عمار علي حسن - من أخطاء «الحركة الإسلامية» وخطاياها بوسع أتباع «الحركة الإسلامية» المعاصرة أن يقدموا للسياسة ما هو أفضل وأكثر نفعا، من مجرد انتظار الحكم، أو التوسل بأدوات عدة للقفز إليه، وبإمكانهم في الوقت نفسه أن يقدموا للدين ما يحفظ له جلاله وقدسيته، ويبعده عما ألقته الممارسة السياسة على كاهله من أعباء جسام طيلة التاريخ الإسلامي، فيحققوا لأمتهم ما تحتاجه بالفعل، ولأنفسهم ما يقيهم من تغول مناوئيهم وشرور المغرضين منهم، الذين يستخدمون الدين في تحقيق مآربهم الشخصية، دون ورع، أو خوف من لوم الناس.
فالسياسة تبدو في خطاب «الإسلاميين» دائرة في فلك «القوة الصلبة» أو «الخشنة» التي تعني الاهتمام بالركائز العسكرية والاقتصادية للقوة. ومن ثم سعت «الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي» إلى امتلاك هاتين الركيزتين، فكونت تنظيمات سرية، دججتها بالسلاح، وقوت ساعدها بالتدريب القتالي، لتدخل في مواجهة دموية مع الأنظمة الحاكمة. وعلى التوازي دخلت هذه الجماعات إلى عالم المال، لتستزيد منه، وتوظفه في خدمة أهدافها السياسية، فبدت بذلك خصما من رصيد مجتمعاتها وليست إضافة إليه.
أما لو ركزت هذه الجماعات على تحصيل «القوة الناعمة» أو «السلسلة» في جانبها المتصل بتعزيز التماسك الأخلاقي للجماعة، وتحقيق الامتلاء الروحي للأفراد، وإبراز ما في جوهر الإسلام من قيم إنسانية حياتية إيجابية، وما أكثرها وأعمقها، لبدت في هذا إضافة إلى مجتمعاتها، لأنها ستوفر لها رموزاً وأشياء هي في أشد الحاجة إليها في الوقت الراهن، بل إنها ستسهم في تعزيز وزن العالم الإسلامي في النظام الدولي، الذي تمتلك القوة الكبرى فيه من الموارد الصلبة للتفوق الكثير، حيث الآلة العسكرية الجبارة والاقتصاد الضخم، لكن ينقصها التماسك الأخلاقي والطاقة الروحية، حسبما يصف علماء السياسة الأميركيون بلادهم.
لقد ضيع الإسلاميون وقتا طويلا في الهرولة وراء السياسة في أبعادها العليا، الملاصقة تماما لظاهرة السلطة، مع إهمال دائم للجوانب «القاعدية» للممارسة السياسية، والمتصلة بالموارد الناعمة للقوة، من سلطان المعرفة وجلال الطاقة الروحية، والتمسك بالفضائل الاجتماعية، والقيم العظيمة التي يرسخها الدين الإسلامي.
وطيلة هذا الوقت يدفع من يرفعون من الإسلام شعارا سياسيا ثمن تصورهم المنقوص، ويخسر الدين نفسه مساحات يمتلك بنصه المقدس أن يملأها، فتزداد فاعليته في الحياة، في وقت يتعرض فيه لضربات من كل حدب وصوب.أما المسألة الثانية فترتبط بضرورة التخلي عن ما يترتب على «الحتميات التاريخية» من أوهام.
فمعتنقو الأيديولوجيات السياسية ينحازون دوما إلى حتميات تاريخية، تنتهي بانتصارهم في خاتمة المطاف فالشيوعيون اعتقدوا أن دكتاتورية البروليتاريا ستحكم في النهاية، وبعض الليبراليين يتصورون أن الرأسمالية والديمقراطية هما «نهاية التاريخ وخاتم البشر»، لكن كلا الاتجاهين لا يؤسس تصوره الخاطئ على معتقد ديني كما تذهب «الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي»، والتي لا تختلف هنا كثيرا عن «اليمين المسيحي المتطرف» أو «اليهود الأرثوذكس»، فالجميع يتوهم أن الفوز سيكون من نصيبه في صراع الحياة المرير.
