السيد يسين* -
الإسلام السياسي والمرجعية الدستورية
يطلق مفهوم الإسلام السياسي على الجماعات الإسلامية التي ترى أنه لا فصل بين الدين والسياسة، على أساس أن الإسلام عقيدة شاملة تنظم كل أمور الحياة سياسية كانت أم اقتصادية أم ثقافية. ولعل هذه الرؤية هي التي كانت وراء شعار "الإسلام هو الحل" الذي ترفعه جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وتعتقد أنها بذلك أغلقت باب الاجتهاد السياسي -إن صح التعبير- أمام باقي الأحزاب السياسية، لأن لديها الحلول لكل المشكلات، فيما تطلق عليه بغموض شديد "الإسلام" هكذا بدون تحديد واضح، ولا بيان مفصَّل.
و"الإخوان المسلمون" في سوريا مثلهم مثل أقرانهم في مصر، ينطلقون في مشروعهم السياسي الذي حاولنا أن نعرض خطوطه العريضة ونحلله نقدياً في مقالاتنا الماضية، يعتبرون المرجعية لهم -كما ورد في الوثيقة الرسمية التي أصدروها- هي "أن الشريعة الإسلامية في مصدريها الخالدَين الكتاب والسُّنة هي مصدر رؤيتنا لصياغة مشروع حضاري يتصدى لتحديات الواقع، وما فيه من أسن وركود أو قهر وبغي وظلم".
والواقع أن هذه الصياغة تكشف عن قصور شديد في فهم المشروع الحضاري. فأي مشروع حضاري عصري لا يمكن له أن يكتفي بالقول إنه يستند إلى "تأويل" للكتاب والسُّنة لكي يتصدى لتحديات الواقع. وذلك لسبب بسيط مؤداه أن "تحديات الواقع" التي يشير إليها المشروع أعقد كثيراً من أن توصف بعبارات إنشائية جوفاء ولا معنى لها، مثل "الأسن والركود والقهر والبغي والظلم"! ففي ذلك خلط شديد بين فهم الواقع المعاصر، والذي يحتاج إلى منهجيات بحثية متقدمة لاستكشاف معالم الخريطة المعرفية المُعقَّدة للمجتمع العالمي، وبين النقد السياسي للمجتمع السوري أو المجتمع العربي بشكل عام، وما قد يكون فيه من قهر وبغي وظلم.
وهذه الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي لن يجدي في فهم تضاريسها "تأويل" لآيات القرآن الكريم ولا الأحاديث النبوية الشريفة. ذلك أنها تتضمن أول ما تتضمن ظاهرة الانتقال من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي، الذي ينتقل -ببطء وإن كان بثبات- إلى مجتمع المعرفة، مرافقاً في ذلك صعود اقتصاد المعرفة. وتتم هذه التحولات الحضارية الكبرى في المجتمع الإنساني في ضوء ظاهرة العولمة، التي هي عملية تاريخية كبرى لها تجليات سياسية واقتصادية وثقافية واتصالية. وإذا أضفنا إلى ملامح الخريطة المعرفية أن المجتمع الإنساني ينتقل من مرحلة الأمن النسبي إلى ما يسمى مجتمع المخاطر Risk Society، لأدركنا أننا أصبحنا نعيش في واقع معقد لا تغني الأطر الدينية التقليدية في فهمه. ومما يزيد من تعقيد الواقع الانتقال فلسفياً من تيار الحداثة الغربية الذي قامت على أساسه النهضة الأوروبية، إلى تيار ما بعد الحداثة الذي ينقد ويراجع عديداً من مُسلَّمات الحداثة.
ولعل ما سبق من ملاحظات يكشف عن القصور الشديد في "رؤية الإخوان المسلمين" في سوريا، مع أنهم يزعمون أنهم يقدمون "رؤية منفتحة". وقد يكونون على صواب نسبي إذا ما قورنت رؤيتهم بالرؤية المنغلقة للإخوان المسلمين في مصر، الذين يدعون في برنامج حزبهم السياسي المقترح إلى "ولاية الفقيه على الطريقة السُّنية" بتشكيل مجلس أعلى من الفقهاء، يراقب قرارات المجالس النيابية وقرارات رئيس الجمهورية التي يصدرها بقانون في غيبة انعقاد المجالس النيابية. غير أنه يمكن القول إن من بين إيجابيات المشروع السياسي للإخوان المسلمين في سوريا تحديدهم لسمات الدولة الحديثة التي يرونها، ولم يربطوها بأي مرجعية دينية إلا في السمة الأولى، مما يجعل من الميسور على الاتجاهات السياسية المختلفة أن تتوافق بصددها، وأن تدعو إلى ترسيخ مبادئها.
