المؤتمرنت – بيان الصفدي (*) -
مشاهد من الشعر اليمني المعاصر (1- 3)
من يقرأ كتب الرحالة العرب والأجانب الذين دخلوا اليمن السعيد على ندرة فسوف يطـَّـلع على مدى السبات التاريخي والظلم الأسطوري الذي عانى منه هذا الشعب العربي، فقد اجتمعت على صنع مأساته إمامة من القرون الوسطى، وطبيعة شحيحة، وبنية ريفية بدوية تعيش ما قبل العصر بعقود عديدة، لا طرق ولا كهرباء ولا هاتف ولا مصرف ولا طيران ولا آلة موسيقية ولا أغنية ولا رقص ولا رسم ولا مكتبات، حتى الصيدلية الوحيدة التي في البلد لا تصرف الوصفة للمريض إلا بأمر من الإمام نفسه!!
أما بعض المظاهر اليتيمة للحضارة فتتجلى في عدة سيارات للإمام وأولاده، وجهاز لاسلكي، وعدة صحف عربية ترسَل إليه أحيانا ً ليشترك فيها إلا أنه بدافع التوفير والبخل كان يقرؤها ثم يعيدها إلى مصدرها، ومذياع وقطار يسير بالبطاريات كان يلعب به الإمام في ساعات فراغه، والرجوع إلى تلك المصادر يوفر لنا مادة تشبه الخرافات في غرابتها، لهذا كنت أقول للروائيين اليمنيين إن التاريخ وهبكم واقعية سحرية لم يظهر لديكم منها شيء حتى الآن.
الشعب اليمني الغارق في هذا السُّبات التاريخي كان مهيَّـأ ً لتبعية عمياء، تعزِّزها العزلة والقناعة بأن الإمام من سلالة الرسول الكريم (ص) لهذا نفهم أن يقول عبد الله الوزير زعيم انقلاب 1948 لمن قبضوا عليه: "نحن نريد أن نعزَّكم من سرقة الأحذية في المساجد" وقول الثلايا الضابط الذي حاول اغتيال الإمام للناس المتحلـِّقين حوله قبل قطع رأسه: "آه لشعب أردت له الحياة فأراد لي الموت" .
كان الحق بالمعرفة حالة ثورية في اليمن الذي عرف تجريما ً لكل ما هو عصري، حيث العصرية ترادف الكفر والخيانة،ولا ينسى اليمنيون القول المشهور للإمام أحمد ذات يوم:
"سأروِّي سيفي من دماء العصريين"
• الشعر والإمامة والثورة
ربما لهذا السبب وقع الصدام بين هذا النظام وبين المتعلمين المنفتحين على الدنيا، سواء من الطلاب أو المعلمين أو طلاب المدرسة العسكرية، ولو حلَّ الإمام هذا الإشكال لاستطاع البقاء طويلا ً، فثورة 1962 لم تصنع أية معجزة، لكنها كانت مع الحقوق الآدمية الأولى لأي كائن في هذا العالم، لهذا يقول أحد ثوار وشهداء 1948 الشاعر زيد الموشكي مخاطبا ً شعبه:
ألا أيقظوا أحلامكم وتنبهوا فما الغرب أولى في العلا في الدنى منـَّا
أما فيكمُ من غيـــرة وحميَّة على الدين والأرحـام والأرض والأبـْـنـا
وكانت النتيجة أن هدم الإمام يحيى بيته في ذمار، فقال:
خاف السقــوط فلاذ بالتخـريب ِ ملك يعيش على الدم المسكوب ِ
خاف السقوط فقام يرسي ملكه بالسيف والأغــلال والتعذيب ِ
وأخيرا ً احتزَّ السيف رأس الموشكي في سجن حجة بعد فشل ثورة 1948 التي كان من أشجع قادتها.
