هشام سعيد شمسان -
بُنى السرد ووقائع التشظي في"أنوات" الشاطبي (2-2)
*التمظهرات الإخلالية اللغة، و السياق
لعل أهم ما يلفت الناقد الجاد – عند تفحص أعمال بعض الكُتّاب لا سيما التسعينيون منهم، هو طموح الفكرة العجلى، والفكرة النزوة. ولعامل الشهرة، واستعجالها يتدافع كثير من الشباب إلى مطابع النشر غاضين الطرف حتى عن أبسط الأشياء أهمية وهو التدقيق اللغوي، والطباعي، فما بالك بالسياق التركيبي، والنسقي لهذه اللغة. بما يجعلني أؤكد على أن ما نسبته (70%) من هذه الأعمال: شعراً، ونثراً، وسرداً، بحاجة إلى إعادة ترميميَّه؛ بل أن جزءاً من هذه النسبة بحاجة إلى إفنائها حرقاً. فأكثرية هؤلاء إنما يعانون من سوء علاقة بينهم واللغة العربية التي يكتبون بها، ثم هم يأنفون من استشارة أولي العلم من الزّملاء، والأصدقاء لمساعدتهم على تخطي المستوى الانحرافي اللغوي – على الأقل – فماذا لو أضفنا إلى المستوى السابق أخطاء الطباعة التي أضحت سمةَ زُخرفية لدى بعضهم، ممن لا وقت لديه لمراجعة ما كتب، ويخضلُّ حياءً إذا ما فكرَّ بإسناد هذا الأمر لأكثر من صديق خوفاً من اتهامه بالقصور.
فوجئت بأحدهم يقول: الهنات اللغوية، والطباعية، أخطاء موضوعية ( ظاهرية )، وإنما الاهتمام مركزهُ الداخل ( منطقة الوقائع، والأفكار ). وأقول: الأدب إبداع، وموضوعه هو "اللغة"، والنص في الأدب هو حضور لغوي مهمته نسج منطقة الوقائع، والأفكار النصية، وإلباسها الثوب الملائم ( الخارجي).
إن نصاً يرتدي لغة رثة الهيئة أشبه بعامل أشعث ذي رداء رثٍ يقف أمام محل لبيع الملابس الجديدة داعياً المارين للشراء من محله. وهذا مما يثير السخرية حقاً.
* أمامنا الآن مجموعة قصصية لا تزيد صفحاتها الفعلية عن إحدى وخمسين صفحة هي مجموعة "الأنوات" للشاطبي، قمنا بمحاولة إحصائية للأخطاء، والهنات، والانحرافات اللغوية، والسياقية فوجدنا أكثر من تسعين انفلاتاً أخلالياً تمظهر على المستوى: اللغوي، والسياقي، والطباعي، وسوف نكتفي – هنا – بإبراز القليل منها – على سبيل التمثيل وحسب لا الحصر – ونترك البقية لقارئ المجموعة لاكتشافها بنفسه.
فعلى الحقل النحوي والصرفي، والطباعي نور هذه الأمثلة:
وجهتُ عيناه/ فيما الحذر/ قَدَّر اعدائك/ ستنجب أربع وعشرين/ استعرت حذائه/ لا أستطيع إحصائها/ لم تنتابني/ تدخل شيئاً ممتلئ/ لم أحصيها/ تموت مدرس دانق/ هذا خطاء/ اكتشف الخبراء اليمنيين/ ثلاث ألف عام/ يمط عيناه/ لم يألو/ غنِّي/ الثانية عشر/ أديباً ذي مجد.
وعلى مستوى آخر نجده – مثلاً – يقوم بتذكير المؤنث نحو لفظ "الأنا" بجعله مذكراً، والصواب هو أن " الأنا" تؤنت فتقول: الأنا الأولى.. الثانية.. لا "الأنا" الأول" ..الثاني....الخ.
أو يقوم بتذكير المؤنث نحو "الطريق" يقول في صـ(31) " يدوس كرامة الطريق، ويصفع بلحيته هواه، وينهب جوانبه" فقد جعل الضمير مذكراً في "هواه، جوانبه" العائدتين على الطريق، والأفضل أن يؤنث..
