د. رضوان السيد - وقائع التفكُّك في باكستان ما توقّفت الاضطراباتُ في باكستان منذ اقتحام الجيش للمسجد الأحمر وجامعة حفصة المجاورة بلاهور. وقد اتخذت إحدى ثلاث صِيَغ: استمرار التمرد في جبال القبائل بوزيرستان والمناطق المجاورة، والتظاهرات المسلَّحة في المدن التي تتطور إلى اشتباكاتٍ مع الجيش، والهجمات الانتحارية والسيارات المفخَّخة. وقبل خمسة أيام، وعلى مقربةٍ من كويتا هاجم مسلَّحون قافلةً للجيش وقتلوا أربعة عشر جندياً دونما معلوماتٍ عمّا وقع في صفوف المهاجمين من إصابات.
وهذه التطورات حاسمةٌ لأنها حفلت بالصدامات المباشرة مع الجيش؛ في حين كان الأمر سابقاً مقتصراً على الاصطدام بقوات الأمن في المدن، والردّ على هجمات الجيش في الجبال. ولذلك فإنّ الاعتصام بالمسجد الأحمر كان مرحلةً أُخرى من مراحل الصراع الأصولي مع حكم الرئيس برويز مشرَّف، الذي ما زال الأصوليون والمتشددون يسعون لإسقاطه منذ عام 2003.
وكانت شهورُ عام 2007 قد شهدت بُعْداً آخَر من أبعاد الصراع بين حُكم مُشرَّف وفئات المجتمع الباكستاني. فقد بادر الرئيس مشرَّف إلى عزل رئيس المحكمة العليا القاضي افتخار تشودري بحجة فساده وعدم نزاهته. وقيل وقتَها إنّ سببَ ذلك خوف الرئيس من الشكاوى التي جرى التقدُّمُ بها للمحكمة العليا ضدَّه، وهي تتلخَّصُ في نوعين: الشكاوى التي تتركز على جمعه بين رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وهذا مخالفٌ للدستور.
والشكاوى التي ترمي إلى حرمانه من الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية بعد انتهاء مدته في ربيع عام 2008. وقد أعقب قرار العزل ثوران في أوساط المحامين والقضاة وفئات المجتمع المدني الأخرى، بدأ بتظاهُراتٍ في المُدُن، وتحول إلى مهرجاناتٍ خطابية قادها تشودري نفسُه في كثيرٍ من الأحيان، وطالبت بإعادة تشودري تارةً، والعودة إلى الديمقراطية تارةً أُخرى. ومن هذا الباب عادت الأحزابُ السياسيةُ التقليدية: حزب الشعب (بوتو)، وحزب الرابطة الإسلامية (نواز شريف)، وأحزاب أُخرى إثنية ومحلية. وقد أجمعت كلُّها على الدفاع عن استقلالية القضاء، والمطالبة بالعودة للديمقراطية والحكم المَدَني.
وقد كان هذا التطور نوعياً لأنه يتمايزُ عمّا كان عليه الأمر منذ الغزو الأميركي لأفغانستان أواخر عام 2001. إذ منذ ذلك الحين تسلَّم الأصوليون الزِّمام بالهجوم على الرئيس لتحالُفه مع الولايات المتحدة، وتسلَّموا الزمام بالدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية في البلاد. والذي يبدو أنّ الثوران المدني بسبب عزل تشودري، ورفع راية الديمقراطية؛ ما أزعج مشرَّفاً وحسْب؛ بل وأزعج أيضاً الأُصوليين الذين لا يَرَونَ أولويةً لغير الخروج من الظلّ الأميركي، واستعادة حكم "طالبان" بأفغانستان، وإقامة الحكم الإسلامي في باكستان. وقد حاولت "القاعدة" خلال السنوات الخمس الماضية ثلاث مرات إنهاءَ حكم مشرَّف باغتياله دون جدوى. وحاول هو من جهته التوصُّل إلى تهدئةٍ مع البشتون والبلوش في الجبال بانسحاب الجيش منها.
وأدرك الجيش منذ البداية خطورةَ الاعتصام بالمسجد الأحمر، لأنه قد يعني ثورةً عامةً في المدارس الدينية بالبلاد، والتي كانت تشكو شكوى مُرَّةً من تضييق الحكومة الشديد عليها. لذلك ما صبر الجيش أكثر من أسبوعٍ واقتحم المسجد موقِعاً أكثر من مئة إصابة في أوساط المعتصمين المسلَّحين وبعض الطلبة والطالبات. ولكي تبدو الحالُ طبيعية فقد أعاد الجيشُ افتتاح المسجد والجامعة المجاورة، ثم أدرك خطأ ما فعل عندما أقبلت مئاتٌ محاولةً التجمهر والاعتصام من جديدٍ فيهما.
وخلال عمليات الكرّ والفرّ حدث أمران آخَران ذوي دلالة: أصدرت المحكمة العليا قراراً بإعادة تشودري، وأيدت بنظير بوتو زعيمة "حزب الشعب" تحرُّك الجيش ضدّ الأصوليين، ودعمت الجنرال برويز مشرَّف، الذي كان قد نفاها من البلاد منذ عام 2000. وتوقفت التحركات المدنية من أجل الديمقراطية واستقلال القضاء في الشارع؛ في حين اشتعلت المعارك في جبال القبائل بعد الإعلان عن نهاية الهدنة، واستمرت الصدامات المسلَّحة والهجمات الانتحارية ضد الجيش في المدن والأرياف.
