د. وحيد عبد المجيد* -
المرجعية الدينية.. وأزمة الحركات الإسلامية
مشكلة حركات الإسلام السياسي, التي تملأ المنطقة صخبا, ليست فقط في المواقف التي تتخذها تجاه هذه القضية أو تلك. فهذه المواقف تنتج عن قراءة معينة للأحداث وطريقة محددة في النظر إلي الأمور, أي عن المنهج الذي تعمل بمقتضاه تلك الحركات.
ولذلك تبدو مشكلتها الأعمق في المنهج, وبالتالي في العقل. إنها أزمة العقل الأصولي السني حين يتصدي لمسألة الدولة والنظام السياسي دون أن يمتلك الأدوات اللازمة للتوفيق الخلاق بين ما لا يستطيع أن يتجاهله وما لا يقدر علي تجاوزه. فلا الحركات الاسلامية قادرة علي تجاهل ضرورات السياسة العصرية وأسسها الديمقراطية, ولا في إمكانها أن تتجاوز موروثات دولة( أو بالأحري دول ودويلات وإمارات) الخلافة في مرحلة ما قبل الديمقراطية. ويجوز أن نلخص جوهر أزمة الاسلام السياسي علي هذا النحو, وبقدر من الاختزال, في العجز عن بلورة صيغة توفق( ولا تلفق) بين سيادة الأمة التي تقوم عليها أي دولة حديثة, وسيادة الشريعة بالمعني الموروث الذي أصابه الجمود لفترة طويلة بسبب غياب الاجتهاد.
ولعل هذا هو المصدر الأول لارتباك حركات الاسلام السياسي في تعاملها مع قضية الدولة والسلطة والحكم علي مدي نحو ثمانية عقود. فهي مرتبكة بين مبدأ الحكم للشعب ومبدأ الحاكمية لله.. تتقدم خطوة إلي الأمام وتعود أخري إلي الوراء, لأسباب أهمها أنها لم تستطع الارتقاء إلي المستوي الذي تتطلبه مواجهة معضلة كبري علي هذا النحو.
فقد تعاملت معها بطريقة أقرب إلي التلفيق منها إلي التوفيق الخلاق الذي ينتج عنه مركب جديد يجمع بين مبدأي الحكم للشعب والحاكمية لله, ولكن انطلاقا من أن السيادة النهائية هي للأمة صاحبة الحق في اختيار حكامها ومساءلتهم ومحاسبتهم وانتخاب من ينوبون عنها ويستمدون سلطتهم منها وليس من أي هيئة أو جهة غيرها.
كان هذا, ومازال, هو جوهر أزمة حركات الإسلام السياسي, ومصدر ارتباكها وعنوان عجزها عن التكيف والاندماج. ولذلك فعندما اهتدي بعضها إلي فكرة( الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية) بدا الأمر كما لو أنه يحمل بشري الاقتراب من حل معضلة التوفيق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة.
ولكن سرعان ما تبين أن هذه الفكرة ليست أكثر من عنوان عام لم نجد تحته إلا فراغا, مثله في ذلك مثل شعارات أخري أبرزها الإسلام هو الحل. وما كان لحديث( الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية) أن يسد فراغا طال أمده في التعامل مع قضايا الدولة والسلطة والحكم إلا إذا تضمن اجتهادا جديدا يغوص في أعماق هذه القضايا, ويقدم رؤية للمرجعية الدينية ـ السياسية مستقلة عن نظرية ولاية الفقيه الشيعية التي طبقت في إيران بعد ثورة آيات الله.
فبالرغم من الاختلاف الكبير بين التراث الشيعي الذي أنتج هذه النظرية, وتراث أهل الجماعة, فقد أثار حديث( الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية) خوفا من أن يقع أصحابه أسري هذه النظرية من حيث لا يقصدون ولا يرغبون. وأشفق عليهم كل من يعرف ضعف قدرتهم علي التوفيق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة.
