المؤتمر نت - بيان الصفدي -
مشاهد من الشعر اليمني المعاصر (2-3)
وظهرت تباشير حداثة تتلمس طريقها على يد لطفي أمان تحديدا ً، ولما انتصرت الثورة عام 1967 ولد جيل شعري ينتسب إلى تيار يساري، فيه الكثير من الصبيانية الفكرية والفنية، اكتسح الساحة فيما بعد، وصار له نجوم لا يشترط في قصائدهم أن يكون لها سند لغوي أو وزني أو فني، وصار الشعار سيدا ً في كل شيء، واختلطت الساحة، كثرة بلا موهبة تحاول الاستيلاء على منابر الإيصال الثقافي، متسلحة بساتر الحزبية والإخلاص للثورة، وقلة مندحرة تمثل رجعية ثقافية لكنها أكثر تماسكا ً في بنية أدواتها، وقسم منها راح يجامل طوفان السطحية والادعاء حفاظا ً على قدرة الاستمرار في جو صاخب وخانق.
وقد سادت حالات من التكريس السطحي لشعراء الحزب، كما حصل لأمثال الشنواح وفريد بركات وحسن أوسان (وهو نفسه حسن عزعزي) وعبد الرحيم سلام ، لعل أغربها شاعرية عبد الفتاح إسماعيل المفاجئة، والتي كتب عنها كثيرون من عبد العزيز المقالح حتى أدونيس.
وكم كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أن قصائده كان يكتبها عدد من المقربين مثل حسن أوسان وعبد الرحيم سلام، لهذا تظهر في القصائد المنسوبة إليه مجموعة أساليب، ومن طرائف هذه التجربة أقدم هذا المقطع منها:
يدوِّي بين البسطاء في اليمن
أن تنهض أن تنفض ليل الذل
ولثم الوثن
كي تتعانق صنعاء مع عدن
كي تلحق بركاب الزمن
حينها سوف يقوى الضعفاء
ويغني البسطاء
في ربوع اليمن
وتزول نهاية كل خطر
ويكتب حسن أوسان الذي كان من أبرزنقاد تلك المرحلة وشعرائها معلقا ًفي كلام نقدي:
"إنها جواهر ومعلقات وسيمفونية تشبه سيمفونية بيتهوفن الخامسة"!!
هذه حالة نموذجية لما كان يجري تحت مسميات نبيلة.
ولم يكن الشمال بعد نجاح ثورة 26سبتمبر 1962 أحسن حالا ً بالمعنى الفكري، فراح التغني العابر بنجاح الثورة وقداستها ومعجزاتها!! يشكل السلـَّم الذي صعدته أكثرية مدعية، وأقلية استطابت أن تحصر همها في هذا الغرض، ولعل هذا القول للمقالح يعطينا فكرة عن هذا المناخ إذ يقول:"وكل شاعر لا يستطيع الالتحاق بفيلق الثورة المتقدم، ولا يكون جنديا ً في جيشها العظيم وحاديا ً لمواكبها، لا يستطيع أن يكتب الشعر حتى وإن ملأ أطنانا ً من الورق، وسفح أطنانا ً من الحبر." إلا أن الشعر في الشطر الشمالي شهد ظاهرتين صحـِّيتين فيما بعد، واحدة تتمثل بشعر المعارضة القاسية المتهكمة ضد سلطة تراجعت عن أهداف الثورة، وأبرز هؤلاء عبد الله البردوني، فقد تطورت تجربته، من مدح الإمام وحاشيته والتغني بأمجاد الماضي اليمني، وصولاً إلى المعارضة الصارخة التي كانت تتجاوز في الشعر الخطوط الحمر كلها، لهذا تحول شعر البردوني إلى النبض الشعبي المتجاوب معه، في ظرف جرى فيه تحويل الشاعر إلى أسطورة لا يستطيع حاكم ولا ناقد أن يثلم منها، حتى إنني عرفت من الشاعر نفسه، أن الحكام كانوا حريصين دوما ً على تقديم الهدايا والعطايا، والتبجيل له للتخفيف مما قد يفاجئهم به من هجوم ناري بين حين وآخر، وخاصة على الذين دفنوا الثورة وباعوها وسحقوا المواطن كما يرى، إنه الذي لا يمل من قول مثل هذا الكلام عن بلاده وحكامها:
من ذا يصدق أن لي بلــدا ً عيناه من حُرَقي ولم يرني؟
ماذا؟ أيدري إخوتي وأبي أني يمــانيٌ بلا يمــن ِ؟
أو:
مـواطـن بلا وطن لأنــه مــن اليـمن ْ
يبكي إذا سألــته: من أين أنت؟ أنت من ْ؟
أو:
ماذا أحدث عن صنعاء يا أبت ِ؟ مليحة عاشقاها السل والجرب ُ
شاعر اليمن المشهور الآخر هو محمد محمود الزبيري الذي كان بداية من المقربين من الإمام يحيى ، وقد قال فيه:
ما للمحاكم تستـفتي أهلـَّـتها وأنت يا سيد الأقمـار موجود ُ!