وفي حين تذمَّرت الإدارة الأميركية قليلاً من جراء عزل تشودري، رحَّبت بقمع الأصوليين، لكنّ أوساط وزارة الدفاع عادت في الأسبوعين الأخيرين للتهديد بالإغارة على القبائل والأصوليين بالجبال داخل باكستان إن لم يقض الجيشُ على الملاذات الآمنة لـ"القاعدة" و"طالبان" هناك. وهذا كلُّه في الوقت الذي أعلنت فيه "طالبان" من أفغانستان أنها لن تدعم الأصوليين بباكستان، لأنها مشغولةٌ بحرب التحرير في أفغانستان ذاتِها!
والواقع أنّ هذه هي المرة الأولى في تاريخ باكستان، التي يفقدُ فيها الجيش كلَّ مرتكزاته الاجتماعية، على كثرة ما تولَّى جنرالاته السلطة. فالخصوم التقليديون للجيش في البلاد، قبل الصعود الأصولي هم زعماء الأحزاب السياسية. وقد خاصم الحزبان الرئيسيان: الرابطة الإسلامية (نواز شريف الذي نفَّذ مشرَّف عليه الانقلاب عام 1999)، وحزب الشعب (بنظير بوتو) حركة مشرَّف منذ البداية.
وفي الانتخابات الأخيرة (عام 2004) استطاع الرئيس إحداث انشقاق في حزب الرابطة، واستحدث حزباً سمّاه: الرابطة الإسلامية، جناح قائد أعظم. ويضافُ لذلك الاستعانة بحركة المهاجرين، ومُهادنة الحزب الإسلامي الرئيسي بالبلاد: الجماعة الإسلامية (وزعيمُها منذ وفاة المودودي عام 1979: القاضي حسين أحمد).
فالوضعُ الآن بعد التصادمات مع سائر الجهات: نفور كلّ القوى السياسية التقليدية من مشرَّف، وثورة الإسلاميين المتشددين عليه، وخلافه الحاد مع القوى القبلية، واستمرار ضغوط الولايات المتحدة عليه ليس من أجل الديمقراطية؛ بل من أجل التشدد مع القبائل، ومع الأصوليين! والمعروف في مثل هذه الحالات أن يتخلَّى الجيش عن السلطة للمدنيين من جديد، أو أن يغيّر وجهَهُ بالاستغناء عن قائده.
لكنّ الصحفي الباكستاني المعروف مختار حسين يقول إنّ مشرَّف شديد الطموح، وقدر غيَّر من تركيبة كبار الضباط بحيث يستحيل الانقلابُ عليه. وفي الوقت الذي تشعرُ فيه قوىً كثيرة أنّ الثوران الأصوليَّ يهدّدُ بفرط الدولة، فإن الحاجةُ إلى الاستقرار شديدة بحيث لا يجرؤ زعيمٌ تقليديٌّ أو إسلاميٌّ معتدلٌ على الإلحاح في طلب الديمقراطية خشية الاضطراب. أمّا جيرانُ باكستان (باستثناء إيران) فإنهم جميعاً (وبينهم الروسُ والصينيون والهنود) يخشون الانتشار الأصوليَّ الواسع إن ضعُفت السلطة بباكستان أو انفرط عَقْدُها.
قبل أُسبوعين، ومع استمرار سقوط عشرات القتلى بين الجيش والمتشددين، قام الجنرال برويز مشرَّف بزيارة المملكة العربية السعودية. وقابل أيضا بنظير بوتو التي أعلنت عن تأييدٍ متحفظٍ له؛ في حين رفض نواز شريف الإدلاء بدعم عَلَني. وتستطيع المملكةُ مساعدة مشرَّف مؤقتاً بالتأثير على نواز شريف وحزب الرابطة. كما تستطيع التأثير على الإسلاميين المعتدلين (حزب الجماعة الإسلامية الذي استقال زعيمُهُ القاضي حسين أحمد من البرلمان احتجاجاً على أحداث المسجد الأحمر). وتستطيع أخيراً التحدث مع واشنطن لإيقاف الضغوط والتهديدات بالتدخل العسكري عبر الحدود الأفغانية..
لكنّ الجنرال مشرَّف لا يستطيع استخدام الجيش بهذه الطريقة إلى الأبد، كما لا يستطيع الانغماس في إلغاء حكم القانون وسط الأزمة الاقتصادية الطاحنة. وما عاد قادراً على التأمُّل بتجديد رئاسته أو تمديدها من طريق البرلمان أو الانتخابات نهاية العام. ومن المشكوك فيه أن يكتفي منه خصومه السياسيون الآن بالتنازُل عن قيادة الجيش للاحتفاظ برئاسة الجمهورية. والذي "أنجزه" حتى الآن القبول بقرار المحكمة إعادة القاضي تشودري، والذي كلّف عزله البلاد مئات القتلى خلال اضطراباتٍ استمرت أربعة أشهُر.
قال مدير المخابرات الباكستانية الأسبق حميد غول: حكم باكستان بالديمقراطية صعب بسبب التعدد الإثني، والخصوصيات المناطقية، وسوء النظام الرأسمالي؛ أمّا حكمُ العسكر فهو مستحيل مهما كان العسكريُّ متنوراً، فكيف إن كان لا يملك أياً من مواصفات الحكم الرشيد!
الاتحاد
|