أحمد الحبيشي* -
لحظة الحقيقة
تشهد البلاد حاليا مناقشات وتجاذبات وحوارات واسعة على هامش المبادرة الرئاسية التي انطوت على مشروع متكامل لتعديلات دستورية تستهدف إصلاح شكل نظام الحكم وتطوير آليات العملية الانتخابية وزيادة مشاركة المرأة في العملية الديمقراطية الجارية في البلاد.. وفي الطريق الى إقرار هذه التعديلات تقترب لحظة الحقيقة، بعد أن تجاوزت الديمقراطية الناشئة في بلادنا مختلف المخاطر التي أحاطت بالحياة السياسية تحت تأثير مراهنات أحزاب ( اللقاء المشترك )
على إطلاق اللعبة العمياء لقوى الشارع، وتوظيفها بإتجاه الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية والمحلية في اليمن لعام 2006، والتحضير المبكر للإنتخابات البرلمانية القادمة التي ستجري قي عام 2009م القادم.
مما له دلالة عميقة أن يتزامن عرض مشروع التعديلات الدستورية مع لجوء أحزاب اللقاء المشترك للشارع على طريق التحضيرات المبكرة من الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة على حد سواء للإنتخابات البرلمانية القادمة التي ستشهدها اللاد في عام 2009 القادم، وما يترتب على ذلك من حراك سياسي مفعم بالحوارات واالتجاذبات التي إستنهضت مفاعيل العملية السياسية داخل المجتمع، وأحدثت تحولاً نوعياً في المشهد السياسي والحزبي العام لجهة التغيرات الحاصلة في خارطة الإصطفافات والتحالفات والمواقع، فيما تضاعف سجل الناخبين على نحو ٍ يؤهَّل الإنتخابات البرلمانية القادمة للإنطلاق بالمسيرة الديمقراطية الى ذرى جديدة، وتمكينها من التفاعل مع التحولات العميقة التي يشهدها العالم.
لا يعني ما تقدّم خلوّ الطريق الى انتخابات 2009 من بعض العوائق والمخاطر والتحديات التي تستوجب عملاً مثابراً من كافة القوى السياسية لإزالتها، وصولاً الى تأمين الأجواء الملائمة لإجراء إنتخابات نزيهة وشفافة، الأمر الذي يضع على عاتق هذه الأحزاب واجب الإتفاق على رؤية وطنية لإصلاح النظام السياسي والآليات الانتخابية، وبما يضمن مزيد من الديمقراطية والمسؤولية في آن واحد..
صحيح ان ثمة رواسب للثقافة الشمولية والنزعات الأحادية التسلطية ما زالت تمارس تأثيرها في وعي وسلوك بعض النخب الحزبية والسياسية القديمة، التي يستهويها خطاب الشعارات والمُطلقات، وتشتغل على التبشير بالأفكار، بدلاً من الإشتغال على البحث عن الحقيقة وإنتاج المعرفة وإكتشاف عالم الحقيقة الواقعي.. لكن هذه الرواسب والنزعات الموروثة تظل غير قادرة على مصادرة الميول الموضوعية لتطور المجتمع اليمني بإتجاه الديمقراطية التعددية، وإنضاج ثقافتها السياسية والتخلص من بقايا الأفكار القديمة ورواسب العادات والتصورات التي إرتبطت في الماضي بطرائق التفكير والعمل الشمولية، الأمر الذي يؤكد على أهمية الإتجاهات الجديدة التي تكونت بين صفوف الشباب داخل بعض الأحزاب السياسية الفاعلة، على طريق إعادة إكتشاف الواقع وصياغة مهمات قابلة للتحقيق.. بمعنى المراهنة على الفوز بالمستقبل، والتوقف عن الإشتغال على أوهام الإقامة الدائمة في الماضي !
ثمة متغيرات هامة ونوعية حدثت في المشهد السياسي العام للبلاد منذ أول إنتخابات قائمة على التعددية الحزبية 1993.. فقد تبدلت خارطة الإصطفافات والتحالفات والمواقع على نحو مثير للدهشة والتأمل، فيما تضاعف سجل الناخبين الذين يحق لهم الإشتراك في العملية الإنتخابية الى ما يزيد على ثمانية ملايين ناخب وناخبة، مقابل ثلاثة ملايين تقريباً في الإنتخابات السابقة، وهو ما يؤهل الإنتخابات البرلمانية القادمة بعد شهرين لتدشين منعطف تاريخي في خبرة الممارسة الديمقراطية والحياة السياسية عموماً.
