المؤتمر نت-بقلم/ نـزار خضير العبادي - الإعـلام المسـئول وجدوى الإسناد لمصـدر مسـئول "الجزء الثاني"
تناولنا في الجزء الأول المدلول الاصطلاحي لعبارة "الإعلام المسئول" وحقيقة ما يمكن أن يترجمه من صيغ تطبيقية في إطار أداء المؤسسات الإعلامية المختلفة .
في هذا الجزء نحاول استكمال الشطر الآخر من الموضوع فيما يتعلق بـ "جدوى الإسناد "لمصدر مسئول".وقبل كل شيء ينبغي الوقوف قليلاً أمام ماهية مصطلح (المصدر المسئول). فقد جرت العادة أن تنسب الوسائل الإعلامية بعض أخبارها لما تسميه (تصريح مصدر مسئول)، وكثيراً ما يجري التحفظ على هويته المعرّفة بشخصيـته، باعتبار ذلك الأسلوب أحد وسائل الحفاظ على خصوصية المصدر أو – في بعض الأحيان- حمايته من أي ضرر قد يلحق بمركزه الوظيفي؛ رغم أن عدم الإفصاح عن هوية المصدر، غالباً ما يكون متبعاً في حدود ما يمت بعلاقة بالمسائل الأمنية والسياسية الحساسة.
لكن يبدوا لنا أن صيغةً كهذه تضفي على المؤسسة الإعلامية توصيفاً يجعلها أقرب إلى الأجهزة الاستخباراتية ، منها إلى المهنية الإعلامية، كما يعرضها للكثير من التضليل أو مطبات الوقوع بالخطأ والخروج عن الغابة المنشودة.
وفي عدة مناسبات كنا نقرأ أو نسمع عن افتضاح أمر إعلاميين أو مؤسسات بأكملها تورطت في جمع معلومات لصالح جهات مشبوهة، وكان الفضل في ذلك إلى الحقوق والحريات الممنوحة للإعلام، والتي تحصنه من المسائلة القانونية بشأن تواجد أحد أفراده رواق منشأة حيوية حساسة أو بالقرب من أسوارها؛ تحت ذريعة البحث عن المعلومة المخبأة هنا أو هناك، حتى إذا ما وجد البعض شيئاً مما يستطيع استغلاله بسوء نية إلحاق الضرر ، أو الإحراج لأجهزة الحكم، روّج للمعلومة ناسباً إياها لـ "مصدر رسمي مسئول" أو "مصدر أمني مسئول "وما شابه، جاعلاً من هذا التعبير "شمّاعة" زاخرة بمبررات ما تمت إذاعته؛ متنصلاً بذلك عن أية مسئولية وطنية لما يتعلق بأخلاقيات (الإعلام المسئول) التي تناولناها في الجزء الأول من الموضوع.
ومع تسليمنا لما يجادل به البعض حول حريات الرأي وحقوق الإعلام الحر، المعمول بها في البلدان الديمقراطية –واليمن إحداها- يبقى السؤال الأكثر جدلاً هو: من المعنيّ بوصف "مصدر مسئول" في وزارة أو جهة رسمية ما ؟ وما حدود المنصب أو المركز الذي يخول ذلك الشخص بالتحدث بوصفه – مصدراً مسئول؟
فإذا كان من البديهي التسليم كون وزير الداخلية – مثلاً وليس حصراً- هو مصدر أمنيّ مسئول بحكم مركزه الأول في وزارته، وربما ينساق الرأي ذاته على نائب الوزير ووكلاء الوزارة إذا ما تناولنا المسألة بشفافية. لكن قد يسلك الجدل والخلاف مسارها عندما تأخذ دائرة الصلاحيات بالاتساع ؛ لتشمل المركز الأدنى، في وقت تكون فيه حساسية الوظيفة –التي تؤديها الوزارة – أمراً يستدعي الحصر للصلاحيات في مختلف الدوائر التي تتفرع عنها. إذن في تلك الحالة هل سيكون النقل الخبري عن أحد مدارء الشعب في الداخلية أو أحد ضباط الديوان بمثابة نقلٍ عن مصدر مسئول؟ وهل لأمر كهذا أية علاقة بالأمن القومي لليمن؟
لا شك أن محاولة إقامة الحكم أو الرأي في ذلك هو مصدر إشكاليات للعديد من الجهات، بدءً بالدائرة المختصة التي قد يضعها الاجتهاد الخاطئ في الكثير من الإحراجات أو المسئوليات. ثم للمؤسسة الإعلامية نفسها التي قد تضعف المعلومة الخاطئة من مصداقيتها، وأحياناً تعرضها للمساءلة القانونية.. وهناك أيضاً الجهات القضائية التي سيصعب عليها تحديد مدى إمكانية الحكم بمشروعية المصدر الخبري وأهليته للنقل المعلوماتي ، فضلاً عن إشكاليات الحريات الإعلامية التي ستؤول إلى وضع حرج ، لو نفت كل المستويات – المهيأة لتكون مصدراً مسئولاً – صحة ما تم نقله عن مؤسستها وطالبت الوسيلة الإعلامية بالكشف عن مصدر المعلومة أو الخبر .
