المؤتمرنت - الخليج -
الحج تجسيد لوحدة المسلمين وفضائل دينهم
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الحج: “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معدودات”.
فهل المسلمون الآن ينتفعون من موسم الحج الانتفاع الأمثل؟ وما المنافع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعود عليهم من هذه الرحلة المباركة؟ وهل الحج الآن يحقق أهدافه التعبدية والاجتماعية والسياسية في حياة المسلمين كما أراده الله سبحانه وتعالى وكما طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع؟
هذه التساؤلات وغيرها طرحناها على عدد من العلماء من خلال التحقيق التالي: في البداية يوضح د. محمد سيد أحمد المسير الأستاذ بكلية أصول الدين بالأزهر أن الحج فريضة إلهية تحيي ذاكرة الأمة، وتجدد آمال الشعوب الإسلامية، وتشحذ همم المسلمين، وتتعالى بنفس المؤمن وعقله إلى آفاق السمو الروحي والملأ الأعلى.
ويضيف: الحج ينبغي أن ينمي في المسلم الوعي بأهمية الأماكن المقدسة، فالمسلم عندما يحج ويذهب إلى مكة المكرمة لا ينسى المدينة المنورة، ويتوارد على عقله وقلبه بيت المقدس. فهذه الأماكن الثلاثة لها من الذكريات والمواقف والأحداث ما يجعلها دائما في بؤرة الشعور الإسلامي، ومن أكبر منافع الحج تأكيد الانتماء للوطن بعد الانتماء للدين، فالمسلم يرتبط في أداء مناسك الحج بالحرم المكي، وما فيه من شعائر كما يرتبط بالأماكن والمشاعر في عرفات ومنى والمزدلفة وغيرها، وكل هذا يعمق الانتماء للوطن ويدفع المسلم إلى التمسك بمقدساته، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى غرس الوعي لدى الأجيال المسلمة بحرمة هذه الأرض وقدسيتها، وأنها أمانة في أعناقنا.
إحياء الذاكرة
إن الحج كما يؤكد د. المسير ينبغي أن يغرس الوعي ويحيي الذاكرة، ويربي المسلم نفسا وبدنا، ويمنحه وعيا سياسيا وسلوكا اجتماعيا رفيعا، فهو يجدد في المسلم الولاء لله ورسوله والوفاء بعهد الله، والحفاظ على حرمة المساجد والاعتزاز بالوطن والحرص على كل ما يربطه بدينه ووطنه، وما يقربه من الله عز وجل.
إن كل من ينعم الله عليه بأداء هذه الفريضة ينبغي أن يقف طويلا أمام آيات القرآن الكريم يستشعر معناها ويلتمس أماكن نزولها ويتذكر أحداث تاريخها.
وإلى جانب غرس الانتماء للوطن والاعتزاز بالمقدسات يرى الدكتور المسير أن من أهم منافع الحج الاجتماعية قدرته على تربية المسلم تربية تقوم على القوة الرحيمة التي تعني التواضع وكظم الغيظ والحلم والأناة والرفق والتواضع وحسن الخلق. فالله سبحانه وتعالى يقول: “وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”، فهذه الصفات وإن كانت شعار المسلمين في كل وقت ومكان إلا أنها في الحج أكثر تأكيدا وإلزاما، فالقوة الرحيمة أو قوة الرحماء هي أسمى ما يتخلق به الإنسان وأعلى ما يهدف إليه المصلحون، وأعظم ما يفكر فيه العقلاء، وأبهى ما تراه العيون.
تعميق معنى الوحدة
د. محمد نبيل غنايم أستاذ الشريعة الإسلامية ومدير مركز الدراسات الإسلامية بجامعة القاهرة يؤكد أن من أبرز منافع الحج تعميق معنى الوحدة في حياة المسلمين، ففي الحج نرى معنى الوحدة واضحا في كل شيء.. وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، ووحدة في الهدف، ووحدة في العمل، ووحدة في القول، لا إقليمية ولا عنصرية، ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة، إنما حجاج بيت الله جميعا مسلمون، برب واحد يؤمنون، وبيت واحد يطوفون ولرسول واحد يتبعون، ومشاعر ومناسك الحج واحدة تؤلف بين القلوب وتجمع بين الصفوف.
