المؤتمرنت - جامع عمرو بن العاص.. درة مساجد القاهرة ما بين رائحة الماضي وعبق التاريخ وسير الصحابة الأجلاء من جانب، وفخامة المسجد وطرازه المعماري من جانب آخر تأتي صلاة التراويح في شهر رمضان الكريم في أول مسجد بني في أفريقيا ومصر، لتكون بمثابة صلة بذكرى من طيب الله ثراهم، ورغبة في الاستزادة من أجواء رمضان التي يفوح عبيرها حول مسجد عمرو بن العاص وداخله. ولعل هذا ما يفسر الزحام الشديد الذي يلف أرجاء المسجد ويمتد الى حدود الكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي الواقعين بالقرب منه فيما يعرف باسم «مجمع الأديان» في حي مصر القديمة بالقاهرة. «صلاة التراويح هنا لها طعم مختلف وبخاصة مع صوت المقرئ محمد جبريل» هكذا يفسر المصلون ترددهم على هذا المسجد بالتحديد وحرصهم على الصلاة فيه، راضين بأقل مساحة تسمح لهم بالوقوف للصلاة، فيما تمتلئ الشوارع المحيطة بالمسجد بالعديد من الباعة الذين يبيع كل منهم بعضاً مما يحتاجه المصلون. فذاك يقف «بطواقي» مختلفة الألوان والأشكال، وهذا يبيع عطورا زيتية متنوعة وسواكاً وكتيبات للأدعية، وآخر يقف بجلابيب الصلاة المخصصة للرجال، وإسدالات الصلاة للنساء والفتيات اللاتي لا يمنعهن الزحام من التواجد في المسجد والمشاركة في صلاة التراويح فيه. في هذا المسجد يصدق قول الله تعالي ورسوله بأنه لا فرق بين أحد من العباد الا بالتقوى، فالجميع سواسية رجل فقير يصلي بجوار أحد رجال الأعمال، وسيدة تنتمي لإحدى الأسر الثرية بجوارها خادمة في أحد المنازل، الجميع يصلي في خشوع. أكثر من ألف وأربعمائة عام هو عمر المسجد العتيق الذي أسسه عمرو بن العاص في مدينة الفسطاط التي اختارها لتكون مقراً لعاصمة مصر الإسلامية، بناء على طلب الخليفة عمر بن الخطاب الذي أمر إبن العاص ببناء مسجد تقام فيه شعائر الصلاة. وليشارك في تحديد قبلة مسجد عمرو بن العاص أكثر من ثمانين صحابيا منهم الزبير بن العوام، رافع بن مالك، أبو الدرداء، عقبة بن نافع، وليكون بذلك أول مسجد في مصر وأفريقيا والرابع في الإسلام بعد مساجد المدينة والبصرة والكوفة. كان بناء الجامع في البداية متواضعا بسيطا، فقد بلغ طوله 50 ذراعا وعرضه 30 ذراعا أخرى، كما لم يكن له صحن أو محراب مجوف أو مئذنة، وبنيت جدرانه الخارجية من الطوب اللبن دون وجود للزخارف، أما سقفه فصنع من الجريد بينما صنعت أعمدته من جذوع النخل. وقد بلغ ارتفاع الجامع من الداخل نحو 3 أمتار.