يزيد من أهمية الإنتخابات القادمة التي تتهيأ لها البلاد انها تتم في ظروف محلية وإقليمية وعالمية تتسم بالتأثير المتزايد لقيم الديمقراطية والحرية والمشاركة في تقرير مصائر الشعوب والأمم والمجتمعات، وتعاظم الميول الرافضة للإستبداد والتسلط والهيمنة، سواء على مستوى العلاقات بين النظم السياسية ومجتمعاتها، أو على مستوى العلاقات بين الدول والحكومات في إطار المجتمع الدولي.
بين النقد والنقض
لا أبالغ حين أقول ان الأحزاب السياسية كلها مطالبة بعبور حقل الألغام الذي ينتظرها في الطريق الى لحظة الحقيقة يوم السابع والعشرين من ابريل القادم، حيث يتوجب تخليص الخطاب السياسي والإعلامي الحزبي خلال العملية الإنتخابية من رواسب ثقافة القمع والإقصاء والأحادية التي تمارسها الأحزاب بدون إستثناء وبصورة متبادلة تحت شعار الدفاع عن الحريات ومقاومة الممنوعات.
من حق كل حزب ان يمارس حريته في نقد الجميع، وعرض أفكاره وتسويق مشروعه السياسي بحرية تامة.. بيد أن النقد يفقد وظيفته الحرة حين يتحول من نقد الآخر الى نقضه، أي الى إلغائه !!
لعل أهم ما يميز النقد عن النقض هو أن الأخير يلغي الأول، امّا النقد فإنه لا يُلغي شيئاً، بل يفتح أفقاً حراً للتفكير، ويساعد على تغيير شروط العلاقة مع الآخر والإستماع الى الآراء والأصوات التي لم يكن مسموحاً الإستماع اليها.
لا يتم النقد في الفراغ بل يشتغل على أفكار ومشاريع وأدوات تتصل بالواقع وتسعى الى تغييره في آن واحد، وهو أمر لا يمكن حدوثه بدون التحرر من ديكتاتورية الشعارات التي تتمركز حول الذات وتتمترس وراء الأفكار.
لا أتهم حزباً أو مجموعةً من الأحزاب بديكتاتورية الشعارات والتمركز حول الذات وحراسة الأفكار.. فالجميع عرضة للوقوع تحت طائلة هذا الخطر الذي يعد عدوّاً لدوداً للعقل والحرية والحقيقة.. فلا يكفي ان يتداول أي حزب سياسي خطاباً إنتخابياً يكشف عن هويته السياسية او الفكرية او العقائدية، لأن الذي يقرر هوية هذا الحزب او ذاك هو نمط علاقته بذاته وبغيره، الى جانب طريقة تعامله مع الواقع والأفكار والأحداث.
لا ريب في ان الحياة السياسية العربية حفلت بمفارقات مذهلة خلال النصف الأخير من القرن العشرين المنصرم.. فثمة وسطيون مارسوا الوسطية بتطرف.. كما ان هناك تقدميين طبقّوا مشاريعهم التقدمية ثم أوصلوا مجتمعاتهم الى أوضاع أكثر رجعيةً وتأخرا وتخلفاً.. وهناك أيضاً قوميون وحدويون كرسوا التجزئة والطائفية والتشرذم الداخلي بممارساتهم (( القومية الوحدوية )).. اما الإسلاميون فسجلهم ملطخ بالدماء والممارسات الفاشية البربرية التي اساءت الى الإسلام والمسلمين وغير المسلمين، ثم تفرغوا بعد ذلك للصراع والقتال فيما بينهم من اجل غنائم السلطة ومفاسد الدنيا، حيث قاموا بإقصاء وتصفية بعضهم بعضاً بعد ان أقصوا الآخرين من قبل.. إن جميع هؤلاء كانوا نسخاً من بعضهم البعض، ولذلك اشتركوا في مشاريع فاشلة شهدت على أن القواسم المشتركة التي تجمعهم هي ضيق الأفق والتعصب العقائدي وقصور الأدوات المعرفية والإغتراب عن الواقع والتاريخ والعالم، وصولاً الى العجز عن إكتشاف الأبعاد المتنوعة للحقيقة.
