أحمد الحبيشي -
حاطِبُ ليل ٍ أضاعَ ظِلـَّه في النـَّهار 1-2
في عددها الصادر يوم الخميس الموافق 20 سبتمبر 2007م، برقم (1977) نشرت صحيفة "الثوري" الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي اليمني رسالةً وجهها "الرفيق" علي صالح عباد (مقبل) الأمين العام السابق للحزب إلى فخامة الرئيس علي عبدالله صالح، عرض في الجزء الأكبر منها قراءة ملتبسة للأوضاع في المحافظات الجنوبية واختتمها بعشرة مطالب سياسية، ثمانية منها ذات طبيعة جهوية تتعلق بالمحافظات الجنوبية التي كان يحكمها الحزب الاشتراكي اليمني قبل الوحدة لمدة 23 عاماً، وظلت تحت سيطرته ونفوذه السياسي والعسكري خلال السنوات 1990 - 1994م بعد الوحدة.
كما تطرق الرفيق علي صالح عباد (مقبل) في جزءٍ بسيطٍ وهامشي من تلك الرسالة للأوضاع السياسة والعامة على مستوى الوطن اليمني، مضيفاً إلى المطالب الجهوية الثمانية، مطلبين آخرين دعا فيها إلى حوار وطني بين القوى السياسية لوضع مشروع كامل للإصلاح السياسي، والشروع في اتخاذ خطوات عملية لتحقيق ما أسماها (المصالحة الوطنية).
بوسع كل من يقرأ هذه الرسالة بعقل نقدي أن يلاحظ العديد من التناقضات التي تؤشر على محاولة توفيقية بائسة للخلط بين مواقف واتجاهات متناقضة، ومتصارعة برزت داخل الحزب الاشتراكي اليمني بعد قيام الوحدة، ثمّ تفاقمت بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية الأولى في أبريل 1993م، ودخوله - بعد ذلك - مرحلة عاصفة بالأزمات الحادة والمواقف الرمادية منذ حرب صيف 1994م وحتى الآن.
ولئن كنت أعذر الرفيق (مقبل) على ما شاب تلك الرسالة المنسوبة إليه من مواقف ومطالب ملتبسة بسبب هجمة الأمراض التي لم ترحم صحته، إلى جانب معاناة الفترة الصعبة التي قاد خلالها الحزب الاشتراكي اليمني بعد الحرب والانفصال وخروجه من السلطة إلى المعارضة، فإنّ ذلك لا يمنع أحداً من مناقشة ونقد مضامين هذه الرسالة بصرف النظر عن نوع الأصابع التي تركت بصماتها واضحة على سطورها، حيث اختارت تلك الأصابع شخص "الرفيق" علي صالح عباد كوسيلة سهلة لتمرير مواقف رمادية لا تحظى بإجماع داخل قيادة الحزب التي تعاني من انقسامات وخلافات وأزمات مستمرة، أسهمت في إفقاد الحزب هويته وإسقاطه في مأزق حاد سبق لكاتب هذه السطور أن حاول مقاربة الأسباب والظروف التي قادت هذا الحزب ذا التاريخ الكفاحي الوطني العريق إلى هذا المأزق، في تسعة مقالات نشرتها مؤخراً صحيفة "26 سبتمبر" الأسبوعية على امتداد شهرين ونيف بعنوان "طبول المجابهة بين المواقف الرمادية والزوايا الحادة".
وبقدر ما نالت تلك المقالات استحسان وتأييد وتفهم العديد من القيادات التاريخية والبارزة للحزب الاشتراكي في الداخل والخارج من خلال رسائلهم الإليكترونية واتصالاتهم الهاتفية معي، بقدر ما أثارت غضب وحنق بعض القيادات الطارئة والمأزومة على نحوٍ ما عبّر عنه الرفيق علي محمد عبده "الصراري" في مقال إنشائي مثقل بالسباب والشتائم نشره في العدد رقم (11) من صحيفة "الأهالي" الصادر في صنعاء يوم 18 / 9 / 2007م، وعجز فيه عن مناقشة ما جاء في تلك المقالات من حقائق ووقائع وأحداث موثقة بالتواريخ والمصادر. وقد اكتفى "الصراري" - كعادته دائماً - بوصف ما جاء في تلك المقالات بما أسماها "الدسائس في روايات الحبيشي للتاريخ"، مشيراً إلى أنّ الهدف منها هو الدس بين "الاشتراكي" و"الإصلاح" لإنهاء تحالفهما المشترك ضد السلطة، ولم يقل "التزوير" لأنّه لو قال ذلك سيجد نفسه مرغماً على تفنيده وتكذيبه، وسيدخل يداه في عش الدبابير، متوهماً أنّ الاكتفاء بإطلاق صفة "الدسائس" على ما جاء في تلك المقالات كافٍ للخروج من مأزقه!!
بيد أنّ "الصراري" خرج عن آداب الحوار والنقاش بطريقة تستدعي الرد عليها ــ طالما وأنّ رسالة "مقبل" التي سأناقشها في هذا المقال لا تخلو من أصابع ورموز التيار الذي يعد الصراري من أبرز رموزه ــ حيث أشار إلى أنني تحدثت عــــــــــن ( الزعيم الوطني العظيم علي سالم البيض بحيادية واحترام.. وهو موقف يحسب لانتهازي مدمن على تلطيخ كل ما هو مشرف ) بحسب ما جاء في مقاله المنشور بجريدة "الأهالي".