إن عتاب الشعب يتكرر بقسوة لدى كثيرين، إذ طالما أحسَّ الشعراء أن الناس مستكينة خانعة، وهذا مما يؤجل التغيير المنشود، ولعل الزبيري من أكثر المعبرين عن هذا الجانب بحرقة كقوله:
نبني لك الشرف العالي فتهدمه ونسحق الصنم الطاغي فتبنيه ِ
نقضي على خصمك الأفعى فتبعثه حيَّا ً ونشعل مصباحا ً فتطفيه ِ
أو:
والشعب لوكان حيا ً ما استخفَّ به فرد ولا عاث فيه الظالم النهـِم ُ
أو:
نخشى سيوف الظلم وهي كليلة ونقدس الأصنام وهي حطام ُ
نبـني له عـرشا ً يسـود فيبتـني سجـنا ً نُهـان بظله ونضـام ُ
جهل وأمراض وظلم فـادح ومخـــافة ومجاعــة وإمـام ُ
وأحمد الشامي الذي شارك في انتفاضة 1948، وسجن في حجة يعاتب الشعب أيضا ً:
مَن عـَذيري للأمة اليمنيهْ وهمُ في الوجود شرُّ البـلـيهْ
خُلقـوا للأغلال والسوط والجــلاد لا للدستـور والحـريهْ
كلمـا جئـناهـمُ بعـلم وفـن أقبــلوا بالزوامــل القبـلـيهْ
شُوِّهت في عقولهم صور الإسلام فهي الخضوع والطائفيهْ
من هنا كان أقلُّ احتكاك بالآخر يشكل عامل إيقاظ يهدد هذا النظام المتهالك، ولعل الإمامة التي "تورَّطت" باستقدام بعثتين عسكريتين عراقية ومصرية إلى اليمن، كان من نتيجتها اندلاع ثورتين، إحداهما فشلت عام 1948والأخرى نجحت عام 1962، وأدت إلى انطلاق حرب تحرير جنوب اليمن عام 1964.
بعد انهيار ما سمي بثورة الدستور عام 1948التي لم تستمر َّ شهرين سيق المتهمون مشيا ً على الأقدام الحافية حتى سجن "القاهرة" في مدينة حجَّة، هذه المدينة التي شاءت الظروف أن أقيم فيها أربعة أشهر، فكنت أطل كل صباح على هذا السجن أثناء عملي لمدة أربعة أشهر فيها، وأكاد أرى أشباح السجناء والجلادين تطوف من حولي، إذ كنت مشبعا ً بروايات الشاعر الحضراني عن هذا السجن الذي كان نزيله لخمس سنوات، مع أن والده كان من أقرب الناس للإمام، فقد كان النهار يبدأ أحيانا ً بقطع أحد الرؤوس بالسيف، وبالقيود التي تصلصل في أقدام أناس طليعيين في المسيرة اليمنية نحو العصر.
ومن الطرائف التي حدثني الحضراني عنها أنه كتب للإمام رسالة استرحام في سجن حجة نصها:
"مولانا أمير المؤمنين أيدكم الله.
لقد آثرك الله علينا، ولا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نذكـِّرك بموقف جدك رسول الله من كفار قريش، وفيهم من تآمر على قتله، وفيهم من آذاه في عرضه وأهله، ثم قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء."
ويضيف الحضراني أنه ذيَّـل الرسالة بأبيات له:
اصفح فإنك قد قدرت، وبـادرِ ِ فالصفح من شيم الكريم القادرِ ِ
ضاقت مسالكنا وخاب رجاؤنا إلا بمولانا الأمير الناصرِ ِ
ولمن تبقَت منه أدنى ريبة من بعد هذا فهو أكفــر كافرِ ِ
فجاء الجواب من الإمام أحمد:
"إلى نزلاء حجة.
لم يقل الرسول: اذهبوا فأنتم الطلقاء إلا بعد أن قال: اسحقوهم سحقا ً واحصدوهم حصدا ً."