ما أنت إلا شعاع الله جاء به من غرَّة المصطفى آباؤك الصيد ُ
لكنه بعد ذلك كان من قادة انقلاب 1948، ونجا من الموت لأنه كان في السعودية عندما نجح الإمام أحمد باستعادة السلطة مجددا ً، وأمر باستباحة صنعاء من قبل رجال القبائل لثلاثة أيام، لكنه فيما بعد أخذ يستعطفه بلهجة ذليلة ليعفو عنه:
هَبْ لي بقية مهجة ٍأحـــيا بها إني لأرضى بالحيـاة وأقنع ُ
دعني لسانا ً عن جنابك ذائدا ً، أو لا، فعبد من عبيدك طيِّع ُ
ثم تطورت الأحداث، واختار الزبيري الإقامة في القاهرة، وراح يكتب شعرا ً ونثرا ً ليس لهما إلا العداء للإمامة موضوعا ً من مثل:
يرون قطـــع يمين اللص جائعة وحــظ أيديهمُ لثم ٌ وتوقيرُ
ذنب الصعاليك مخزاة ومعصية وذنبهم فيه تهليـل وتكبيرُ
أو:
ما للظلوم الذي اشتدَّت ضراوته في ظلمــنا نتـلقـَّــاه فنـبـتسـمُ
نــرى مخالبه مـن جــرح أمتــنا تدمى ونسعى إليه اليوم نختصمُ
أو:
خرجنا من السجن شم َّ الأنوف كما تخرج الأسد من غابها
نمر على شــفرات السيوف ونأتــي المنــية من بابـها
ونأبــى الحياة إذا دُنـِّـســت بعسـف الطغــاة هابـها
أنـفـنــا الإقــامة فـي أمـة تد تــداس بـأقــدام أربابـــها
وعلى المنوال نفسه نقرأ لنزيل حجة الشاعر أحمد الشامي:
يا عابد الطغيان حسبك خسة ً علمــي بأنــــك عابد الطغيــان ِ
فاترك كلام الله لا تعبــــث به واغرف بيانك من فم الشيطان ِ
إن قسوة الشامي هذه لم تمنعه عام 1962 من أن يلتحق بالثورة المضادة، ويصبح وزير خارجية الإمام البدر، ثم يقضي بقية حياته لاجئا ً منعما ً في الولايات المتحدة الأمريكية!!.
وعندما انتصرت ثورة 1962 صار الزبيري وزيرا ً، وبعد ظهور الصراعات العديدة بين رجالات الثورة، اغتيل الزبيري بشكل غامض في عام 1965، لكن أهميته الشعرية ظلت قوية، لما في شعره من متانة وشاعرية ورقة أحيانا ً.
بعيدا ً عن التحرر من المحتل ومن النظام الأمامي لا بد من القول أن المعركة الحقيقية لليمنيين كانت مع التخلف والفقر والحرية، حيث تبدو هنا المعركة على حقيقتها مكشوفة بلا رتوش، حيث سيطرة ُ شيوخ القبائل متحالفين مع رجال الدين، وشريحة الحكام الذين توزعوا الوطن فيما بينهم، وما أجمل قول شاعر اليمن الشعبي علي بن زايد:
يقــــول علي بن زايدالحــرب حـامي وبارد
فبارده ضرب بالسيف والحار ضرب الموايد
وفي غمرة هذه الحالة تبرز الطائفية والمناطقية لتكون عامل تمزيق خطير للشعب الواحد، لهذا نفهم صرخة يوسف الشحاري:
يمنيٌّ يهوى الحياة صراعا ً وعراكا ً يشع ُّ منه الجديدُ
يمنيـــون قبـــل أن يتمادى في غبــاء شــوافع وزيودُ
وشاعر آخر هو ابراهيم صادق:
يتنــادى هذا "حُدَيديْ" وهذا من "تعزٍّ" وذاك من "صنعاء ِ"
مات "زيد" و"الشافعي" وعشـنا نصــطلي نار تــلــــكم البغضاء ِ