ومن هنا والكلام للدكتور غنايم كان من أبرز فوائد الحج تجميع المسلمين على هدف واحد، وتوحيد مواقفهم تجاه الأحداث الكبرى التي تشهدها مجتمعاتهم، وما أكثر الأحداث التي تمر بالأمة الإسلامية الآن من احتلال للأوطان وصراعات سياسية، واستنزاف لخيرات وثروات المسلمين، والمسلمون مختلفون في كيفية المواجهة بل بعضهم يختلف ويتشاحن في أمور لا يختلف عليها العقلاء في كل أمة.
ويؤكد د. غنايم ضرورة توظيف موسم الحج لتحقيق الوحدة المأمولة بين المسلمين والتخلص من أسباب الشقاق والفرقة، ويقول: ما المانع أن يجتمع عقلاء الأمة من سياسيين ومفكرين وعلماء في مؤتمر عام قبل أداء الفريضة أو بعد الانتهاء منها وطرح كل القضايا المثيرة للجدل والخلاف للمناقشة والاتفاق على خطوط عريضة تحقق المصالح العامة للمسلمين؟ ولدينا الآن الكثير من الهموم والإشكاليات والنزاعات بين المسلمين مما يستحق طرحه للمناقشة والتوصل إلى حلول بشأنه.
تهذيب السلوك
الخبير الاجتماعي د. أحمد المجدوب أستاذ علم الاجتماع ومستشار المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية يؤكد أن عبادات الإسلام وشعائره تهدف كلها إلى خير المسلمين في الدنيا إلى جانب خيرها في الآخرة، فهي تربي المسلم الملتزم بآدابها وأخلاقياتها على الفضائل وتهذب سلوكه وتضبط تصرفاته، وبالتالي تحسّن العلاقة بينه وبين كل المحيطين به.
ويضيف: الفوائد أو المنافع الاجتماعية التي تعود على المسلم الذي يؤدي هذه الفريضة ويلتزم بآدابها وأخلاقياتها كثيرة جدا، وثمرة الحج الاجتماعية تظهر أولا في رحلته المباركة، وعلاقته بالإنسان والحيوان والنبات بل والجماد في كل مكان يذهب إليه منذ خروجه من بيته وحتى عودته إليه، فهو مطالب شرعا بالإحسان إلى كل من يتعامل معه، ولذلك نجد سلوكياته مثالية وعلاقاته بالآخرين طيبة، فلا يشتم ولا يظلم ولا يقسو على أحد، بل نجده متعاونا ودودا حريصا على كل سلوك طيب وكل عمل نافع واضعا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه” نصب عينيه.
أيضا نجد الحاج منضبطا في سلوكه في الأماكن المقدسة، فلا يعتدي على زرع ولا طائر ولا حيوان ولا يشارك في خطيئة الإضرار بالبيئة، وهذا كله يربي في المسلم الالتزام بالسلوكيات الفاضلة ويصرفه عن كل سلوك خاطئ لا يقره ديننا سواء أكان هذا السلوك ضد إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد.
وإلى جانب كل ذلك تربي تعاليم الإسلام وأخلاقياته في رحلة الحج المسلم على قيم حضارية سبق إليها الإسلام وتفوق بها على كل حضارات الأرض فتجد المسلم الحاج متعاونا مع الآخرين يساعد الضعيف ويعين المحتاج ويتدخل في الوقت المناسب لحل مشكلة أو إنهاء أزمة أو منع مشاجرة متوقعة بين اثنين أو أكثر من ضيوف الرحمن، وهذا واجب المسلم في كل وقت وفي أي مكان، ولكنه في رحلة الحج أكثر وجوبا.