وقد يذكِّر تارة ويؤنث والملفوظ الواحد، كما في نص "الأنوات" حين جعل الأنا الأولى و الثانية، والثالثة " مذكرةً" وتجيء الأنا الرابعة " مؤنثة".
أما على مستوى السياق الوقائعي للسَّرد، والسياق التعبيري للمعنى فَأُورد هذه الشواهد:
"وحينما بلغت رائحة شمها أنوف الأقارب صرعتْ باب الدكتور " ( عاصفة جنوبية).
والشاهد – هنا – قوله " صرعت" الذي يريد به الكاتب: "القصد" الذي يصاحبه السرعة، لكن التعبير في حقيقته لا يعطي هذا المعنى، لأن من معاني " صرع الباب" جعل مصراعين له، ومن معاني "الصرع" الطرح أرضاً.
في نفس النص يأتي هذا التعبير: " أغرق يديه في مساماتها" وأراد بذلك تحسس المناطق الغائرة في الجسد بقصد الإيحاء الجنسي، لكن إغراق اليدين في المسامات يخرج بالمعنى الإيحائي عن قصديته لتباعد العلائق المنطقية بين المسامات ( الثقوب الصغيرة جداً في الجسم نحو ثقب منبت الشعر – مثلاً -) والثغرات الجسدية.
وفي نص "السباعية" نصطدم بهذا السياق: " لأجل أن أطبع الكتاب وأحوز في الشهرة".. ولا يخفى على القارئ مدى عبثية التعبير في " أحوز في الشهرة"، ولو كان قال – مثلاً – على الشهرة " لكان مقبولاً إلى حد ( ما )، لكن مقتضى السياق يوجب التخلص من هذه الحروف، لأن "حاز" من الألفاظ التي تتعدى بذاتها إلى غيرها، دونما الحاجة إلى واسطة؛ فيكون الصواب: " أحوز الشهرة".
وفي نص ( المعركة...) يقابلنا هذا السياق: " واستسلم لأحلام الشهرة حتى نام: متناسياً عدو أوراقه "الشمعة".. وأراد الكاتب بـ(التناسي) النسيان غير المتعمّد، بينما جاء التعبير مضاداً لمار أراده لأن التناسي مثله مثل "التغابي" بما جعل من السياق انكسارياً رثاً.
على مستويات أخرى ( وقائعية سردية) نمثل بنص "فوق السطوح"، وبه تحدث عملية تخطِّ للموضوع المسرود انتهاء النص، بالانتقال إلى جزئية ثانوية ختامية، دون عودة إلى الأصل، ويكفي أن نقول بأن النص بذاته أميٌّ لسرده فكرة جنسية مراهقة لشخص يمارس العادة السرية ( ولا تعليق ) .
ويدخل تحت مفهوم التخطي مفهوم آخر هو عدم إحكام الربط الفكري بين وقائع السرد، كما في قصة ( أحلام باردة) التي تتناقض على هذا المستوى، ويمكن توضيح ذلك بتفكيك عناصر النص فكرياً إلى العناصر الآتية:
طفل فاشل في دراسته، رافض لها.
رؤيته للكون ، والناس رؤية فلسفية تقوم على صوابية التفكير.
أحلامه كبيرة جداً.
منتهى أحلامه: عدم التزوج، طواف العالم. خلق عالم جديد.
وتتمظهر لنا الانفلاتات التخطية للنص بمقارنة الفشل الدراسي، والرفض للمدرسة بـ( الرؤية الصوابية للكون، والناس) ثم بمقارنة تلك الصوابية الرؤيوية للعالم مع الأحلام الكبيرة جداً وسذاجة تلك الأحلام الكبرى، وعدم منطقية بعضها مع الصوابية الرؤيوية للكون، والعالم، فـ( عدم التزوج – مثلاً – يناقض تلك الرؤية، والأحلام الكبرى تناقض مع سذاجة بعضها، وهي طواف العالم –مثلاً- وقد كان على الكاتب أن يوائم بين وقائع السرد كيما تؤدي إلى التضام، والتراتب الذي يقبله منطق السرد.
