عبد المنعم سعيد* -
دولة الإخوان الدينية مرة أخرى!
حينما كتبت منذ أسبوعين حول «دولة الإخوان الدينية فى مصر» كانت نقطة البداية في المقال هي الشعور بخيبة الأمل الشديدة في البرنامج الحزبي الذي طرحه الإخوان على الرأي العام لأن الانتظار الذي طال للبرنامج صحبه التمني أن ينتهي قرار الإخوان إلى اقتراب من النموذج التركى، ولكن ما جرى كان التصاقا بالنموذج الإيراني. وعند مراجعة ما كتبه بعض الإخوان، أو المتعاطفين معهم في الصحافة المصرية والعربية، بما فيها ما كتب على هذه الصفحة، جعل ما طرحه الإخوان فى برنامجهم أمرا إيجابيا يشهد لهم بالصدق والشجاعة وطرحا للاعتقاد السائد والأصيل داخل الجماعة، وليس جزءا من رطانة المتلاعبين بأفكار الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان لملاعبة الرأي العام في الداخل والخارج. فقد جاء النقد الأساسى للجماعة ـ حتى ظلمت نفسها ـ من هؤلاء الذين شعروا بأن المحافظين قد تغلبوا على «الساسة» داخل حركة الإخوان فجرى النطق بما لا ينبغي النطق به قبل حلول ساعة التمكين والسيطرة.
ومع ذلك فإن جماعة «الساسة» والمعبرين عنهم حاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال تغيير مضمون ما نص عليه في البرنامج، بالزعم أن الهيئة الدينية المقترحة في عملية التشريع ليست «بالتعاسة» التي جرى بها الوصف حيث لا تزيد عن كونها هيئة «استشارية» بينما بقي القرار النهائي للهيئة المنتخبة من الشعب. ولكن الحقيقة ليست كذلك في النص الصريح للبرنامج حيث يقول إن رأي الهيئة وليس المجلس المنتخب هو النهائي فيما يتعلق بأمور بعينها بينما تركت أمور أخرى للمجلس حيث يقول النص بلا مواربة «ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع، ويكون للسلطة التشريعية في غير الأحكام الشرعية القطعية المستندة إلى نصوص قطعية الثبوت والدلالة القرار النهائي بالتصويت بالأغلبية المطلقة على رأي الهيئة». تجاهل هذا النص الصريح من قبل «ساسة» الإخوان كان نوعا من البهلوانيات السياسية، والتدليس المتعمد على المواطنين، وهو ما يمتد إلى قضية مشاركة الأقباط والمرأة في الحكم، فالقضية لم تكن مقصورة على منصب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، بل هي ممتدة إلى الهيئة التشريعية لكبار العلماء المنتخبين من علماء الدين حيث لا مكان لامرأة أو لقبطي لا بين الناخبين ولا بين المنتخبين بحكم ما هو معلوم من طبيعة رجال الدين بالضرورة. ولا يحل المشكلة ذلك التعريف للدولة المدنية التي تقوم على أساس الكفاءة والجدارة حيث يرد التعريف هكذا فقط عندما تنعقد النية على التمييز لأنها فى الأصل من طبيعة الأشياء التي لا تذكر. وهو ما يظهر فورا عند التأكيد على مراجعة عمل المرأة خاصة فيما بتعلق بعملها فى القضاء، بل ويصل فورا إلى برامج تعليمية خاصة بالفتيات لا تقام من باب الاختيار، وإنما من باب التأكيد على الفوارق والتمايزات. أما بالنسبة للأقباط، فالقضية ليست أن ملكة بريطانيا ينبغى لها أن تنتمي إلى الكنيسة الأنجليكانية، أو أن ملكة الدانمارك تنتمي إلى الكنيسة اللوثرية، وإنما أن الدولة الإخوانية لها «وظائف دينية» يضرب لها مثال قرار الحرب الذي لا بد وأن يكون قرارا شرعيا يحاسب عليه رئيس الدولة من هذه الزاوية. فإذا كان ذلك كذلك فما هو مكان المسيحي فى هذه الحرب الدينية وهو الذي جمعه مع المسلم الدفاع عن الوطن ومصالحه الإستراتيجية العليا؟؛ وإذا مد المنطق على استقامته، وخرج المسيحيون من جيش الحروب الدينية، ألا تكون هذه هي المناسبة التى يطبق فيها رأي مرشد الإخوان السابق مصطفى مشهور في منع تجنيد المسيحيين وفرض الجزية عليهم مقابل الحماية!