أن الأمر- كما نرى- شائك ومعقد للغاية، ويستدعي التفكير مبدياً بالمخارج الآمنة. واعتقد لو بادرت كل وزارة، أو هيئة، أو منشأة ممن يخص بمسئوليات حساسة إلى تفعيل مكاتب العلاقات العامة في دوائرها، وحولتها إلى مراكز معلومات نشطة؛ بحيث يتم تغذيتها بالبيانات والتصريحات الخاصة بكل حدث، أو متغير في أنشطتها أولاً بأول دونما تأخير، فإنها سيكون بمقدورها السيطرة والحد من التسربات الإخبارية غير المسئولة، والبيانات المضلة- مهما كان نوع هذه المؤسسة، أو طبيعة نشاطها. لكن سيكون من المهم جداً أن تحضى مكاتب العلاقات العامة بالوجاهة التي تكسبها احترام الجهات الإعلامية، وربما سيعتمد بعض ذلك على حجم ودقة، وحداثة خزينها المعلوماتي، وكفايته بما يشبع فضول وسائل الإعلام.. وفي طليعة كل شيء مصداقيتها، وصراحتها، وجرأتها على المواجهة.
فمشكلة التسريبات الإعلامية غير الدقيقة، أو المغلوطة باتت عند أغلب الدول التي سبقت اليمن بالممارسات الديمقراطية والحريات الفكرية أمراً يقض مضاجع حكوماتها، ويزجها باحراجات لا حصر لها.
لكننا تعلمنا في اليمن أن تكون خصوصياتنا التي تميزنا عن تجارب الغير، وحتماً سيقتضي واقعنا وطبيعة المرحلة التي تمر بها بلادنا، والدور الذي تتطلع الوقوف في دائرته، الالتفات إلى الكثير من المطبات التي تنتظرنا- في وقت لا تنقصنا فيه العقليات الإعلامية المبدعة، والمجربة بعطائها لتبني مسئوليات بلورة خصوصيات يمنية تحكم آليات تسويق المعلومة الخبرية عبر مؤسسات الدولة.
إن حاجة الوسيلة الإعلامية لاستقاء الخبر عن مصدر مسئول هي بحد ذاتها بحث عن المصداقية، وهي تماماً كحاجة المؤرخ والباحث لإسناد معلوماته الهامة إلى مصادر، ومراجع.
وإذا ما احتلت هذه القدر من الأهمية للوسيلة الإعلامية، فحتماً أن الأهمية تتفاظم بالنسبة للمؤسسة، أو الجهة المنقول عنها إذا ما أرادت تروج لنفسها وأنشطتها، وحقيقة الوضع الذي آلت إليه، وربما تؤمنها الموضوعية من شر كبير يتربص بها- سوءً، وانتقاماً.
الحقيقة التي يجب إدراكها اليوم قبل الغد هي أن البلدان التي تفتقر لآليات السيطرة الإعلامية غالباً ما تكون ضحية الإشاعة التي هي بمثابة أقوى الأسلحة الفتاكة التي يستخدما أعدائها في جبنها الحرب النفسية.. ومع أننا بلد مسالم، ونحمل الأمن والسلام بأكفنا اليمانية الكريمة لكل شعوب الأرض- القريبة والبعيدة- إلاّ أن ذلك لا يمنع عنا كيد من يغيضه سلامنا، وتنفخه حقداً نهضتنا وديمقراطيتنا.. ولأننا أتينا بما يعجز الآخرون عن إتيانه بات حقاً علينا أن نفكر ملياً بالكيفية التي ينبغي بها تحصين وحماية ما عندنا ممن ليس عنده..
|