أيضا تخلي المسلم طوال رحلته المباركة عن سلوكيات وأخلاقيات مذمومة مثل الغيبة والنميمة يساعد على نقاء قلبه، وصفاء نفسه، والارتقاء بمشاعره، فيعود من رحلته وهو أكثر نقاءً وصفاءً والتزامًا، ويكون الحج قد حقق نصف هدفه من هذه الرحلة، ويبقى النصف الآخر وهو مهم أيضا بل هو الأهم وهو التزام المسلم بعد حجه بأخلاقيات وآداب وفضائل الحج.
ومن المنافع الاجتماعية البارزة في رحلة الحج كما يوضح الدكتور المجدوب التلاقي والتعارف وتبادل الخبرات والثقافات والمعارف بين المسلمين، فالمسلم طوال هذه الرحلة وهو يلتقي إخواناً له من كل بقاع الأرض، يتعرف إليهم، ويستفيد منهم ويفيدهم بما لديه من معلومات وخبرات ومعلومات.
الصفاء النفسي
وعن المنافع النفسية للحج يؤكد د. أحمد عكاشة استشاري علم النفس أن أفضل ما يعود به الحاج من رحلته المباركة هو حالة الصفاء النفسي والتوازن المزاجي التي سيطرت عليه خلال رحلته منذ خروجه من بيته وحتى عودته، فالإنسان في هذه الرحلة يتخلص من كل همومه ومشكلاته ومشاغله حتى ولو كان هذا التخلص مؤقتا خلال الرحلة فقط، وهذا يساعد الإنسان على أن يعيش حالة نادرة من الصفاء والراحة النفسية تريحه من كثير من الهموم والمتاعب النفسية التي تسببها ضغوط الحياة المستمرة.
وإلى جانب ذلك تربي رحلة الحج في المسلم، بما فيها من متاعب وصعاب وإجهاد، فضيلة الصبر وتمرنه على تحمل كل المضايقات وكيفية الاعتماد على نفسه لحل مشكلاته، فضلا عن ضبط نفسه وسلوكياته وصرفه عن الانفعالات المرفوضة بما فيها من عصبية وسباب.
المنافع الاقتصادية
د. محمد عبد الحليم عمر أستاذ الاقتصاد ومدير مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر يؤكد أن المسلمين لم يستطيعوا حتى الآن توظيف موسم الحج بما يحقق المصالح الاقتصادية للمسلمين، ويقول: لقد أباح فقهاء الأمة توظيف موسم الحج بما يحقق المصالح الاقتصادية للمسلمين، ولكننا للأسف لم نستطع حتى الآن ترجمة ذلك إلى واقع عملي في حياتنا، فأصبح موسم الحج موسما للإنفاق واستيراد منتجات غذائية واستهلاكية وترفيهية وضرورية بالمليارات من دول غير إسلامية يعود نفعها الأكبر على غير المسلمين.
ويضيف: لو نظرنا إلى المنتجات الغذائية وغير الغذائية من ملابس وغيرها من مستلزمات الحاج وهداياه التي يعود بها لوجدنا أن معظمها تم إنتاجه في الصين وتايلاند وكوريا والهند وتايوان وسنغافورة وبلاد أوروبية عديدة بينما تظل منتجات الدول الإسلامية محدودة للغاية، وهذا يؤكد أن المسلمين للأسف يفضلون الاستهلاك على الإنتاج ولا ينتجون احتياجاتهم الضرورية حتى في رحلة الحج.
ويرى د. عمر أن المسلمين قادرون على إنتاج كل احتياجاتهم في موسم الحج، فقد تطورت الصناعات في بلاد إسلامية عديدة، وأصبحت قادرة على منافسة منتجات الدول غير الإسلامية، وهنا لا نعفي شركات التوزيع والتجارة في الدول الإسلامية من المسؤولية حيث لا تزال تعطي أولوية لمنتجات رخيصة ولا تتوافر فيها الجودة المطلوبة صنعت في الصين وغيرها من البلدان التي تحرص على إغراق أسواق البلاد الإسلامية بإنتاج رخيص وغير جيد يضر بالمستهلك ويضر بالصناعات الوطنية في الدول الإسلامية.