إلا أن هذا الأمر ــ ولأنه لم يعد مطروحا ً مباشرة مع تقدم الشعر اليمني، ولا مقبولا ً لأحلامه في بناء وطن ــ أفسح المجال للحرية والعدالة الاجتماعية، وهنا تحتل قضية المرأة مركز الصدارة، وربما كانت "دموع الشراشف" هي المجاز الفني لها، فالشرشف هو الذي يغطي المرأة في اليمن من رأسها، ويلفها حتى ينسحب جزء منه على الأرض، وعُرفتْ عن الشاعر محمد الشرفي عنايته الطاغية بحال المرأة اليمنية، وهو صاحب مجموعة "دموع الشراشف" المشار إليها، وقد أثار الكثير من قوى التخلف والظلامية المتسلحة ظلما ً بالدين، كما حصل عندما كتب مثلا ً:
أرفضكم يا سادتي الذين تدَّعونْ
وتصرخون باسم الدين والشريعهْْ
أرفضكم لأن كل امراة في خدرها المصونْ
ليست سوى كالشاة أو كالسلعة المبيعهْ
أرفضكم لأن الله لم يكذب وأنتم تكذبونْ
وأن بينكم وبينهم مسافة ٌ
وأنه يكرهكم من حيث لا تدرونْ
لكنه قد يكون أهدأ وأكثر شاعرية عندما يقول:
وتمشي كربوة فحم حزين ْ بشــرشفها الأسود المستـكينْ
مكـــوَّمة فيـه ملفــــوفـة كما التفَّ ليـل الأسى بالسجونْ
أو:
معصم ضاحك كجدول نعمه كاندفاق الضحى على صحو قمهْ
أخرجــته من شرشــف معــتم اللون كما شــق بارق قلــب ظلمهْ
وأعادتــه كالصـباح ولفــته كما تختـفي على الليـل نجمهْ
وكثيرا ً ما نلتقي بشعر عاطفي رومانسي يخوض في الحديث العاطفي العام كما لدى الشاعر محمد سعيد جراده:
سأغني الحب حتى يبعث الفجر رسولهْ
هذه الليلة يا حسـناء في الخلد أصيلهْ
قصـــرت لكنها في نظر القلـب طـويــلهْ
ويلفت النظر أن شمال اليمن عرف قبل الوحدة ظاهرة التكفير التي كانت تتكرر بين حين وآخر، من قوى ظلامية، استفادت من إفراغ ثورة 1962 من محتواها، وانطلاق التنظيمات الدينية المموَّلة من جيران اليمن، لضمان المصالح السياسية المختلفة لأولئك الجيران، فشنت حملات تكفير ضد البردوني والشرفي والعودي والمقالح وعبد الكريم الرازحي، حتى إنهم اضطروا بعضهم إلى إعلان التوبة في المساجد بحضور مشايخ معروفين، أو الهرب إلى الجنوب.
وعاش اليمن إلى ما قبل الوحدة وهو يعدُّ الحزبية رجسا ً غير مسموح باقترافه، وقد كان بعض الشعراء يؤيدون هذا النهج، فنحن نقرأ للشاعر المعروف عبد العزيز المقالح قوله:
"الأحزاب خطر يمزق البلاد...وعدم وجود الأحزاب لا يعني عدم وجود حياة حزبية." ويبرِّر سيطرة المؤسسة العسكرية بقوله:
"إنها المؤسسة الأنقى والأنظف والأكثر شعورا ً بالمسؤولية وبالثورة، ويقلّ فيها التنافس كما يحدث في المؤسسات المدنيةً... العسكريون نظيفون والمدنيون ملوَّثون."
إلا أن هذه النظرة ستتغير بعد الوحدة التي شكلت انعطافا ً كبيرا ً في التعاطي مع الأحزاب.
تأثيرات شعرية
كل الذين درسوا الشعر اليمني من اليمنيين وقعوا تحت تأثير الرغبة في إثبات مبالغ فيه للذات، وكأنهم يجيبون على سؤال طه حسين الطريف: "وهل في اليمن شعر؟" فراحوا يجمعون ويصنـِّفون عشوائيا ً خريطة هذا الشعر المعاصرة.
أما الدارسون العرب فقد انطلقوا من غايات لا يربطها بالدراسة والثقافة رابط في الغالب الأعم، فبعد المحاولتين الخجولتين لعز الدين إسماعيل النقدية، وهلال ناجي التعريفية، تركزت جهود الكتابة التي قد يسميها البعض دراسات أو نقدا ً في أجواء لا يقدِّرها تماما ً إلا من عاش في اليمن، وتعرَّف إلى الظروف التي تحكم عروض العمل والاستخدام في التدريس.
