د. أحمد عبدالملك -
تنفير المسلمين من الإسلام
قال لي صديق: "كنتُ مرة في عاصمة عربية، وكانت زوجتي ترافقني في المركز التجاري الضخم. لمَحَنا رجلُ دين. تقدَّم نحوي (مستأسداً) برجل الأمن الذي يسندهُ وقال: (غطِّ حرْمتك!! اتق الله). بالمناسبة كانت زوجتي مُنقبة ولم يَبدُ منها إلا عيناها! كنت قد عوَّدتُ نفسي على عدم الاحتكاك مع هؤلاء الناس. تركتُ لزوجتي أمر الحوار مع الرجل. المهم أن القضية انتهت عندما أخرجت زوجتي بطاقتها الدبلوماسية؛ حيث توارى الرجل".. (انتهى).
حادثة أخرى تظهِر أشكال التزمت والغلوِّ في الدين. فلقد قصد صديق لي مسجداً في إحدى العواصم العربية. وكان يوم جمعة والخطيب يخطب. فجلس صاحبي دون أن يصليِّ السُّنة. فنهرَه الخطيب قائلاً: "قُمْ صلِّ السُّنة"؛ حاول صديقي محاورته بعد الصلاة بأن خطبة الجمعة عبارة عن ركعتيْ صلاة الظهر؛ وطالما أنها صلاة أصلاً فلا يجوز قطعها؛ ولابد من الاستماع إليها حتى النهاية. ثم إن السُّنة ليست فرضاً، والفرض أقوى من السُّنة في القياس. أزبَدَ الخطيب ورفع عقيرته بالصراخ متهماً صديقي بالكفر، ونادى على بعض معاونيه ليأخذوا صديقي في سيارة الشرطة! أراد صديقي إنهاء الموقف دون تعقيدات. أخرج البطاقة الدبلوماسية في وجه الرجل مشيراً إلى أنه يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، ولا يمكن أخذه في سيارة الشرطة! لما رأى الخطيبُ البطاقة توارى داخل المسجد. يقول صديقي: "تصوَّرْ لم يخفْ الإمام من قوة الله.. بل خاف من قوة البطاقة. وتنازل عن موقفه"!!
هذه القصة تذكرني ببعض المُصلِّين من المتشدِّدين الذين يدوسون على قدميك وأنت تصلِّي بقصد (سَدِّ الفُرَج)؛ وهم يبالغون في ذلك بحيث يجعلونك تفقد التركيز على الصلاة، بل وينفِّرونك من المسجد. وبعضهم هداهم الله يضربونك على كتفك محاولين إزاحتك إلى اليمين أو اليسار وأنت تصلِّي!
هذا الموضوع أيضاً يجعلني أستحضر ما كتبته نورة المسلّم في صحيفة "الجزيرة" السعودية تحت عنوان: "هذا ما يحدث في بيت الله الحرام". حيث ذكرت مواقف التوبيخ التي تعرضت لها في الطواف حول الكعبة. وكانت الأخت مُعتمرة ومُحجَّبة، وكان أحدهم يمر بجانبها ويقول: "المسلمة لا تتزيَّن بحجابها". الغريب أن الطواف كان مليئاً بنساء غير سعوديات وكنَّ كاشفات الوجه. تقول الأخت: "وأسجِّل موقفاً لابنة أخي بعمر الثالثة عشرة التي تؤدي العمرة لأول مرة؛ حين صرخ بوجهها أحدهم ولا أدري كيف التقطها من بين الناس ليقول: (تأتون هنا لفتنة الناس.. حسبي الله عليكم)! مع العلم بأن هذه الصغيرة لم تكن سافرة؛ بل كانت تركت لعينيها المجال كي ترى الطريق". وتختتم الأخت مقالها بقولها: "يجب أن تُحسم هذه المسألة من السلطات المعنية؛ بعدم مصادرة حقوق الناس وكراماتهم والتعدي عليهم بالإيذاء وتحويل المكان الآمن إلى ساحة من الرعب داخل الحرم لنا تحديداً" (انتهى كلام نورة المسلّم).
وعلى اتصال بالموضوع جاء في تقرير لملحق "الشرق الاوسط" يوم 19/6/2005 أن بعض الأسواق في (جدة) يمنع دخول الشباب إلى المبنى خلال مهرجان جدة، بصورة تتنافى مع التوجيهات الصادرة من إمارة مكة المكرمة بالسماح للشباب بدخول الأسواق من دون الحاجة لوجود عائلاتهم.
هذه تصرفات بعض رجال الدين -هداهم الله- أو بعض المسلمين المتشددين في هذا العالم؛ والذين يرون أنهم الوحيدون المنوط بهم تطبيق شرع الله؛ وإن كانت وسيلته تتنافى مع تعاليم الدين لتصل إلى درجة إهانة الآخر.