وبهذا الصدد أود التأكيد على أنني امتلك من الشجاعة والحرية ــ أكثر من الصراري وأضرابه ـــ للدفاع عن علي سالم البيض الأمين العام الأسبق للحزب، على النقيض من الانتهازيين الذين يتاجرون اليوم باسمه في شوارع عدن والمكلا والضالع ومجالس "القات" في صنعاء وصحف ( اللقاء المشترك ).
إنّ الانتهازيين الذين أدمنوا على تدنيس كل ما هو مشرف، وأساءوا إلى التاريخ المشرف للمناضل علي سالم البيض هم أولئك الذين حاصروا شراكته الوطنية الوحدوية مع أخيه الرئيس المناضل علي عبدالله صالح بالألغام والممانعات والأزمات خلال المرحلة الانتقالية بعد قيام الجمهورية اليمنية .. وهم الذين أدخلوه - بدون إرادته - في مناطق رمادية وزوايا حادة، وهم الذين أقنعوه بأنّ الجنوب والجنوبيين عبارة عن "كم نسبي" أسمته رسالة مقبل "كماً مهملاً" لا يشكل سوى 20 % من دوائر مجلس النواب.. وهم الذين أوهموه بأنّ الحزب الاشتراكي يسيطر من خلال جناحه الشمالي (حوشي سابقاً) على الثمانين في المائة الباقية من الوطن اليمني كله، وقادر على اكتساح غالبية مجلس النواب بدون الحاجة إلى شراكة مع الرئيس علي عبدالله صالح والمؤتمر الشعبي العام.
إنّ الانتهازيين الذين أدمنوا على تدنيس كل ما هو مشرف، هم الذين دفعوا المناضل علي سالم البيض إلى الخروج غاضباً وكئيباً من قاعة اللجنة المركزية بصنعاء يوم 21 يونيو 1993 م ، ودفعوه للاعتكاف في منزله لمدة أسبوعين قطع خلالها حتى اتصالاته الهاتفية حتى إعلان مغادرته إلى واشنطن 25 يونيو 1993م للعلاج بعد أربعة أيام من رفض اللجنة المركزية اتفاقية التنسيق التحالفي على طريق التوحد مع المؤتمر الشعبي العام التي أقرها الاجتماع الموسع للمكتب السياسي واللجنة العامة بتاريخ 11 مايو 1993م، ثمّ أقرتها اللجنة الدائمة في دورتها المنعقدة خلال الفترة 8 - 10 يونيو 1993م، ليعود بعدها إلى عدن.. ثم نظموا له حفلة زار وقرعوا طبول المواجهة، وأحرقوا المباخر حتى وقعت الفاجعة.
إنّ الانتهازيين الذين أدمنوا على تدنيس كل ما هو مشرف، هم الذين لم يكتفوا بتدنيس الرصيد الوطني الوحدوي للمناضل علي سالم البيض بعد أن دخل التاريخ مناضلاً وحدوياً، وأخرجوه منه انفصالياً، بل أنشبوا فوق جسده المثخن بالجراح أظافرهم ومخالبهم وأنيابهم في أول اجتماع للّجنة المركزية عقدته بالعاصمة السورية دمشق بعد الحرب، ثمّ جاءوا إلى القاهرة لإقناع النازحين بتقديمه كبش فداء قرباناً للحوار والمصالحة مع الرئيس علي عبدالله صالح والعودة إلى صنعاء. وهم الذين عادوا إلى صنعاء بعد ذلك محنطين في توابيتهم التي خرجوا وأخرجوا بها علي سالم البيض.. ثمّ اتجهوا بانتهازية سياسية للحوار والمصالحة والتحالف العبثي مع خصومهم ، والصلاة خلف جلاديهم الذين أفتوا بتكفيرهم وبجواز إبادة المسلمين المدنيين من الرجال والنساء والأطفال المتترس بهم من قبل الكفار الاشتراكيين، ولم يترددوا في التحريض والكذب على الناس من على منابر الجمعة حين اتهموا الحزب الاشتراكي بأنّه ( كان يخطط لغزو الكعبة وتحويلها إلى مرقص)!!!
إنّ الانتهازيين الذين أدمنوا على تدنيس كل ما هو مشرف، هم الذين أغلقوا أمام علي سالم البيض كل الطرق المؤدية إلى المزيد من فضاءات الوطن والتاريخ.. ولم يتركوا أمامه سوى طريقين ضيقين فقط.. حيث خرج في الطريق الأول كئيباً وحزيناً من صنعاء إلى عدن عبر واشنطن بعد أن رفضت اللجنة المركزية اتفاقية التنسيق التحالفي على طريق التوحد بين الحزب والمؤتمر.. أما الطريق الثاني فقد أخرجه من الوطن والتاريخ عبر الحدود الشرقية إلى خارجهما منكسراً ومهزوماً بعد أن دنس الانتهازيون تاريخه الوطني الوحدوي المشرف بقرار الانفصال الذي أقره المكتب السياسي للحزب في عدن أثناء الحرب، ثمّ أرسله إليه مع رسالة تكليف بقراءته وإعلانه بصوته من مقر إقامته في المكلا.