هذا القول الأخير ليس موجودا بهذه الصراحة في برنامج الإخوان، ولكنه هو الاستنتاج الوحيد من جعل قرار الحرب قرارا شرعيا وليس قرارا وطنيا. وحتى لا يقفز أحد ويقول بانعدام التناقض بين ما هو شرعي وما هو وطني تعالوا نتعامل مع حالة محددة تتعلق بقرار مصر بالمشاركة في حرب تحرير الكويت. ففي دولة الإخوان فإن مثل هذا القرار لا بد من عرضه على المجلس التشريعي، وعلى هيئة كبار العلماء، من أجل استيفاء الضوابط الشرعية لقرار الحرب. وهنا سوف يظهر رأي يرى أن الحرب غير واجبة شرعا لأنها سوف تجري ضد مسلمين، كما أنها سوف تكون تحالفا مع الولايات المتحدة الغاشمة والظالمة معا؛ كما سوف يظهر رأى آخر، له شرعيته الدينية هو الآخر وهو أن دخول الحرب ضروري لأنه وقوف ضد الظلم ونصرة للشعب الكويتى المسلم، وكما هو الحال فى مثل هذه الأحوال سوف يظهر رأي ثالث يرفض دوافع ومبررات الرأيين الآخرين. حل مثل هذه القضية لا يمكن أن يكون بالتصويت بين رأى الأغلبية والأقلية، لأنه لا توجد أغلبية وأقلية فيما يخص شرع الله وإنما يوجد حق وباطل. ولو جرى ذلك على أى الأحوال، وجاء قرار برفض المشاركة فى الحرب، وقرر المجلس التشريعى أن مصالح مصر الإستراتيجية العليا، وعلاقتها الاقتصادية والسياسية بدول الخليج، وخشيتها من تغيير توازن القوى فى المنطقة، كل ذلك يحتم مشاركة مصر فى الحرب، فكيف يكون القرار ساعتها، وما هو موقف الجماعة القبطية من نقاش دينى يجرى داخل الجماعة المسلمة ؟!.
ولكن القضية ليست التمسح بملكة انجلترا أو ملكة الدنمارك، بذات الدرجة التي تتمسح فيها الحكومات العربية عندما ينتشر فيها الإرهاب فإنها تقول إن الإرهاب قضية عالمية، وعندما تزيد البطالة يتم الاستشهاد بعشر دول تزخر بالبطالة، وهكذا الحال مع التضخم والفساد. وإنما القضية هي هل لدينا قبول بالنظم السياسية التي تفرزها هذه الدول؟ أم أن «الأصولي» يصير ديمقراطيا حسب المقاس السياسى، واللحظة المواتية. وعلى أي الأحوال فإن الدولة الثيوقراطية ذات القرارات الدينية والوظائف الشرعية ليست هي كل جوهر برنامج الإخوان أو برامجهم السابقة منذ عام 2005 وحتى الآن. فكافة وثائق الإخوان تضيف لدولتهم الشمولية عملية كبرى لإعادة «بناء الإنسان المؤمن» تماما كما كان أهل اسبرطة يبنون الإنسان المحارب، والنازية السوبرمان، والشيوعيون الإنسان الجديد، والناصرية إعادة بناء الإنسان المصري؛ حيث تجري عملية قسرية لقولبة الإنسان والتحكم في عقله. وكل هذه الوثائق تقول بدولة تدخلية تضاعف البيروقراطية المصرية الحالية وتجعل الدولة متحكمة في أرزاق المواطنين؛ وكل ذلك بينما تجري مواجهة عظمى مع إسرائيل والولايات المتحدة والأساطيل الأجنبية في الخليج والبحر الأحمر ولبنان التي تمثل تهديدا مباشرا للأمن القومى المصري والأمن العربي وأمن الدول الإسلامية المجاورة، ولا يظن أن المقصود هنا تركيا العضو في حلف الأطلنطى وإنما إيران! ومن الجائز بالطبع أن يكون كل ذلك نوعا من الكلمات، والضجيج غير المقصود، ولكن في العلاقات الدولية فإن مثل هذا الكلام يؤخذ بجدية كاملة، كما أن نتائجه الداخلية على الأرجح هي خلق حالة من الهستيريا القومية والدينية التي عندها يتم بناء الدولة الفاشية في أنقى صورها!
*الشرق الاوسط