ولا ننسي, هنا, أن مفهوم المرجعية الدينية ـ السياسية نفسه غامض في الفكر الإسلامي السني, بخلاف الفكر الشيعي الذي يتعارض فيه هذا المفهوم تعارضا مباشرا وربما كاملا مع مقتضيات النظام الديمقراطي. فالمرجعية في الفكر الشيعي تعبر عن معني شمولي رأينا كيف أدي تجسيده في إيران إلي إقامة دولة دينية لا مكان فيها حتي للقوي الوطنية التي تحالفت مع آيات الله ضد النظام الشاهنشاهي ولعبت أدوارا مقدرة في إسقاطه.
وليس هنا مجال مناقشة النظام السياسي الإيراني. فما يعنينا هو التطبيق المحدد لمفهوم المرجعية الدينية, والذي يضع السلطة العليا والنهائية بين يدي علماء الدين.
وجاء البرنامج الذي أعده الإخوان المسلمون أخيرا وطرحوه للنقاش فأكد صدقية خوف الخائفين من أن يؤدي ضعف القدرة علي الاجتهاد الخلاق في قضايا الدولة والسلطة إلي الوقوع في أسر الاجتهاد الشيعي بشأن المرجعية الدينية ـ السياسية. فقد جعل هذا البرنامج المرجعية الدينية سلطة عليا فوق سلطات الدولة, من خلال تشكيل هيئة من كبار علماء الدين في الأمة ترجع إليها السلطة التشريعية في القوانين التي تصدرها, وكذلك رئيس الجمهورية عند إصداره قرارات لها قوة القانون.
وهي ليست هيئة استشارية, بل سلطة قرار تستطيع تعطيل عمل البرلمان المنتخب من الشعب استنادا إلي سلطة لا يمكن القول إنها ليست ذات طابع ديني.
كما أن عضويتها لن تقتصر, فيما يبدو, علي المصريين, لأن مفهوم الأمة عند أصحاب البرنامج يتسع لكل مسلم في مغارب الأرض ومشارقها. ويعني ذلك أنه قد يكون بين أعضائها مسلم أمريكي مثلا أو باكستاني له حق نقض ما يصدر عن نواب الشعب المصري.
ولذلك فإن وجود هيئة علماء الدين, علي هذا النحو, ينسخ كل ما ورد في البرنامج من تفاصيل نظام سياسي لا يختلف عن أي نظام ديمقراطي, من حيث إنه يقوم علي انتخابات يقول البرنامج إنها لابد أن تكون نزيهة, وعلي مشاركة شعبية يراد لها أن تكون حرة, وما إلي ذلك.
غير أن ما يجعل النظام ديمقراطيا من عدمه ليس مثل هذه التفاصيل وإنما المبادئ التي يقوم عليها وفي مقدمتها مبدأ سيادة الأمة. فهذا المبدأ هو الذي يجعل السلطة النهائية هي للهيئات المنتخبة من كل أصحاب حق الااقتراع, وليس فقط من بضع عشرات أو مئات من علماء الدين.
وهذا المبدأ هو الذي يجعل السلطة المنتخبة مسئولة أمام من انتخبوها يراقبونها ويحاسبونها ويستطيعون إنزال أشد العقاب بها في يوم الاختيار حين يحين موعد الانتخابات التالية. فأين من هذا كله السلطة النهائية التي جاء بها برنامج الإخوان, ووضعها فوق المراقبة والمساءلة والمحاسبة مثلما جعلها فوق السلطات المنتخبة علي نحو يهدر مبدأ سيادة الأمة, ويقوض بالتالي الأساس الذي لا يقوم بدونه نظام ديمقراطي.
وهكذا أعاد هذا البرنامج إنتاج أزمة حركات الإسلام السياسي, ولكن في صورة أكثر وضوحا من حيث إنه أظهر مدي العجز عن تطوير مفهوم للمرجعية يوفق بشكل خلاق بين سيادة الأمة وسيادة الشريعة, ولا تكون السلطة العليا أو النهائية فيه لعلماء الدين أو غيرهم ممن يحتكرون الحديث باسم الدين.
*الاهرام المصرية