إنّ الانتهازيين الذين أدمنوا على تلطيخ كل ما هو مشرِّف هم الذين اكتشف البيض عندما كان في عدن خداعهم ومكرهم يوم تساءل عن جحافلهم التي ستكتسح صنعاء وبيارقهم التي سترتفع فوق مبانيها.. وهم الذين غمزهم عبر قناة mbc في اللحظات الأخيرة قبل انسحابه إلى عُمان بقوله مستنكراً : "حتى ما عشـّروا". وهم الذين سبق له أن تساءل عن مصير مئات الملايين من الريالات التي صرفت لهم (يوم كان الدولار بثلاثين ريالاً)، أثناء انتخابات 1993م، مقابل الهزيمة المروعة والفاجعة في الدوائر الانتخابية بالمحافظات الشمالية، بعد أن كانوا يغترفون وينهبون من خزانة الشطر الجنوبي قبل ذلك ــ ولسنوات طويلة ــ عشرة ملايين دينار سنوياً ، بحسب وثائق الموازنات السنوية للحزب في الشطر الجنوبي خلال الفترة 1982 - 1986م، (يوم كان الدينار يساوي 3 دولارات) بزعم تغطية تكاليف النشاط الحزبي لثلاثمائة ألف عضو في المحافظات الشمالية بينما كان أعضاء الحزب في الجنوب لا يزيد عددهم عن ثلاثين ألفاً فقط!!
فلا جحافلهم زحفت صوب قصر الرئاسة.. ولا بيارقهم ارتفعت فوق مباني الإذاعة والتلفزيون والمطار ومداخل العاصمة صنعاء مثلما كانوا في بدايات الثمانينات يتوهمون.. ولا مواكب محازيبهم وأنصارهم غمرت شوارع صنعاء وتعز والحديدة وذمار وإب حاملة رايات الحزب المنتصرة، وصور البيض الباسمة، بعد فوز موعود في انتخابات 1993م، مثلما كانوا في بدايات التسعينات يزعمون.
نفاق مكشوف
تدل القراءة الفاحصة للجزء الأكبر من رسالة الرفيق "مقبل" ومطالبها العشرة على أنّ ثمة محاولة يبذلها ما يوصف بتيار "الأغلبية" في قيادة الحزب الاشتراكي لممارسة نوع مكشوف من النفاق الانتهازي مع ما يوصف بتيار الأقلية في اللجنة المركزية بقيادة مسدوس وباعوم تحت تأثير الإفرازات المشوَّهة لتكتيك اللجوء إلى الشارع الذي تستخدمه أحزاب "اللقاء المشترك" منذ فشلها في الانتخابات الرئاسية والمحلية، بهدف استغلال معاناة الناس من الارتفاع العالمي للأسعار، وتوظيف الاختلالات وما تبقى من الآثار السلبية لفتنة 1994م باتجاه تعكير السلم الأهلي وإرباك السلطة وإلهاء الحكومة عن تنفيذ البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية، وصولاً إلى تحقيق هدفها الحقيقي وهو الانقلاب على الديمقراطية والاستيلاء على السلطة بعيداً عن صندوق الاقتراع.
ولما كان تكتيك اللجوء إلى الشارع مفتوحاً على لعبة عمياء تفتح الباب لمرور وتسلل مشاريع ورياح وأتربة غير محسوبة، ودخول زوايا حادة يصعب الخروج منها، فقد انقلب السحر على الساحر، حيث أصبح واضحاً أنّ الذين استسهلوا التعاطي مع تكتيك "اللجوء إلى الشارع" من قيادات وأوليغارشيات "اللقاء المشترك" وجدوا أنفسهم في مأزق حادٍ وسط الشارع الذي نزلوا إليه.. ومن أبرز ملامح هذا المأزق نجاح ما يسمى بتيار الأقلية في اللجنة المركزية بقيادة مسدوس وباعوم في استثمار تهافت تيار الأغلبية نحو مخرجات الشارع، وتلبيسه بخطابٍ ذي نزعات جهوية ونعرات مناطقية مدمرة.
لقد أصبحت المهمة المحورية للحزب بعد خروجه إلى الشارع هي تبني ما تسمى بـ"القضية الجنوبية" والدعوة إلى حوارٍ سياسي حول هذه القضية والاتفاق على آليات حلها استناداً إلى اتفاقية الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق وقراري مجلس الأمن الدولي أثناء الحرب والتزامات السلطة للأمم المتحدة في يوليو 1994م، وهو ما كان - ولا يزال - يطالب به تيار الأقلية بقيادة مسدوس وباعوم، فيما كان ما يسمى بتيار الأغلبية يرفضه بحزم قبل أن يجد نفسه أسيراً في فخ هذا الخطاب بعد أن ورطه حزب "التجمع اليمني للإصلاح" الذي كان له سبق المبادرة إلى المتاجرة بآثار حرب 1994م بطريقة انتهازية وغير مبدئية، بهدف توظيفها ضمن أوراق سياسية أخرى لإضعاف الحزب الحاكم، وإرباك حكومته ومنعها عن تنفيذ البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية.
وقد جاء بيان الدورة الأخيرة للجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، ومن بعده رسالة "مقبل" إلى رئيس الجمهورية ليقدما دليلاً ساطعاً على عمق المأزق الحاد الذي يعيشه الحزب حالياً بعد أن تمكن تيار الأقلية بقيادة مسدوس وباعوم من فرض أجندته على نحوٍ ما جاء في بيان اللجنة المركزية ورسالة أمينها العام السابق من قراءة رمادية للأوضاع وصياغة عمياء للمهام والمطالب، الأمر الذي يزيد من تعقيد الموقف المأزوم لما يسمى بتيار الأغلبية في اللجنة المركزية، والذي كان يرفض ويخاصم خطاب ومطالب ما يسمى بـ«تيار مسدوس - باعوم» بحدةٍ وعنف.