الحال التي عاشها اليمنيون تركت آثارا ً ضارة ً في مستوى الأداء اللغوي وأصالة التجربة ومدى المخزون الثقافي، والحديث منه تحديدا ً، وسأتجاوز الضعف اللغوي الذي لا ينجو منه أعلام من مثل البردوني والزبيري والمقالح وصولا ً إلى عبد الودود سيف وعبد الرحمن إبراهيم ومحمد العصار ونبيلة الزبير، كذلك الأمر في الاستخدام للإيقاع حيث يكثر الخلل في القصائد، ويندر أن نقع على قصائد صافية من هذا العيب، مما يمنع الدخول إلى ثراء الإيقاع وما يفتحه من آفاق، لذا تأتي الغالبية العظمى من محاولات قصائد النثر شديدة الهشاشة، وبطريقة تفقد الحد الأدنى لانتساب هذه المحاولات إلى عالم الأدب.
لهذا سأعرض هنا لنماذج من التأثيرات الصارخة لتقليد نماذج عربية مشهورة جدا ً، مع قناعتنا أن الشعر اليمني بحكم ظروفه المعاصرة وقع في الكثير من نماذجه كرجع صدى لتجارب عربية، كما يقول علي لقمان صاحب "الوتر المغمور" أول ديوان مطبوع عام 1944،فظِلُّ أبي ماضي شديد الوضوح في قوله:
لــســـت أدري من أنا أو ما يفــيد الكــون منــي
كلما يشرف بي الكون على فني ويلوي الوجه عني
أتـرى في شـخصيَ المنكـود أنســيُّ وجني؟ لست أدري
ولنقرأ للزبيري:
اغـفري لي إذا تطلعــتُ مأخوذا ً إلى وجهك الطهـور السني ِّ
أنت لست المها يصول عليها كل ذئب على المها وحشيِّ
لم يصغــك الإله صيغتك المثـــلى لنســل أو مأرب هــمــجيِّ
أو قوله:
جهل وأمراض وظلم فادح ومخافة ومجاعة وإمامُ
وهذا يحيلنا إلى أبي القاسم الشابي والرصافي.
ونزار قباني صاحب بصمات صارخة على شعراء من مختلف الأجيال، كالحضراني الذي يقول:
الله قد صـاغك من طيــنة كســائر الناس ولا أكثر
من خلق الفتنة غيري أنا؟ أنا أنا خالــقــك الأكــبر
وعلى المنوال نفسه نقرأ لمحمد الشرفي:
لمن أرتدي الثـــوب؟ أو أنتقي؟ وأرصف شعري على مفرقي
وألـــبس أحــلى ثيابي اللــطاف يعــربد فــيها صباي الشـقي
لمن نبع سحري؟ لمن؟ للظلام؟ لــشرشــفيَ المعـتم المغـلق؟
أما عبد الوهاب الشامي فقد أمسك بخناق الشاعر فوزي معلوف في قوله:
دع كسير الفؤاد بين شجونهْ
بين غمِّهْ
ووحشتهْ
حيث لا يطفىء الدجى بسكونهْ
نار همهْ
ولوعتهْ
إلا أن هذه التأثيرات قد تبدو أكثر نضجا ً ، فتتحول إلى جزء من تجربة موهوبة ومشروعة كما لدى الشاعر أحمد العواضي في اتكائه على عوالم محمود درويش كقوله عن صنعاء:
من أين لي لغةٌ بلون الماء كي أتجاوز المعنى وأدخل
في تفاصيل المفاجأة الأخيرة. في مساء سكينة الدنيا
أرى غسقاً تدلّى من ضفائرها الكثيفة. حُمرةَ (الياجور)
أم شفة المدينة.نكهة الليمون في التسبيحة الأولى
بداية نمنمات الصّبح في الأسواق. أصوات الملائكة،
العصافير، النساء. حفيف أشجار من التوت المخبّأ في
حواريها. ملامح (خربشات الجصّ) بين فضائها والأرض
أوتار التّهيّؤ للغناء. وقار إيماء الظهيرة. غيم منتصف
السماء. نشيد أزمنة تفرّ إلى معادنها الخبيئة.
وسأكتفي أخيرا ً بأظرف بصمة للسياب ظهرت لدى سعيد الشيباني على هذا الشكل:
من حقل بني أصيحْ
حتى تميد القصورْ
فلتسمعي للمذيعْ
يا عاتيات الدهورْ
جاء اليقين اليقينْ
صنعا بلادي تثورْ
*شاعر واديب سوري