وإذا كان من اليسير تفنيد بعض ما يعتنقه أصحاب الأيديولوجيات السياسية الخالصة، فإن نقد ما يذهب إليه من يخلطون الدين بالسياسة أصعب وأكثر تعقيدا. فهؤلاء يلبسون تصورهم البشري ثوبا مقدسا، ويصفون ما يدور في أذهانهم بأنه تعاليم إلهية، وأوامر ربانية، ومن ثم يكون على من يخالفهم الرأي عبء مضاعف، لأنهم سيتهمونه بالكفر أو على الأقل الفسوق والعصيان، وقد يستحل بعضهم دمه، وسيثيرون المجتمع ضده، في محاولة لإضعافه أو إسكاته.
فما طرحته الشيوعية عن حكم البروليتاريا، وما ذهب إليه ليبراليون بحديثهم عن أن ما وصلت إليه المجتمعات الرأسمالية في الوقت الراهن هو أرقى نظام اجتماعي وسياسي، ولن يكون بوسع البشر في أي مكان أن يبدعوا ما هو أفضل منه، لاقى انتقادات لاذعة ودبجت في تفنيده آلاف الدراسات.
لكن ما تعتقده الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي حول عودة الخلافة الإسلامية في النهاية، بعد مرور التاريخ الإسلامي بمراحل من الملك العضوض والجبريات أعقبت الخلافة الراشدة، يخشى كثيرون من التصدي له نقدا، لخوفهم من هجوم هؤلاء المسند بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، يؤولونها حسب ما تقتضيه مصلحتهم، مع أن نقد هذا التصور، الذي يخالف فكرة الدورات الحضارية المبرهنة تاريخيا، يبدو مهما في الظرف الراهن، ومع أن هذا الاعتقاد مؤسس على حديث موضوع، نسب زورا إلى رسولنا الكريم، الذي نزل إلى الناس بدين عظيم، وكان رحمة للعالمين.
فإيمان الإسلاميين بحتمية عودة الخلافة ـ رغم أنها نظام حكم أنتجته القريحة والبصيرة الصائبة لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به رب العزة سبحانه وتعالي ـ طالما قادهم إلى معارك مريرة، مسلحة تارة وفقهية تارة أخرى، استنفدت على وجهيها جهدا كبيرا كان يمكن استخدامه في تطوير أفكار الحركة الإسلامية، بما يؤهلها لطرح برامج عصرية للحكم، ويفرض دمجها في الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، وكان أيضا يمكن استخدامه في تشخيص داء التخلف المادي والفكري الذي يعاني منه المسلمون حاليا، حتى يكون بمقدرتهم وصف الدواء الناجع، الذي يعيد إليهم ولو جزءاً من قوتهم الحضارية التي غربت منذ قرون.
إن التعلق بآمال عريضة والتمسك بغايات سامية مسألة ضرورية، لإعطاء الحركة في الواقع المعيش زخما أكبر وتصورا أعمق وإصرارا أشد، شريطة أن تكون هذه الآمال وتلك الغايات قابلة للتحقق، وليست مجرد أوهام تتبدد حين يتم وضعها محل اختبار عملي.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بما يمكن أن نسميه «التماثل لا التمايز»، أي الاندماج في المجتمع، وعدم تكفيره، أو احتقاره ونعته بالجاهلية ، وفي المقابل وصف أتباع الجماعات الإسلامية بأنهم الفئة المؤمنة أو المسلمة أو الناجية وغيرهم دون ذلك. وهي الآراء التي بلورها سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، وأكملها شقيقه محمد قطب في «جاهلية القرن العشرين».
وطبقها بالفعل شكري مصطفى، أمير «جماعة المؤمنين»، وحمل اسمها تنظيم نشأ في الثمانينات من القرن المنصرم، وهو «الناجون من النار». ولقد دحضت هذه الرؤية حتى من بين فصائل الحركة الإسلامية ذاتها، فرد حسن الهضيبي، المرشد الثاني في تاريخ الإخوان على سيد قطب، بكتاب «دعاة لا قضاة»، وتخلت الجماعة الإسلامية عن هذا التصور في كتاب «حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين».
لكن لا تزال المسألة بحاجة إلى جهد، يضمن عدم العودة إليها مستقبلا، نظرا لخطورة هذه النزعة، حين يسعى أصحابها إلى ترجمتها في الواقع المعاش.
*نقلا عن جريدة "البيان" الإماراتية
|