يقيناً أنّ كتبة رسالة "مقبل" استهدفوا إيهام قرائها بأنّ المساحة ما بين ما يسمى بـ«تيار الصراري وتيار مسدوس - باعوم»، قد تمّ ردمها.. وأنّ الحزب أصبح موحداً حول قضية وطنية واحدة يتبناها "اللقاء المشترك" بقيادة حزب التجمع اليمني للإصلاح، على نحوٍ ما جاء في المطلبين (التاسع والعاشر) في خاتمة رسالة "مقبل" التي اختزلت عملياً قضايا الحزب المحورية في "المسألة الجنوبية"، استجابة لمطالب تيار مسدوس - باعوم، ثمّ حاولت الرسالة في خاتمتها بلورة آلية لتنفيذها من خلال حوار وطني (المطلب التاسع) يقود إلى مصالحة وطنية وإصلاح سياسي وطني (المطلب العاشر)، وهو مؤشر جديد يدل على أنّ أزمة الحزب الاشتراكي أوصلت قيادته المأزومة إلى زاوية حادة يبدو فيها تيار الأغلبية بقيادة الصراري أسيراً ومختطفاً وسط شارع تيار "الأقلية" بقيادة مسدوس وباعوم، فيما يقوم "الرفيق" مقبل بدور الوسيط للتوفيق بين الخاطفين والمخطوفين، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدكتور محمد حيدرة مسدوس بما هو المسؤول عن مصير المخطوفين من تيار الصراري لم يكن يخفي أطروحات وآراء التيار الذي يقوده داخل الحزب والمعروفة بقوله : "إنّ القضية المحورية لقيادات الحزب من المعارضين السابقين، لنظام الحكم في الشطر الشمالي قبل الوحدة، كانت ولا زالت تتلخص في مواصلة حرفتهم الوحيدة وهي معارضة سلطة الرئيس علي عبدالله صالح، وبقية القائمين عليها بعد الوحدة"!!
أحراش المسألة الجنوبية
تأسيساً على ذلك يمكن القول إنّ الأصابع التي تركت بصماتها على سطور رسالة ومطالب الرفيق علي صالح عباد "مقبل"، حاولت - بشكل لا يخلو من النفاق الانتهازي الساذج - البحث عن طوق للنجاة يعيد الدور القيادي لما يُسمى بـ«تيار الأغلبية» من خلال التظاهر بتبني أجندة تيار الأقلية، وتقديم البرهان على أنّ الحزب الاشتراكي لا يزال موحداً، حتى وإن كان ثمن ذلك هو السقوط في أوهام وأحراش "المسألة الجنوبية" التي لا تنتمي بأي حالٍ من الأحوال إلى تاريخ الحزب الاشتراكي، ورصيد كفاحه الوطني المشرف ضد كافة المشاريع الاستعمارية السلاطينية التي ارتبطت بما كانت تسمى بـ"القضية الجنوبية"، منذ ظهور مشروع اتحاد إمارات الجنوب العربي في نهاية الخمسينات كرد فعل لشعارات الاستقلال والوحدة اليمنية التي ارتفعت بعد اندلاع إضرابات مارس العمالية الشهيرة عام 1956م، ودخول الطبقة العاملة اليمنية ميدان العمل الوطني كقوة سياسية منظمة في نقابات.
ومن نافل القول إنّ مشروع اتحاد الجنوب العربي كان يستهدف نزع الهوية اليمنية عن الجنوب المحتل، وتلفيق هوية بديلة.. وقد بدأ هذا المشروع يلفظ أنفاسه بقيام ثورة 14 أكتوبر التي أنجزت الاستقلال الوطني للجنوب، وأطلقت الرصاصة الأخيرة على مشروع "الجنوب العربي" بما هو نظام حكم انجلو سلاطيني معادٍ للهوية الوطنية اليمنية، وأقامت على أنقاضه جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي أعادت الهوية اليمنية إلى جنوب الوطن بعد تحريره من الاستعمار في 30 نوفمبر 1967م، وصولاً إلى قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م، التي أعادت للوطن اليمني المشطور وجهه الشرعي الواحد.
قبل أن نناقش المطلبين التاسع والعاشر في رسالة الرفيق علي صالح عباد (مقبل) حيث دعا المطلب رقم (9) إلى حوارٍ وطني بين القوى السياسية في السلطة والمعارضة فيما دعا المطلب (10) إلى تحقيق المصالحة الوطنية، يتوجب التوقف أمام المطالب الثمانية الباقية والمقدمة السياسية التي هيأت لها، وما انطوت عليه من تناول لما أسمته الرسالة "حركة الاعتصامات والاحتجاجات في المحافظات الجنوبية"، حيث حرص الرفيق (مقبل) على تقديم قراءة أحادية الجانب لهذه الاعتصامات والاحتجاجات" بوصفها نتاجاً موضوعياً لتراكم الآثار السلبية التي نجمت عن حرب صيف 1994م، بحسب رؤية كاتب الرسالة التي اتهمت السلطة بما أسماه "إذلال الجنوبيين الذين ضحوا بدولتهم ودمجوها بدولته الموحدة، وتهميشهم والسعي لطمس ذاكرتهم السياسية ومحاولة إقناعهم بأنّهم يمثلون كماً مهملاً ملقياً على قارعة الطريق".
