ا.د/ جهاد عودة -
نحــو تطـوير النظــام الرئاسـي
لابد من التنويه في مقدمة هذا المقال, أولا: أن النمط الدستوري للنظام الرئاسي يأتي في أشكال مختلفة. فكل من الولايات المتحدة الأمريكية, وفرنسا, وروسيا, والبرازيل, وشيلي, وإندونيسيا, وغيرها كلها نظم رئاسية, ولكنها مختلفة من حيث القواعد المنظمة لعلاقة سلطات الدولة مع بعضها البعض, ثانيا: إن تطور النمط الدستوري لنظام الحكم لا يعكس في المقام الأول تفضيلات ثقافية, ولكن اعتبارات مرتبطة بتفاعلات ونمط العلاقة بين الدولة والمجتمع. وإنه يمكن التحول من شكل رئاسي ما إلي شكل آخر, طالما أن محددات العلاقة بين الدولة والمجتمع مازالت في الأغلب الأعم كما هي مستمرة عبر الزمن.
في البدء كان الإعلان عن تشكيل اللجنة التحضيرية للمؤ تمر المصري للإصلاح السياسي والدستوري1999 مؤشرا حادا علي أن هناك تغيرا يلوح في الأفق متعلقا بالفكرة القانونية السائدة لدي أفراد من المجتمع السياسي المصري, تتجه نحو تفضيل ثقافي للنمط الدستوري للنظام البرلماني. وأخذ هذا الاتجاه مسعاه الجاد بتوقيع نحو ما يربو علي150 شخصية حزبية قيادية وعامة من الاتجاهات السياسية والفكرية المختلفة, علي نداء يطلب التحول من النظام الجمهوري الرئاسي إلي النظام الجمهوري البرلماني. ومنذ ذلك الوقت أخذت الدعوة تنمو, ولكن من غير قوي وأفكار مجادلة ومناقضة لها. حيث إنه من الجدل الفكري لهذه القضية ونقيضها تبرز الحقيقة التي ربما تكون هي الحفاظ علي النظام الرئاسي, ولكن مع تغير قواعد التفاعل المؤسسي والعلاقة بين السلطات داخله.
يجب الفصل أولا بين قضيتين, الأولي: قضية الحريات والانتخابات, والثانية: هي شكل نظام الحكم. والخلط بين القضيتين خطأ منهجي, يقود إلي فساد الاستدلال العقلي ويضع الحياة السياسية علي مشارف الفوضي.
وبالنسبة لشكل نظام الحكم, فالخبرة التاريخية توضح أننا كنا في نظام برلماني قبل الثورة, وكانت الحياة السياسية تتسم بعدم استقرار سياسي شديد, حيث كانت أحزاب الأقلية تزور الانتخابات بهدف الهيمنة علي البرلمان. إضافة إلي ذلك لايجب إغفال فساد الوفد كما تجلي في الكتاب الأسود وحكومات مابعد عام1940. وبالمقابل فإننا الآن نعيش في ظل شكل من أشكال نظام رئاسي معطلة فيه آليات المحاسبة البرلمانية والمحاسبة السياسية بحيث قزمت الإرادة البرلمانية في الممارسة اليومية, وربما هناك وقائع عديدة تشير إلي أن نظاما بهذا الشكل لا يساعد علي حياة اقتصادية وسياسية سليمة حيث إن تعطيل رئة البرلمان لا تساعد الجسد السياسي علي الصحة والحياة بقوة.
وبالنظر حولنا نجد أن النظم التي تنهج النمط البرلماني, تعاني فسادا بنائيا, كما هو الحال في إسرائيل واليابان وإيطاليا وبالمقابل يلاحظ وجود أنماط من النظام الرئاسي, ليست فيها أية ضمانات لعدم الفساد.. وهناك وقائع كثيرة في النظامين الفرنسي والأمريكي تشير إلي ذلك.