ومن النصوص ما يتكرر فيها ا لمجال النسقي للفكرة، كما في قصة "الأنوات" التي يحاول من خلالها القاص الإيتاء بسبع متباينات من الأنوات، لأنا رئيسية واحدة. لكننا بتتبع سياقات النص لا نجد أكثر من أناتين، الأولى تتجسد في الأنوات ( 1 ، 3 ، 5 ، 6 ، 7). بدليل إشراك هذه الأنوات جميعاً في مفاهيم واحدة نحو: الشبق الجنسي، وحب السرسرة، والصياعة ( كما يعبر الكاتب بذلك).. والثانية تتجسد في الأناتين ( 2، 4) بدليل أن كلاً منهما تلهث وراء الشهرة. كأن يصوّر " الأنا الثانية" مصابة بهوس الشهرة، بينما "الرابعة" تقوم بسرقة أفكار الأنا الأولى، والهدف آخراً متحد.
وبالنظر – إجمالاً – إلى هذا النص نراه يحاول إبراز " الشتاتية" وعقدة الثقة في النفس.
* ومن هنات التجانس على مستوى اللغة الأدبية أن الكاتب يوحِّد ما بين اللغة الأدبية – التي يجب أن تخضع لشروط الانتقائية بالتخير الفصيح للفظ المعرب – واللهجة العامية بجعل الأولى مرادفة للثانية حيناً، والفصل بينهما في مواضع أخرى، فلا يحدد القاص مساراً لهذه وآخر لتلك، كأن يجعل الأولى موضوعاً للسرد الوصفي، والأخرى موضوعاً للحوار. لكن الكاتب – للأسف – لا يلتزم بقانون لغوي يسير على ضوئه، ويحدّد – بالتالي – موقفاً من اللغة الساردة. إذْ الخط العام للنصوص يقول لنا إن الكاتب إنما يريد بأن تكون الفصحى لغة سرده. لكن مزجه بين عامية ، وفصحى دون قانون ( ما ) يجعل من القاص مطالباً بإعادة النظر فيما يكتب.
ولتقريب ما نقوله عن القاص ولغته نمثل بنص " سباعية الأنا" . فهذا النص يحدد سرده الموضوعي (الوصفي ) بـ( الفصحى)، وتأتي سرديات ( الأنوات) بالعامية. وهذا مقبول حتى الآن. لكن بعض الأنوات تأتي بنيتها الحكائية بالفصحى كالأنا الثانية – مثلاً – والسارد الخارجي يجيء حيناً سارداً الحكاء بالعامية، كما في الأنا الخامسة التي نصّها الآتي:
" أما الأنا الخامس فواحد وقح، زباج، حقود، وحسود، جاحد، يعجبه مهاوزة البنات، يلعب عليهن بالخرط، والهلس.. ولكن فيه حاجة كويسة.." ( الأنوات).
ويكون من العيب أن يهبط السرد الوصفي (الخارجي) إلى هذا المنزلة من العياء، والابتذالية، والأحسن هنا – أن ينمط الكاتب نفسه ، بالدخول معطف السرد الشعبي ( الدارج ). فهذا أحمد له، وأجود، لا أن يخادع القارئ، فلا يدري -أخيراً – كيف يصنف المقروء.
الهوامش:
* صدرت أول مجموعة قصصية للكاتب عام 2000م ، عن نادي القصة اليمنية.
(1) بعد عدد من الإصدارات السردية، رواية، وقصة، تجاوزت السبع، وبعد سبع سنوات على إصداره الأول ما زال القاص يكرر عن نفسه ذات المقول؛ ووصل إلى حدِّ أنه لا يرغب في إهداء ما ينشره إلى بعض النقاد، والأصدقاء، خوفاً، وتردداً مما قد يقال في مضمون تلك الكتابات، وهو ما يجعل من منشوراته السردية نادرة الحصول عليها، الأمر الذي يطرح أكثر من تساؤل حول ما يكتبه الشاطبي، ولمن يكتب إذا؟
(2) لا نستطيع أن ندرج هذه "الثلاث" تحت مفهوم "مراهقة الفكرة" لتعاليها على هذا المفهوم، والجنوسة وإن تجسد هاجسها في نحو هذه النصوص، إلا أنها لم تكن موضوعة رئيسية.
(3) يجب أن ينتبه القارئ إلى أن العبارة المهداة أعلى النص ليست من تعابير الكاتب ومسروقة نصّاً عن القاص أحمد الزين في إهداء له لأحد زملائه.