واللافت للنظر أنّ الرسالة تجاهلت المسؤولية التي يتحملها تكتيك "اللجوء إلى الشارع" عن التداعيات الخطيرة التي نجمت عن هذا التكتيك، وما ترتب عليه من مخاطر لا تهدد فقط السلم الأهلي والوحدة الوطنية، بل أنّها تمتد لتفتح الأبواب واسعة لدخول تيارات مختلفة من الداخل والخارج، وإحياء مشاريع ميتة دفنتها الحركة الوطنية اليمنية بنضالها وتضحياتها، وبالذات نضال وتضحيات أبناء الجنوب اليمني الذين تصدوا لمشروع "الجنوب العربي" عندما حاول الاستعمار البريطاني تمريره بهدف تطويق شعارات الاستقلال والوحدة اليمنية التي رفعتها الأحزاب والقوى السياسية الوطنية والنقابات العمالية والطلاب والشباب والنساء في منتصف الخمسينات، على إثر ظهور الطبقة العاملة اليمنية كقوة سياسية منظمة في نقابات، وانخراطها في العمل الوطني التحرري، حيث كان الهدف من هذا المشروع يتمحور حول سلب وطمس الهوية اليمنية للجنوب المحتل وتلفيق هوية بديلة ومزيفة بدلاً عنها.
ومما له دلالة أنّ الذين كتبوا الرسالة المذيلة باسم الرفيق "مقبل" لم ينكروا مخاطر انفتاح تكتيك اللجوء إلى الشارع على كل الاحتمالات والكوارث التي تهدد بتمزيق وحدة الوطن وتماسك نسيجه الاجتماعي، وبضمنها مشروع "الجنوب العربي".. ومشروع "حضرموت التاريخية "، التي حرص الاستعمار على أن يحتفظ لها بكيان مستقل عن اتحاد الجنوبي العربي. لكن الرسالة تناولت هذه المخاطر بحياء شديد وبهروب إلى الخلف ــ وليس إلى الأمام ــ حيث اكتفى بالتحذير مما أسماه "الانهيار وتسليم مستقبل اليمن للمجهول" في إشارة تبريرية لتفاعل بعض اللاعبين السياسيين في حركة الشارع من المحسوبين على الحزب الاشتراكي اليمني مع الخطاب المشبوه والشعارات الانفصالية التي تتحدث عن "الجنوب العربي" و"جنوبنا العربي" و"حضرموت التاريخية قبل الوحدة والشرعية" عبر بعض المسيرات والمقالات والمداخلات في بعض وسائل الإعلام المحلية والعربية على طريق التعاطي مع ما تسمى بالقضية الجنوبية التي سيطرت على بيان الدورة الأخيرة للجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني ورسالة أمينه العام السابق التي وجهها عبر صحيفة "الثوري" وصحف ومواقع إليكترونية أخرى إلى رئيس الجمهورية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اصطلاح "القضية الجنوبية" كان عنواناً لثقافة سياسة استعمارية سلاطينية رجعية استهدفت طرح قضية الجنوب المحتل والتعامل معها من منظور جيوسياسي انعزالي يخرج مصير الجنوب اليمني وأهله من هويتهم الوطنية اليمنية، ويبعدهم عن مصيرهم المستند إلى حقائق التاريخ والجغرافيا ووحدة الأرض والإنسان.
كان الحزب الاشتراكي اليمني الذي وُلد وتطوَّر على خلفية التاريخ الكفاحي الوطني التحرري للقوى الوطنية التي ناضلت ضد الاستبداد والاستعمار، يتعامل مع قضية تحرير الجنوب اليمني المحتل من الاستعمار ومع قضية الوحدة اليمنية بعد الاستقلال باعتبارها قضية وطنية تندرج ضمن أهداف ومبادئ ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر كامتداد متطور لنضالات وتضحيات شعبنا اليمني من أجل الحرية والاستقلال والديمقراطية والوحدة والتقدم الاجتماعي.
ولما كانت الوحدة التي تحققت في الثاني والعشرين من مايو 1990م قد اقترنت بالديمقراطية كشرطٍ لحمايتها وترسيخها وتعميق مضمونها الوطني، فمن الطبيعي أن تتعرض الوحدة للخطر عند الخروج عن مبادئ وقواعد الممارسة الديمقراطية وعدم الاعتراف بنتائجها والسعي للانقلاب عليها عبر التهديد باللجوء إلى الشارع على نحو ما أعلنته أحزاب "اللقاء المشترك" فور إعلان فشلها في الانتخابات الرئاسية والمحلية لعام 2006م، وما فعلته بعد أقل من مرور عام على تلك الانتخابات من خلال تحريض الشارع ضد نتائج تلك الانتخابات التي شهد العالم بشفافيتها وتعدديتها وأبدى إعجابه بالروح التنافسية غير المسبوقة التي تميزت بها.
صحيح أنّ الرسالة حذرت من مستقبل مجهول يهدد الوطن بسبب تداعيات ما أسمته "حركة الاعتصامات والاحتجاجات في المناطق الجنوبية"، لكن الرسالة تحمل السلطة وحدها المسؤولية عن هذه التداعيات وتتجاهل مسؤولية أحزاب "اللقاء المشترك"، عن ما يترتب عليها من مخاطر، بلجوئها إلى الشارع بهدف الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية والمحلية، وبالتالي الانقلاب على الديمقراطية التي تُعد الضامن الرئيسي والوحيد لحماية وترسيخ وحدة الوطن والمجتمع.. حيث يخطئ من يتوهم أنّ بإمكانه الحفاظ على الوحدة الوطنية من خلال الانقلاب على الديمقراطية وعدم الاعتراف بنتائجها ورفض التعايش معها.
