي السابق آل جور. في هذا الفيلم يعرض "آل جور" مذكرة داخلية، يؤكد فيها المتحدث الرسمي لجماعات الضغط المعارضة لنظرية الاحتباس الحراري العالمي، على أن (الشك هو بضاعتنا). وبخلاف استخدام وسائل الإعلام لزرع الشك في سلبيات ما تروج له، يظهر فيلم "شكراً لكم على التدخين"، حقيقة أخرى أكثر رعباً وإثارة للقلق، وهي استخدام وسائل الترفيه لإضفاء صفات إيجابية، وجاذبية جنسية أحياناً، على عادة التدخين. فمن خلال صفقة بين بطل الفيلم وإحدى شركات الدعاية، يتم الاتفاق على تغيير سيناريو الفيلم بالكامل، بحيث ينتهي بموقف جنسي مثير بين اثنين من أكبر مشاهير هوليوود، يختمانه بإشعال سيجارتين، ونفخ دخانهما في الهواء على شكل حلقات. هذا الجزء بالتحديد، نجده يتكرر في مئات الأفلام. فلسبب أو آخر، يفضل المخرجون الربط بين الجنس ولذة التدخين، على رغم أن العديد من الدراسات العلمية قد أثبت وبشكل قاطع، أن النيكوتين يؤدي إلى ضعف القدرة الجنسية.
هذا التأثير الهائل للأفلام السينمائية على معدلات التدخين، وخصوصاً بين المراهقين، يمكن أن إدراكه بسهولة إذا ما أجرينا مقارنة تاريخية بسيطة عن حجم إنتاج السجائر في الولايات المتحدة، وبين العلامات الرئيسية في تاريخ السينما. ففي عام 1910، كانت الولايات المتحدة تنتج عشرة مليارات سيجارة في العام الواحد، وبحلول عام 1930 ارتفع معدل الإنتاج السنوي إلى 123 مليار سيجارة. أي أنه في عقدين من الزمان فقط، تضاعف إنتاج السجائر بأكثر من اثني عشر ضعفاً. وما حدث في هذه الفترة، هو أن السينما تحولت من الأفلام الصامتة إلى الأفلام الناطقة، مما جعل الذهاب إلى السينما أكثر شعبية كنشاط اجتماعي ترفيهي. وتصاحبت هذه الشعبية الواسعة للسينما، بزيادة هائلة في تعرض المتفرجين، وخصوصاً المراهقين منهم، لمشاهد من التدخين المستمر، وغير المنقطع، من الأبطال والبطلات، ومن النجوم والنجمات. ولذا عمدت صناعة التبغ دائماً، ومن خلال الأسلوب المعروف بـ"حشر المنتج" (Product Placement)، إلى دفع منتجاتها على جميع أنواع الشاشات، الفضية منها وغير الفضية. ففي هذا الأسلوب، يتلقى منتجو الفيلم مبالغ مالية طائلة من الشركات، مقابل أن يقوم البطل أو البطلة بركوب سيارة معينة، أو شرب عصير خاص، أو الإقامة في فندق ما، أو تدخين عدة سيجارات، وبغض النظر عن نوعها أو ماركتها طالما ظلوا يدخنون، حتى آخر نفس، أو آخر لقطة في الفيلم.
وأمام هذه الأرقام، والإحصائيات، وممارسات الحشر والدفع، اتجهت عدة دول إلى الأخذ بعدد وطول فترات التدخين في الفيلم، ضمن المعايير المتبعة لتصنيف الأفلام، مثل العنف والجنس والألفاظ البذيئة، من حيث ملاءمتها لفئة عمرية محددة. بل ذهبت بعض الدول إلى أبعد من هذا، مثل الهند، التي يسعى البعض فيها لمنع التدخين تماماً في الأفلام الجديدة، مع إرفاق تحذير عن مضار التدخين مع الأفلام القديمة التي أنتجت قبل بدء الحظر. ويأمل هؤلاء من هذا الحظر، أن يؤدي إلى خفض عدد الوفيات الناتجة عن التدخين بين الهنود، والتي تتخطى الـ800 ألف وفاة سنوياً. أما بالنسبة لصناعة السينما العربية، فليس من الواضح إذا ما كان أقطابها قد سمعوا بعد، عن أن التدخين يقتل ويقتل الكثيرين. الاتحاد