مأزق خطاب المطلقات
ستجرى الإنتخابات القادمة على قاعدة جديدة من الإصطفافات والتحالفات التي أزالت المسافات بين أعداء الأمس الذين أصبحوا اليوم حلفاء وأصدقاء، وهذا شيئ محمود ولا تثريب عليه.. لكن الدرس الذي لا يجوز تجاهله هو ضرورة الإعتراف بأن المشاريع الحزبية القديمة إحترقت.. وإن أفكارها البالية فقدت جاذبيتها ومصداقيتها.. وعليه يجب ألا يغيب عن بال الجميع ان الناس لن ينخدعوا بالوعود والشعارات إذا لم يتخل أصحابها عن إضفاء القداسة على الأفكار والمشاريع السياسية التي يبشّرون بها ويدعون اليها، لأن الذين يقدسون أفكارهم وأحزابهم ومشاريعهم السياسية يكونون اول ضحاياها، سواء تغنت بالوطن او الأمة أو الدين أو الثورة أو الإشتراكية.. وأكثر السياسيين والمثقفين العرب الذين أخقفوا وإنتقدوا ماضيهم ، كانوا من المدافعين عن نُظم ٍ لم يكن لها من شاغل ٍ سوى التنكيل بخصومهم وتصفيتهم !!
ما ينبغي على الأحزاب أن تتداركه هو تجنب الوقوع في خطاب المُطلقات الذي يستهوي الأحزاب العقائدية غالباً، ومعظم أحزابنا من النوع العقائدي الذي يشتغل على الدعوة بدلاً من المعرفة.. ومن واقع تجارب الشعوب العربية مع الأحزاب العقائدية أصبح الحذر يلازم هذه الشعوب تجاه كل من يرفع شعارات الحرية ومكافحة الفساد والتصدي للغرب ((الإمبريالي)) والتحرر من ((التبعية)).. فليس كل من يرفع شعاراً فضفاضاً وصياً عليه وقادراً على تطبيقه.. وليس كل من يدعوا الى الى فكرة يزعم انها الحقيقة المطلقة قد أصبح موضعاً للثقة المطلقة بموجبها!!
يخطئ من يعتقد ان بإمكانه إستخدام الديمقراطية كوسيلة لإعادة إنتاج تجارب الأحزاب الشمولية العربية في الحكم، ومعظم أحزابنا إمتداد لها وإستعادة لذكراها وإشتغال على أفكارها وشعاراتها و نماذجها.. كما يخطئ أيضاً من يعتقد بإمكانية إستخدام الديمقراطية المعاصرة بهدف الإقامة الدائمة في العصور الوسطى، وإعادة إنتاج نصوصها وأصولها ونماذجها وأدواتها.. ان التعامل مع التجارب الشمولية في خطاب معظم أحزابنا يتم دائماً في نطاق « اللقاء المشترك «بين المُطلقات المشتركة ((الدفاع عن مصالح الأمة.. محاربة الإمبريالية.. الدفاع عن الوطن.. مواجهة اعداء الأمة وعملائهم.. حراسة الدين ومواجهة الكفر )).. ومن نافل القول ان المطلق يقود دائماً الى الأحادية والإستبداد والإرتهان للماضي !
ليست الأفكار او الشعارات الإنتخابية التي ستطرحها الأحزاب صافيةً ومطلقةً ومتعاليةً.. انها على العكس من ذلك نسبية ٌ ومتداخلة من حيث المشكلات التي تثيرها، ومنطوية ٌ على معانٍ غائبة، ولذلك يجب الا ّ نجعل من المعاني الغائبة سلطةً على العقل، ومصادرةً مكشوفةً للحقيقة، الأمر الذي يفرض على الجميع وبدون إستثناء واجب تحويل المباراة الإنتخابية التنافسية الى مناسبة لتعلُّم فن الحوار والإختلاف بين شركاء لا أعداء.. بين فواعل تعمل تحت الضوء من أجل التغيير وإستشراف المستقبل.. بين أبعاد متعددة لحقيقة نسبية لا يحتكرها أحد.
*26 سبتمبر