لا يختلف اثنان على أنّ فتنة 1994م والحرب التي رافقتها قد ألحقت أضراراً بالحياة السياسية والوحدة الوطنية. لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنْ المؤتمر الشعبي العام بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح أدرك ضرورة إزالة آثار تلك الحرب وإغلاق ملفاتها عنها بواسطة العديد من القرارات والإجراءات والمبادرات والتوجهات التي استهدفت إزالة معظم الآثار الناجمة عن تلك الحرب ومعالجة ما تبقى منها.
وبالمقابل فإني امتلك الشجاعة والحرية في القول إنّ ثمة أطرافاً في السلطة والمعارضة تحرص على أن يبدأ تاريخها السياسي الحقيقي من النقطة التي انتهت إليها تلك الحرب، ومن بينها تلك التي لعبت دوراً كبيراً في تأزيم الحياة السياسية خلال السنوات الأربع السابقة لتلك الحرب منذ قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990م، مروراً بالأزمة الناجمة عن نتائج 1993م، وانتهاء بحرب صيف 1994م، وإعلان مشروع الانفصال على نحو ما سبق لي عرضه في تسعة مقالات نشرتها صحيفة 26 سبتمبر خلال الأسابيع الماضية، والتي أشرت فيها إلى مسؤولية الحزب الاشتراكي اليمني والتجمع اليمني للإصلاح ــ بوصفهما لاعبين أساسيين في "اللقاء المشترك" ــ عن التداعيات التي نجمت عن شراكتهما في تأزيم الحياة السياسة قبل الحرب وبعدها وفي الوقت الحاضر. ناهيك عن مسؤولية السلطة في تجاهل ما تراكم من مشكلات بفعل سلوك بعض المتنفذين الذين تورطوا بالاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي والتصرف بعقارات الدولة والأوقاف لغرض المضاربة بها، والسكوت إزاء الإدارات الفاشلة التي تسببت في ركود وتعثر العديد من المؤسسات العامة، وعدم محاسبة الفاسدين الذين كشفت تقارير الجهاز المركزي للمراجعة والمحاسبة تورطهم في نهب المال العام، بالإضافة إلى عدم تصحيح السياسات المركزية المفرطة التي أحدثت شللاً تاماً في عمل ونشاط الموانئ والمطارات وبعض المرافق الحيوية في المحافظات الجنوبية ، على الرغم من الإنجازات التنموية غير المسبوقة في مجال تحديث بنيتها التحتية، ما أدى إلى إهدار هذه الإنجازات بسبب عدم تشغيلها.
بيد أنّ الاعتراف بخطورة التداعيات الناجمة عن الحرب وتهديدها للوحدة والديمقراطية والتأكيد على ضرورة إزالة آثارها السلبية، لا يبرران اللجوء إلى تزييف الوعي والهروب إلى الخلف تارة أو إلى الأمام أحياناً على نحوٍ ما فعله بيان الدورة الأخيرة للجنة المركزية ورسالة أمينه العام السابق إلى رئيس الجمهورية من خلال استبدال القضية الوطنية للحزب الاشتراكي بما تسمى "القضية الجنوبية" والظهور في صورة من يلطم الخدود ويصرخ بالبكاء والعويل على "الجنوبيين" الذين أصبحوا "كماً مهملاً بعد أن تخلوا عن دولتهم ودمجوها بدولة الوحدة طوعاً " بحسب رسالة الرفيق العزيز"مقبل".
الثابت أنّ هذا الاستخلاص الوارد في الرسالة والذي ينطوي على تزييف للوعي، لم يأتِ من فراغ، بل أنّ الذين كتبوا الرسالة بنوا ما جاء فيها على رؤية اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في البيان الصادر عن دورتها الأخيرة لما تسمى بـ"القضية الجنوبية" ومطالبتها بالعودة إلى دستور دولة الوحدة ووثيقة العهد والاتفاق وقرارات مجلس الأمن الدولي أثناء حرب 1994م، بمعنى إحياء الشراكة بين الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام في إعادة بناء دولة الوحدة استناداً إلى اتفاقيات الوحدة المبرمة بين الشطرين قبل الوحدة؟؟!
الغريب في الأمر أنّ اللجنة المركزية تباكت على دستور دولة الوحدة، وطالبت بإلغاء التعديلات الدستورية التي جرت للدستور بعد الحرب، وهو ما يطرحه أيضاً حزب التجمع اليمني للإصلاح في العديد من التناولات التي ظهرت في صحافته وعلى لسان قادته وكتابه ومثقفيه الذين يتناسون مسؤولية حزبهم عن أبشع وأقبح التعديلات التي انتهكت مبادئ المواطنة المتساوية ومهدت لتعديلات قانونية امتهنت حقوق المرأة وكرست التمييز ضدها تحت ضغط مشاركة حزب ( الاصلاح ) في الحكومة الائتلافية التي تشكلت على إثر خروج الحزب الاشتراكي من السلطة بعد حرب صيف 1994م وفشل مشروع الانفصال . مع الأخذ بعين الاعتبار ان النصوص الدستورية التي تؤكد على مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات أمام الدستور والقانون كانت في مقدمة أسباب مقاطعة الاخوان المسلمين إجتماع مجلس الشورى في صنعاء صباح يوم 22 مايو المكرس لإقرار مشروع دستور دولة الوحدة قبل ساعات من رفع علم الجمهورية اليمنية الموحدة في عدن، كما كانت أيضا سببا رئيسياً لمقاطعة حزب (الاصلاح ) الاستفتاء على الدستور بعد قيام الوحدة . علما بأنّ الكتلة البرلمانية للحزب الاشتراكي اليمني وأنصارها من المستقلين الذين رشحهم الحزب في انتخابات 1993م، ساندت التعديلات الدستورية التي أجراها مجلس النواب بناء على قرار اتخذه تيار الأغلبية الذي هيمن على اللجنة المركزية بعد الحرب، قضى بتصويت كتلة الحزب البرلمانية وأنصارها لصالح تلك التعديلات. وقد صدر ذلك القرار في أول دورة للجنة المركزية بعد الحرب خلال الفترة 1 - 6 سبتمبر 1994م بالموافقة على تلك التعديلات من خلال كتلة الحزب البرلمانية كمساهمة من الحزب في تطبيع الحياة السياسية بعد الحرب!!