ولقد تم تنفير الشباب من دخول المساجد ومن الدِّين أيضاً! وتم تحقير الشباب ورفضه من المجتمع بحكم أنه يدخل الأسواق فقط لـ"تصيُّد" النساء. كما تم تحقير المرأة بزعم أنها تأتي إلى الأسواق لـ"فتنة" الرجال! ويشيعون النظرة الدُّونية للمرأة على أنها "مشروع غواية" أو "موقع تفريغ رغبة"! لذلك تعيش المرأة أوضاعاً شاذة في بعض الدول العربية والإسلامية. وتعاني الاستبداد والإيذاء اللفظي والنفسي وكل ذلك بعيد عن الإسلام.
الصلاة أساساً راحة. أَما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحْنا بها يا بلال"! ونحن عندما نصلي خلف بعض "الغُلاة" نجدهم يبالغون في مدة الركوع أو السجود. ولقد حسبت لأحدهم أن ظل أكثر من دقيقة في الركوع ودقيقة ونصف في السجود. وهنالك من بين المُصلِّين من به هشاشة عظام؛ أو أجرى عملية ديسك؛ فلماذا المبالغة في الركوع والسجود؟ ولماذا يقلب البعض صلاة الراحة إلى صلاة عذاب وألم؟!
ثم لماذا تقوم فئة؛ وكأن الله استخلفَها على الناس، بتوبيخ الناس في الأماكن العامة وتحقيرهم؛ خصوصاً من النساء، دون وجه حق!! وإذا كانت أمهات المسلمين لم يغطين وجوههن في الحرَم حجاً؛ وكُنَّ يخالطن الرجال سلماً وحرباً وتعليماً! فلماذا يخرج علينا بعض المتشددين ويفتون فتاوى بعيدة عن الدين. بل ويهددون الإنسان بالسجن!! أين ذهبت سماحة الإسلام؟ وأين عدل عمر بن الخطاب؟ وأين حفظ عائشة رضي الله عنها للحديث وروايته للآخرين؟ وأين معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين عندما يداعبانه وهو يُصلِّي فيُطيل سجوده حتى لا يغضبهما. وأين توجيهات الرسول العظيم (يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا)؟
لماذا يخرج علينا بعض الغُلاة ليفرضوا نهجاً لم يأتِ به الشرع. ويخالف سماحة الإسلام، وحرص الرسول الكريم على تحبيب النشء في الإسلام وعدم تنفيرهم منه بالقسوة والغلظة والكلام الخشن والتهديد والوعيد.
وبمناسبة الحديث عن الكلام الخشن. نجد بعض المتحدِّثين وصُنَّاع الكتب يبالغون في استدعاء الموت. وذِكْر مواقف الحياة الأخرى. ولا يحاولون توجيه النشء نحو الحياة الدنيا. صحيح أن هذه الحياة فانية وأن الآخرة دار القرار. لكن يجب إعمار هذه الحياة وإنشاء المصانع والمدارس والمستشفيات. وصحيح أننا كلنا سنموت؛ وهذا قدَر البشرية، ولكن الحياة أيضاً جميلة وتستحق أن نهتم بها. ويجب أن نعيشها بالعمل والتعارف والتسامح والتعامل مع الآخر دون رفضه. ولعل أبلغ دليل على أهمية الحياة نهي رسول الله عن اقتلاع الشجر؛ وما نقل عنه أنه لو قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فليغرسْها!! وهذه رسالة واضحة عن مدى أهمية الحياة عند الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم.
فلماذا لا يترجم المتشددون سيرة الرسول العظيم ومواقفه من الحياة على هذا النحو؟ ولماذا لا يتوقفون عن تذكير الإنسان فقط بالآخرة وعذاب القبر والنار وجهنم والأفاعي والهوام. دون أن يدعوه إلى الحياة الدنيا بالعمل الخير والتسامح والإنتاجية وحسن الخُلق وصيانة ساعات العمل، وأن العمل عبادة!! لقد "وتَّرَنا" البعض -هداهم الله- ببعض التفاسير والسلوكيات؛ مما ساعد على إبعاد فئة كبيرة من المسلمين عن معاني الإسلام السمحاء. ولقد استمد هذا البعض "شراسته" بل و"شرعيته" من بعض التعليمات التي تهدف إلى تشكيل إنسان قابل للموت في أية لحظة! هذا المشروع الذي يجعل شاباً لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر يرفض الحياة ويحيط جسده بالمتفجرات ويذهب ليبث الرعب في الآمنين؛ اعتقاداً منه بدخول الجنة ونيل الشهادة؟! فأي شهادة تأتي من قتل المسلمين الآمنين؟!
وهذه هي نتيجة الفهم الخاطئ للإسلام! نحن بصراحة نحتاج إلى مواقف جديدة تقرِّب شبابنا من الإسلام وعدالته وسماحته؛ وتزيل الصورة المجترئة على الإسلام في ذهن الآخر، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر. وأن يظهر دعاةُ يرون أبعدَ من أنوفهم. دعاةٌ يُحبِّبُون الآخر في الإسلام. وتكفينا قرونٌ من الغلو والتشدد والممارسات الخاطئة باسم الإسلام!
أكاديمي وإعلامي قطري
[email protected]
وجهات نظر