وروى الحضراني الكثير من صور الشجاعة والصبر ومنها صوت سجين مشهور هو السنيدار،كان يحلو له أن ينشد في ذلك السجن وبصوت جميل وقوي شجي:
حطموني إن تروني صنما ً واقتلوني إن عبدت الصنما
ورثى الحضراني الشهيد جمال جميل الضابط العراقي الذي كان من أبطال الثورة على الإمام في اليمن بقوله:
حتام َ يا وطنــي أراك تضامُ وعـلى أديمك تـُعبـَد الأصنامُ؟
أجمال ذكرك إذ يعــود تعـود لي بين الجوانح زفـرة وضـرامُ؟
هيهات َأسكت فالسكوت جريمة لا أرتضيها والرضوخ حرامُ
ومن غرائب اليمنيين أن يكتب شاعر درس في لندن والقاهرة، ويعد من الميَّالين إلى الفكر الليبرالي مبتهجا ً بهزيمة المتمردين ، هو محمد عبده غانم موجها ً خطابه إلى الإمام أحمد:
أنَّى لحاشد أو بكيل تمرد يوما ً وأنت على الثرى موجود ُ؟
أم أين للقوم الزرانيق الألى أدبتهم أن يطمعوا فيعودوا؟
ومن شعراء الجنوب الذين مدحوا الإمام بشيء من الصَّغارعبد الرحمن السقاف في قوله:
وإن عظمت حوادثكم وجلَت فليس لكشفها إلا الإمـامُ
سينصرنا ويدركنا بغوث أليس لنا بعروته اعتصامُ؟
في هذه الأجواء كان على الشعر اليمني أن يولد ويتحرَّك، حيث الشعب جائع ومغلول، غارق في عوالم الخرافات والغيبيات التي تدفعه إلى القناعة بالعزلة، والمصير الذي يجعل الناس يموتون كالدجاج في البيوت والطرقات من الجوع والمرض.
فحلم الشاعر في تلك الأيام أن يقرأ قصيدة في مدح الإمام فيكون بذلك قد استطاع أن يصل إلى الاعتراف الرسمي به، و أن يقرر الإمام له مكيالا ً دائما ً من الحبوب.
ومن الحظ الجميل أن أتعرَّف ذات يوم بكثيرين من شهود تلك العهود، أحدهم المرحوم الرئيس عبد الله السلال ذلك الرجل المستنير ، فقد حدثني الكثير عن غرابة تلك العهود في لقاءين لا أنساهما، منها أنه عندما ذهب مع عدد قليل من زملائه في البعثة العسكرية الأولى إلى العراق، وكان عليهم أن ينطلقوا من عدن، ولما شاهدوا طريق الإسفلت قربها ارتعبوا من هذا الشيطان الأسود، ولما دخلوا السينما في عدن انبطحوا أرضا ً عندما حصل إطلاق نار في الفيلم، وعلى سبيل الدعابة قال لي إن الحل السريع الذي خطر له بعد استلامه للرئاسة هو إلقاء اليمنيين في بئر في منزله واستبدالهم بشعب جاهز.
في الجنوب كان الاحتلال البريطاني يبسط سلطته الشكلية على سلطنات هزيلة، لا يملك حكامها أبسط قدر من الكفاءة، ومن طرائفهم أني رأيت في متحف "الغيضة" رسالة من سلطان "المهرة" يطلب فيها من الحاكم البريطاني في عدن حذاء وعباءة ومصروف جيب ليستطيع المثول أمامه في عدن!
مدينة عدن كانت استثناء واضحا ً في هذا الجو القاتم، لأنها القاعدة العسكرية البحرية البريطانية الرئيسية في العالم، حيث كانت ممرا ً دائما ً لما يقرب من مئة وخمسين ألف عسكري، يقيمون أسابيع أو أشهرا ً ريثما يتوزعون في الهند وغيرها أو يعودون منها.