الفائز الأوفر حظا ً
لم يعد سرا ً ان تيار الأقلية الذي يمثله "مسدوس وباعوم" كان الفائز والأوفر حظاً بنتائج تكتيك الانقلاب على الديمقراطية عبر اللجوء إلى الشارع، وهو تكتيك تنتهجه أحزاب "اللقاء المشترك" وفي مقدمتها حزب "الإصلاح" والحزب الاشتراكي اليمني الذي تسيطر عليه أغلبية قيادية طالما وصفها تيار مسدوس - باعوم بأنّها أغلبية "تمثل معارضي سلطة الرئيس علي عبدالله صالح قبل الوحدة الذين انفردوا بقيادة الحزب بعد هزيمة "القيادات الجنوبية" في حرب صيف 1994م، ثم عملوا على توظيف الحزب لصالح حرفتهم القديمة التي أدمنوا عليها، وهي المعارضة الدائمة والمطلقة للرئيس وسلطته "بحسب ما جاء في العديد من مقالات وتصريحات مسدوس.
من نافل القول أنّ مسدوس كثيراً ما تحدث عن حالة "الكم المهمل" التي يعيشها "الجنوبيون" بعد أن دمجوا دولتهم في دولة الوحدة، وهو ما تكرر تلميحاً بشكل غير مباشر في بيان اللجنة المركزية الأخير، وتصريحاً بشكل مباشر في رسالة مقبل، وهي حالة تنطوي على نوعٍ من تزييف للوعي تدحضه حقائق التحولات السياسية والإنجازات الاقتصادية التي غيّرت وجه محافظات ومدن الجنوب ، بعد أن كانت تعيش في عهد التشطير ركوداً شاملاً بفعل السياسات التي كبحت ومنعت المبادرات الحرة والاستثمارات الخاصة، وحالت دون مشاركة المجتمع في التنمية الاقتصادية والعمرانية، فيما لعبت كل السياسات الخاطئة دوراً سلبياً في حرمان الشطر الجنوبي من مساعدات الدول الشقيقة والمجاورة والمجتمع الدولي، نتيجة حصر العَلاقات الاقتصادية والتجارية الخارجية مع منظومة صغيرة ومحدودة القدرات لتسع دول اشتراكية فقط في العالم.
تنطوي مقولة "الكم المهمل للجنوبيين في دولة الوحدة بعد أن دمجوا دولتهم بها " على مشروع سياسي سبق لمسدوس أن طالب الحزب الاشتراكي بضرورة تبنيه بزعم " أنّ الحزب مسؤول تاريخياً عن مصالح الناس في الشطر الذي كان يحكمه بحسب ما جاء في مقال نشره في صحيفة "الثوري" بتاريخ 23 / 5/ 2002م، أشار فيه إلـى "مسؤولية الحزب التاريخية عن الأخطاء التي ارتكبها بسبب إدمان قياداته المتعاقبة على سياسة إحراق المراحل التي شكلت على الدوام أهم مصدر للمعاناة والكوارث ".
في عديد من المقالات والتناولات تحدث تيار مسدوس - باعوم بكل فخر عن سبق الحزب في طرح خيار الوحدة الاندماجية مقابل خيار الفيدرالية أو الكونفدرالية التي تقدم بها الرئيس علي عبدالله صالح لدى مبادرته في طرح مشروع الوحدة على الحزب الاشتراكي أثناء زيارته لعدن أواخر نوفمبر 1989م، ثم يعود هذا التيار - بكل خفة - ليقول ــ أيضا ً ــ إنّهم اتخذوا قرار الوحدة الاندماجية بعاطفة متسرعة، وينسون دائماً حقيقة أنّ السياسة التي تصاغ بالعواطف بدلاً من العقل، لا تؤهل صناعها للاستمرار فيها، كما لا تؤهلهم أيضاً للمطالبة بإصلاحها، بل للمحاسبة والعزل أو الاستقالة.
المثير للدهشة أنّ كتبة رسالة الرفيق "مقبل" اتهموا السلطة بمعاملة "الجنوب والجنوبيين" من منظور ما أسموه "الكم المهمل" متجاهلين أنّ قيادة الحزب الاشتراكي وفي مقدمتها علي سالم البيض اكتشفت بعد فاجعة النتائج التي حققها الحزب في انتخابات 1993م، أنّ الحزب فاز فوزاً كاسحاً في جميع دوائر المحافظات الجنوبية فقط، وبما لا يتجاوز 19% تقريباً من مقاعد مجلس النواب التي يمنحها دستور دولة الوحدة لهذه المحافظات بحسب التعداد السكاني.