خلاصة القول إن القضية ليست برلمانية أم رئاسية, ففي الواقع لا يوجد شيء يجعل من النظام البرلماني ـ من ناحية الأصالة الدستورية ـ أفضل من الرئاسي أو العكس, فهناك نظم برلمانية مورس فيها احتكار السلطة لمدد طويلة, وهناك نظم برلمانية كانت الوزارات تتغير كل عام أو عامين. أما بشأن النظام الرئاسي, فنحن نعلم أن عدم احتكار السلطة في الولايات المتحدة أو في فرنسا, لم يساعد في منع سوء استخدام السلطة, وهناك أمثلة كثيرة في بلدان العالم.
إذن القضية الرئيسية هي النزاهة, وليست القيود القانونية أو الدستورية أو الشكل المؤسسي. فهذه القضايا يتم التواضع عليها أو تغييرها في ظل وجود اتفاق سياسي عام. والنزاهة ليست قضية اخلاقية, ولكن في الأساس إجرائية تنصرف إلي القدرة المؤسسية علي ايجاد إجراءات متماسكة ومتكاملة مع بعضها البعض, في إطار دولة دستورية, وهي تلك الدولة التي تتصف في النظرية والفقه بالتوازن بين السلطات الثلاث والضمان الدستوري لحقوق وحريات الأفراد. في هذا السياق يمكن أن نعدل نظامنا الرئاسي ليعكس بشكل أفضل مضمون الدولة الدستورية.
وهكذا فإن القضية الكبري ليست هي شكل نظام الحكم, ولكن في مصادر الثقافة السياسية القانونية التي تؤسس مفهوم النظام العام الدستوري, وهو النظام الذي يصوغ احتمالات القواعد المنظمة للسلطات, في إطار فكري تتناسب فيه قيم الحداثة والتقليدية في أسلوب إدارة نظام الحكام وبناء الشرعية السياسية. وهذا لا يتأتي إلا بتأسيس فلسفة عامة للدولة لمصلحة إقامة الدولة الدستورية.
فالنظام الدستوري المصري منذ الإعلان الدستوري في10 فبراير عام1953 حتي دستور1971 وتعديلاته تبرز فيه المبادئ الدستورية الرئيسية التالية:
1 ـ أولوية السلطة التنفيذية كما هو الحال في النظامين الفرنسي والأمريكي.
2 ـ ثنائية السلطة التنفيذية بين رئيس جمهورية ورئيس وزراء, وهي الثنائية التي عكست قلقا وتساؤلا في الفقه والشارع السياسي, حول مدي استقلالية كل منهما في مواجهة الآخر, هذا مع التسليم من حيث المبدأ بسيادة وسمو موقع رئيس الجمهورية.
3 ـ المسئولية الوزارية أمام البرلمان, وهي العملية التي أصابت الكثير بالإحباط بسبب عدم وجود القوانين الصحيحة للمساءلة حول السياسات العامة الوزارية.
4 ـ التعددية الحزبية, وهنا يلاحظ أن التعددية ليست مذكورة إلا في باب الدولة, كتعريف لها دون أن تذكر في باب نظام الحكم. ومن أجل سيادة مبادئ الدولة الدستورية الرئاسية, يجب ذكر التعددية كأحد مبادئ نظام الحكم.
5 ـ الحريات العامة والضمان الاجتماعي, وهنا يمكن القول إن الدستور المصري في تطور قد حافظ علي هذه القيم.
من هذه المنطلقات تأتي أهمية الدفاع عن النظام الجمهوري الرئاسي, باعتبارها ليست فقط حقائق تعبر عن تطور النظام العام الدستوري المصري, ولكن أيضا تعبر عن حقائق ديمغرافية وجيوبلوتكية. إن الدفاع عن النظام الرئاسي قد يتطلب تطويره ليتناسب مع العصر, وهذا كما يحدث في الأمم الأخري التي تريد المعاصرة والاستمرار.
*استاذا العلوم السياسية بجامة حلوان
*عن 26 سبتمبر