وذلك لأنه يمكن القول -بدون أدنى مبالغة- إن العرب لم ينجحوا حتى الآن في اختبار الحداثة السياسية! وبعبارة أخرى، فقد فشلنا كعرب في تأسيس الدولة الحديثة، لأننا عجزنا عن الوفاء بشروطها واستحقاقاتها. وهذه الدولة لابد أن تنهض على أساس دستور يحدد العلاقة بين الحكام والمحكومين، ويحكمها مبدأ تداول السلطة في ظل ضرورة تنظيم انتخابات دورية منتظمة رئاسية (في الدول الجمهورية) ونيابية ومحلية. وإذا أضفنا إلى ذلك ضمانات قانونية لحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، لأدركنا أن هذه الشروط مجتمعة تكاد تغيب في أي دولة عربية معاصرة!
وأياً ما كان الأمر، دعونا ننظر الآن إلى ملامح الدولة الحديثة التي يدعو إليها مشروع الإخوان المسلمين في سوريا. يقرر المشروع أن هذه الدولة الحديثة التي يدعو إليها تقوم على مجموعة من المرتكزات هي: دولة ذات مرجعية، ودولة تعاقدية، ودولة مواطَنة، ودولة تمثيلية، ودولة تعددية، ودولة تداولية، ودولة مؤسساتية، ودولة قانونية.
ويمكن القول ابتداء إن كل هذه السمات ما عدا مسألة "المرجعية" يمكن أن تكون محل توافق بين كل الاتجاهات والأحزاب السياسية، لأنها تمثل بالفعل المفردات الأساسية لبنية الدولة الديمقراطية. ويبدو أن موضوع "مرجعية الدولة" هو أساس الخلاف الشديد بين جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي وبين الدولة العربية المعاصرة من جانب، وبينها وبين اتجاهات وأحزاب سياسية عربية متعددة من جانب آخر. وهذه المرجعية يلخصها المشروع السوري في عبارة واحدة حين يقرر "أن الدولة الإسلامية دولة مدنية تتميز بمرجعيتها الإسلامية المنفتحة".
وبعيداً عن وصف المرجعية بالتفتح في نظر أصحابها أو بالانغلاق من وجهة نظرنا في بعض المشاريع الإسلامية، فمن المهم أن نعرف ما هي مكوناتها في نظر الإخوان السوريين؟ يتحدث المشروع عن "الخصوصية الإسلامية" التي لا يجوز -كما يقول- من الناحية المنهجية أن تحشرنا في إطار الدولة "الثيوقراطية"، ولا أن تقابل بالرفض المسبق.
وبالإضافة إلى الخصوصية الإسلامية التي لم يفصح المشروع بوضوح عن تعريفها، هناك ما يسميه "القانون الفطري" وهو: "منظومة القيم المكنونة في أعماق الفطرة الإنسانية: الحق والباطل، والخير والشر، والحسن والقبيح". ويلخص المشروع موضوع المرجعية بكونها ترتكز بوضوح "إلى هوية أمتنا العربية المسلمة وثوابتها".
ومشكلة هذه المرجعية أن الخصوصية الإسلامية أو هوية الأمة، خضعت لاجتهادات شتى من قبل تيارات إسلامية متعددة، تراوحت بين الوسطية وبين الغلو والتشدد الذي أدى من بعد إلى الإرهاب. ولذلك قد يكون من المناسب عدم ذكر هذه المرجعية أياً كانت الأوصاف التي ستعطى لها، اكتفاء بالدستور الذي يمكن النص فيه على مصادر التشريع كما فعل الدستور المصري في مادته الثانية، حين قرر أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع" والخطاب هنا موجه للمشرع أساساً.
وإذا انتقلنا إلى باقي ملامح الدولة الحديثة التي يدعو إليها المشروع السوري لوجدناه يذكر التعاقدية بمعنى أن الدولة تقوم على الاختيار الحُر المعبر عن إرادة الأمة، وأنها دولة مواطَنة، تقوم على أساس الحقوق المتساوية للجميع بغض النظر عن الدين، وهي دولة تمثيلية بمعنى اشتراك الشعب في اختيار حكامه ونوابه، وهي دولة تقبل بالتعددية. وتؤمن بتداول السلطة، وتقوم على المؤسسات، وهي دولة قانونية يحكمها مبدأ سيادة القانون. ومعنى ذلك أن كل السمات التي أوردها المشروع السوري للدولة الحديثة يمكن لكل الأحزاب السياسية العربية أن تقبلها، ما عدا موضوع "المرجعية" المُشكِل، سواء كانت مغلقة أو منفتحة!
لماذا لا نتخلى عن مفهوم "المرجعية الإسلامية" ونركز كما فعل المشروع المصري على "المرجعية الدستورية"؟ ألا يمكن القول إن كل الأحزاب السياسية المصرية وفقاً للدستور المصري في مادته الثانية مرجعيتها الشريعة الإسلامية؟ فليكن الدستور بنصوصه القاطعة هو الفيصل والحكَم، بدلاً من الشعارات الغامضة والصياغات المثيرة للجدل العقيم!
*الاتحاد الإماراتية