لم تستمر بساطة عمارة المسجد طويلا، حيث تعرض الجامع لتغيرات وتوسعات متتالية في عصور إسلامية مختلفة غيرت من وضعه الأصلي، وكانت أول هذه التوسعات ما قام به مسلمة بن مخلد الأنصاري والي مصر من قبل معاوية بن أبي سفيان أول حاكم في الدولة الأموية. حيث قام الأنصاري ببناء أربعة صوامع فوق أركان الجامع الأربعة مشابهة للأبراج التي كانت في أركان المعبد الروماني بدمشق في ذلك الوقت، وكان المؤذنون يصعدون إليها بدرج من خارج الجامع لإقامة الصلاة، وكانت هذه الصوامع بذلك أول نموذج للمآذن بمصر. وفي عهد والي مصر عبد العزيز بن مروان، تمت توسعة الجامع من الناحية الغربية، بينما قام الوالي قرة بن شريك أحد ولاة الدولة الأموية على مصر، بهدم الجامع وإقامة أربعة أروقة له أكبرها رواق القبلة، كما أقام محرابا مجوفا ووضع به منبر خشبي ووضع أمام المحراب مقصورة مثل مقصورة معاوية بن أبي سفيان بالجامع الأموي بدمشق. وفي العصر العباسي شهد المسجد مضاعفة مساحته عدة مرات كان أكبرها في عهد الوالي عبد الله بن طاهر، حيث تضاعفت مساحته وأصبحت حوالي 112 ×120 مترا تقريبا. إلا أن الجامع دمر تماماً إبان الحملات الصليبية على بلاد المسلمين في المنطقة العربية، حيث تخوف المسلمون من احتلال مدينة الفسطاط التي يوجد فيها جامع عمرو بن العاص، فقام الوزير شاور عام 564 هجرية، بإشعال النيران فيها لعجزه عن الدفاع عنها فاحترقت المدينة بكاملها بما فيها مسجد عمرو بن العاص بعد أن استمرت النيران مشتعلة لمدة 45 يوما، إلا أن القائد صلاح الدين الأيوبي قام بإعمار الجامع بعد تلك الحادثة، وقام ببناء صدر الجامع والمحراب الكبير وكساه بالرخام ونقش عليه نقوشا كثيرة منها اسمه. وظل الجامع على حاله حتى كان عام 1212 ميلادية وقت سيطرة الخلافة العثمانية على مصر، حيث قام الأمير مراد بك بإعادة بناءِ الجامع بعد هدمه، إثر سقوط إيوانه وميل أعمدته. كما بنى بالمسجد منارتين لا تزالان باقيتين حتى الآن. وليظل المسجد على حاله حتى حلت حقبة التسعينات من القرن الماضي والتي شهدت عدة انهيارات كان أشدها ما وقع في 24 مارس 1996 عندما انهار نحو 150 مترا من سقف المسجد ولتعلن وزارة الثقافة المصرية غلق المسجد وترميمه وإعادة بناء ما تهدم منه، حيث ظل مغلقاً لسنوات ولم يفتتح للصلاة الا منذ نحو العامين. وليصبح تحفة معمارية حيث يتكون من مدخل رئيسي بارز يقع في الجهة الغربية للجامع الذي يتكون من صحن كبير مكشوف تحيط به أربعة أروقة ذات سقوف خشبية، أكبر هذه الأروقة هو رواق القبلة ويتكون من 21 بائكة عمودية على جدار القبلة، وتتكون كل بائكة من ستة عقود مدببة مرتكزة على أعمدة رخامية. كما يوجد بجوار القبلة لوحتان ترجعان الى عصر مراد بك، بينما يوجد بالركن الشمالي الشرقي لرواق القبلة قبة يعود تاريخها الى عبد الله بن عمرو بن العاص، كما يتوسط الجامع قبة مقامة على ثماني أعمدة رخامية مستديرة الشكل، ويتوج واجهات الجامع من الخارج شرفات هرمية مسننة، وللجامع مئذنة يعود تاريخها الى عصر مراد بك، وهي عبارة عن مئذنة بسيطة تتكون من دورة واحدة ذات قمة مخروطية.
يذكر أنه ومنذ إنشاء الجامع، لم يقتصر نشاطه على أداء الفرائض الدينية، بل كان مسجداً جامعاً لأمور الدنيا والدين، حيث كانت توجد به محكمة لفض المنازعات الدينية، وبيت للمال، كما كانت تعقد فيه حلقات دروس لكبار العلماء أمثال الإمام الشافعي والليث بن سعد، والعز بن عبد السلام. وحتى الآن يقوم المسجد بأنشطة متعددة، فيوجد فصول تقوية مجانية ومكتبة بها العديد من الكتب والمراجع الدينية، وأنشطة اجتماعية أخرى من خلال المقرأة ولجنة الزكاة، هذا بخلاف دروس العلماء مثل الدكتور إسماعيل الدفتار خطيب الجامع والعديد من الشيوخ الآخرين. أما إذا أردت الصلاة في المسجد في رمضان وبخاصة في الليالي العشر الأخيرة فعليك التواجد به من صلاة العصر قبل الإفطار لتستطيع ان تجد لك مكاناً فيه كما يقول عم رمضان أحد خدام المسجد والذي أكد أن أكثر الليالي ازدحاماً هي ليلة القدر التي يبدأ توافد المصلين على المسجد فيها منذ صلاة الظهر، وهناك بعض المصلين يأتون قبلها بيوم خاصة القادمين من صعيد مصر وذلك للفوز بمكان خال داخل الجامع. ومع بدء موعد الإفطار يتبادل المصلون ما معهم من اطعمة في مودة وتراحم يفطر القلوب. وحين يقترب موعد صلاة العشاء والتراويح يكون الجامع والطرقات والشوارع المحيطة به قد إمتلأت عن آخرها.
*الشرق الاوسط |