هذا المناخ خلق حركة نشطة في الميناء والمدينة على مختلف الأصعدة، فعرفت المدينة مبكرا ً الكتب والاختراعات والمحاكم العصرية والصحف والأحزاب، وظهرت حركة عمالية قادها عمال مصفاة النفط، لذا كان العديد من الهاربين من بطش الإمام يجدون في عدن ملجأ لهم، وولدت العديد من الحركات والجمعيات والأحزاب.
فالحركة الشعرية في الجنوب أكثر قربا ً من المعاصرة التي أخذت تشق طريقها تلقيا ً وإنتاجا ً، متأثرة بالعقاد والرصافي والزهاوي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأمثالهم، ثم تنتقل شرارات هذا التأثر إلى شمال اليمن، فقد كانت كتب شائعة في الوطن العربي للعقاد وطه حسين وخالد محمد خالد تعـَدُّ منشورات سرية في مملكة الإمام السعيدة على طريقته.
سنجد هنا شعراء أسسوا بقوة لتجديد الشعر اليمني، منهم علي أحمد باكثير المنفتح على فنون أدبية متنوعة، بما فيها الترجمة، وحسن عبيد الله السقاف صاحب تجربة شعر التفعيلة الأول في اليمن في قصيدته "درب السيف" عام 1943، وللأب الروحي للمعاصرة في الشمال أحمد الوريث صاحب المجلة اليتيمة "الحكمة اليمانية" التي استمرت عامين، وعـُـدَّت منارة كبرى في التوعية، مما جعل صاحبها يصطدم مع الإمامة ويموت مسموما ً، وتيار الرومانسيين من صالح الحامد وحسين البار وعلي نعمان ومحمد عبده غانم ولطفي أمان والزبيري والشامي والبردوني والحضراني والبشاري وغيرهم.
كانت الرومانسية المحملة بالكثير من الإرث التقليدي هي التيار الأكثر انتشارا ً لما فيها من تحليق وتخييل في واقع مزر ٍ، إضافة إلى الجانب الاحتجاجي والتمردي لدى الرومانسيين عموما ً.
والعجيب أن نعرف أن جميع الشعراء في اليمن خرجوا من عباءة الإمام، إذ لا بد من المدح، وحتى الشعراء الجنوبيون مدحوا الإمام طمعا ً أو رهبة أو انطلاقا ً من حنين وطني ربما!. والمؤلم أن أكثرهم كتب قصائد إشادة ببريطانيا وحبها، وصدرت تلك القصائد في كتاب باسم "تحية التاج" بمناسبة زيارة ملكة بريطانيا أليزابيث الثانية إلى عدن، وبتحريض وإعداد وطباعة محمد علي لقمان، فهو حليفهم ونصيرهم، وزعيم اتجاه "عدن للعدنيين" وأبو الشاعر علي لقمان.
لقد مر اليمن بمخاضات مؤلمة جنوبا ً وشمالا ً، فعندما اندلعت ثورة 14 أكتوبر 1964 كان الشعر اليمني كله سجلا ً لها، خاصة الجنوبيين، من أمثال محمد سعيد جرادة ولطفي جعفر أمان وإدريس حنبلة،وتغير المزاج والوعي، وراح الجميع يجاملون الثورة أو يناصرونها إيمانا ً أو خوفا ً من عقابها.
ومن طرائف هذه المرحلة أن نقرأ لإدريس حنبله مدرس الإنكليزية الذي دخل سجون الاحتلال مراراً شعرا ً فيه قواف ٍ غريبة:
أيها النــاس أفيـقـوا إنــما الــدنـيـا finish
كيف ترضون بعـيـــش هــمـّـنـا رزٌّ وFish
قــاتل الله ســجـونا ً تجعل اللون Reddish
وتتردد تجارب، أصحابها ذوو وعي فكري أعمق كما لدى عبد الله باذيب :
فدى لك ذا المُراقُ ومن أراقا أيا وطنا ً بسوء الحال ضاقا
سيلقى من أذاق الشعب هولا ً بأيدي الشعب يوما ً ما أذاقا.
...........................يتبع
(*)كاتب وأديب عربي من سوريا