في الطريق إلى الوحدة لم يكن الحزب الاشتراكي اليمني يتعامل مع مصير المحافظات التي يحكمها كممثل لهم من واجبه أن يتحمل المسؤولية التاريخية عنهم بحسب ما يطرحه تيار مسدوس - باعوم، وما تضمنه بوضوح بيان اللجنة المركزية ورسالة "مقبل" أمينها العام السابق .. بل أنّه كان يبالغ في تقديم نفسه كممثل لكل اليمن ووريث تاريخي لنضال الشعب اليمني بأسره وفق ما كانت تقول به وثائقه وأدبياته حتى قيام الوحدة، تحت وهم أنّ فرعه الشمالي (حزب الوحدة الشعبية) منتشر كالهواء في كل المدن والقرى والجبال والسهول والبوادي على امتداد المحافظات الشمالية التي كانت تحكمها سلطة الرئيس علي عبدالله صالح، وأنّ مجرد قبول الرئيس علي عبدالله صالح وسلطته بالاحتكام إلى صندوق الاقتراع بعد قيام الوحدة كافٍ لوصول الحزب إلى السلطة وقيادة اليمن الموحد بعد ذلك.
ولهذا فإنّ القول بأنّ "الجنوبيين" وجدوا أنفسهم " كماً مهملاً " بعد أن دمجوا دولتهم بدولة الوحدة مردود على اللجنة المركزية للحزب، وعلى الذين كتبوا رسالتهم إلى رئيس الجمهورية باسم الأمين العام السابق للحزب، بعد أن أصبحوا رهائن في شارع تيار مسدوس - باعوم، وبعد أن انقلب سحرهم عليهم بفعل استخدام تكتيك "اللجوء إلى الشارع" بهدف الانقلاب على الديمقراطية، والاضطرار للتأقلم والتكيف مع الغبار والرياح والأتربة والعواصف غير المحسوبة التي ينفتح عليها كل شارع.
لم يعد خافياً على أحدٍ أنّ الحزب الاشتراكي اليمني أُصيب بحالة انعدام الوزن بعد أن فقد دور الشريك المتساوي في السلطة، وحصوله على موقع حزب أقلية بنسبة 19 % من مقاعد البرلمان هي أصوات المحافظات الجنوبية التي كان يحكمها، مقابل هزيمة مروِّعة وفاجعة في المحافظات الشمالية التي كان يراهن عليها، الأمر الذي دفع الحزب إلى المطالبة بأساليب مموَّهة أو صريحة بالتراجع عن الصيغة الاندماجية خلال الأزمة السياسية التي نجمت عن صدمة الحزب بنتائج انتخابات 1993م، إلى جانب طرح الصيغة الفيدرالية التي كان الرئيس علي عبدالله صالح سبَّاقاً إلى طرحها أثناء زيارته لمدينة عدن أواخر نوفمبر 1989م، وقوبلت برفض شديد من قيادة الحزب الاشتراكي، الذي أصر على إنزال مشروع دستور دولة الوحدة في صيغته الاندماجية للاستفتاء، علماً بأنّ الصيغة الفيدرالية التي اقترحها الرئيس علي عبدالله صالح للوحدة بين الشطرين، كانت تنطوي على إمكانية إعادة صياغة مشروع دستور دولة الوحدة لاستيعاب أسس الدولة الفيدرالية التي اقترحها الرئيس علي عبدالله صالح أثناء زيارته التاريخية لعدن أواخر نوفمبر 1989م، والتي كانت تضمن للشطر الجنوبي وضعاً متساوياً في دولة الوحدة لا يستند إلى الكم السكاني الذي يراه الحزب حالياً - بحسب بيان اللجنة المركزية ورسالة أمينها العام السابق - بأنه أصبح " كماً مهملاً بعد أن دمج الجنوبيون دولتهم في دولة الوحدة"!!؟؟
يصعب فهم الوضع الحالي الذي آل إليه الحزب الاشتراكي بدون منهج تحليلي نقدي، خصوصاً بعد أن نجح تيار مسدوس - باعوم في فرض أجندته السياسية على ما يسمى بـ«تيار الأغلبية» في اللجنة المركزية الذي وجد نفسه مخطوفاً على أيدي أنصار تيار مسدوس - باعوم في الشارع الذي راهنوا عليه، حيث يتم اختزال قضية إزالة آثار حرب صيف 1994م - وهي قضية وطنية بامتياز - في صيغة "قضية جنوبية، تتماهى مع مشاريع بالية وميتة، تسللت عظامها الرميمة إلى لا وعي الذين تدثروا بأتربة ورياح الشوارع التي أوهمتهم بحسب ما جاء في بيان اللجنة المركزية ورسالة أمينها العام السابق بأنّ التاريخ سيعود إلى الوراء يوماً لإحياء ثنائية الجنوب والشمال.. بمعنى أنّ تياري الأغلبية والأقلية اللذين التقيا على حين غرة في الشارع المنقلب على الديمقراطية ونتائج صناديق الاقتراع، لا يتحدثان - بطبيعة الحال - عن المصالح الحقيقية للناس في الجنوب، بل عن مصالح فوقية وامتيازات نخبوية لحفنة من السياسيين المدمنين على الفشل وصناعة الأزمات والحروب الداخلية والكوارث. ولو كان هذان التياران يدافعان حقاً عن مصالح أهلنا في الجنوب، فثمة طرق وأبواب ووسائل متاحة وفاعلة يمكن استخدامها.. إذ لا يوجد وجه واحد فقط للحقيقة.. ولا توجد وسيلة واحدة فقط لخدمة مصالح الناس.
*نقلا عن صحيفة الثورة